قبل كورونا كان «الموت الأسود»... قادماً من الصين

{نزل بالعمران وذهب بأهل الجيل} كما وصفه ابن خلدون

لوحة تمثل الطاعون في فلورنسا
لوحة تمثل الطاعون في فلورنسا
TT

قبل كورونا كان «الموت الأسود»... قادماً من الصين

لوحة تمثل الطاعون في فلورنسا
لوحة تمثل الطاعون في فلورنسا

عندما يفجع الناس بجائحة جديدة لا يعلمون منتهاها، فإنّها تميل إلى إضعاف قدرة كثيرين على التفكير العقلاني، وتدفعهم للعودة إلى طرائق الاستجابة الحزينة للعصور الوسطى في مواجهة الأوبئة: خليطٌ من التديّن المُفاجئ والتهيؤات الغريبة والنبوءات المتشائمة، وكثيرٌ من الصّلوات واللعنات، واليأس أيضاً. لكنّ الحقيقة أن هذا القاتل الذي يقف على أبواب المدن ويجتاحُ العالم اليوم أقل فتكاً بالبشر، بما لا يقاس بأوبئة تفشت في حقب تاريخيّة سابقة، وقضت على الملايين، دون أن يدرك أسلافنا ماهيّة العدوّ الذي يقتلهم، أو أن يمتلكوا ولو حدوداً دنيا من المعرفة بكيفيّة مواجهته، أو تجنب نقله للأصحاء، أو حتى تخفيف آلام التعساء الذين سقطوا في براثنه.
قبل كورونا، كانت هناك أوبئة كثيرة، أشرسها وباء الطاعون الأسود الذي نشر غلافاً كئيباً من الموت على مناطق شاسعة في أوروبا والشرق الأوسط، ووصل ذروته في السنوات ما بين 1347 و1351، آخذاً بطريقه ما بين 75 و200 مليون من البشر، وتاركاً مساحات شاسعة في الهند ووسط آسيا وأرمينيا وسوريا والعراق وفلسطين ومصر وأوروبا وشمال أفريقيا لغاية أوغندا مغطاة بالجثث والخراب.
وبحسب الوثائق التاريخيّة التي نجت من تلك الفترة، فإن الوباء كان قد انتقل على الأرجح من الصين عبر طريق الحرير إلى ميناء كافا في شبه جزيرة القرم التي كانت خاضعة وقتها لحكم جمهوريّة جنوى الإيطاليّة. ويبدو أن الجنود المغول الذين كانوا يحاصرون الميناء وحملوا الوباء معهم ألقوا بجثث المتوفين من فوق الأسوار، مما تسبب في تفشيه بين الجنويين. وحمل البحارة الذين فرّوا من الموت والحصار الوباء معهم إلى القسطنطينيّة أولاً، ثمّ صقليّة، حتى إذا ما وصلوا بلادهم مُنعوا النزول إليها، بعدما كانت سبقتهم الأنباء عن بضاعة الموت القادم من الشرق التي يحملونها معهم. إلا أن أحدهم تسلل من السفينة تحت جنح الظلام، فكانت الكارثة التي قضت على معظم السكان المحليين. انتقل المرض بعدها من جنوى إلى البندقيّة وفلورنسا وبقيّة إيطاليا، قبل أن يصل إلى فرنسا وإسبانيا والبرتغال وألمانيا ومعظم البرّ الأوروبي، إلى إنجلترا وآيرلندا غرباً، وروسيا وبلاد البلطيق شرقاً، والبلاد الإسكندنافيّة شمالاً، ليقضي خلال سنوات معدودة على ما يقرب من نصف سكان القارة في ذلك الوقت، بنحو لم تتعافَ معه قط. وفي الشرق الأوسط، وصل الوباء من القسطنطينيّة عبر البحر إلى الإسكندريّة، ومنها عبر غزة إلى المشرق حتى بغداد، وجنوباً نحو مكّة، وغرباً إلى المغرب، وشمالاً نحو أنطاكيّة التي حاول سكانها الفرار من الوباء إلى الأناضول، ليقضي معظمهم به في دروب الرّحيل.
وقد سجّل المؤرخ العربي ابن خلدون الذي فقد والديه وعدداً من أساتذته بالموت الأسود الكارثة التي ألمت بالعالم في زمنه: «نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة، من الطاعون الجارف، الذي تحيّف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، جاء للدول على حين هرمها، وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وقل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتوادعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها، وانتفض عمران الأرض انتفاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق الذي نزل به، مثل ما نزل بالمغرب، ولكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها. وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة وعالم محدث».
وانفرد صاحب كتاب «نفاضة الجراب» بالحديث عن وباء الطاعون الذي أصاب بلاد المغرب، فكتب يقول: «ووجدنا الطاعون في بيوتهم قد نزل، واحتجز منهم الكثير إلى القبور، واعتزل وبقر وبزل، واحتجز فلا تُبصر إلا ميتاً يخرج، وكميتاً إلى جنازة يسرج، وصراخاً يرفع وعويلاً بحيث لا ينفع، فعفنا الهجوم، وألفنا الوجوم، وتراوغنا عن العمران، وسألنا الله السّلامة من معرّة ذلك بالقرآن».
ورغم وجود روايات موثقة عن بشر تحدوا الخطر لانتشال الآخرين من فم الموت، فإن مقدّمة نصّ «الديكاميرون» الذي سجل فيه الإيطالي بوكاسيسيو شهادته على المرحلة (1358) يقول إن «الأخ كان يفرّ من أخيه، والقرينة من قرينها، بل وشهدنا أموراً لم تكن لتخطر على البال، إذ كان بعض الآباء أو الأمهات يفرّون بأنفسهم، ويتركون أبناءهم وحيدين ليلاقوا مصيرهم المحتوم».
وهناك شهادة من كاتب آخر مجهول، يقول فيها إن «قنوات البندقيّة المائيّة الجميلة امتلأت بالجثث التي كانت تُلقى من الشرفات»، فيما أعلن كليمنت السادس البابا المنفي إلى أفينيون بفرنسا نهر الرّون بأكمله مقبرة مفتوحة لضحايا الوباء.
وكان الفلكي سيمون دي كوفينو أوّل من أطلق على الوباء لقب «الموت الأسود»، في قصيدة له عام 1350، ليصبح بمثابة علم على كل طاعون، إذ أطلق كتاب تاريخ دنماركي نشر عام 1631 اللقب ذاته على تفشي الوباء في القرن السابع عشر، فيما وصل إلى اللغة الإنجليزيّة بداية من عام 1755.
وفي إنجلترا، مسح الطاعون الأسود بلدات الجنوب الغربي بأكملها عن الوجود، زاحفاً نحو لندن التي وصلها، وفق الشهادات، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1348. فلم يُطلّ العام الجديد إلا وقد روّع المدينة بالكامل، واضطرت السلطات إلى تخصيص حفر ضخمة على أطرافها لتكويم جثث الضحايا فيها. ووفق وثائق البلديّة، فإن لندن كانت تفقد يومياً 200 من سكانها على الأقل، سوى غير المسجلين من المشردين والمهمشين. وقد كتب راهب أغسطيني، يدعى هنري كينغتون، يصف تلك الفترة: «هناك موت يعمّ العالم بأجمعه. لقد تحولت معظم البلدات والنَجوع إلى أماكن مهجورة، بعد أن قضى سكانها عن بكرة أبيهم»، ويذكر كيف أن «الناس وكأنهم جنّوا، ولم تجد السلطات بداً من إجبارهم على التجمع في الكنائس، لعل رحمة الربّ تتنزل عليهم».
ووصف المؤرخ الفلمنكي جان دو أوتيرميوس أجواء مشابهة في مدينة ليج (بلجيكا الحاليّة)، مضيفاً أن اليأس ألمّ بالناس «حتى أن النسوة أفلتن لأنفسهن العنان بالعبث والفجور، ولم يعدن يبالين بشيء». وتظهر سجلات باريس أن العاصمة الفرنسيّة كانت تحصي ما لا يقل عن 800 جثة يومياً خلال فترة ذروة الوباء، فقضى نصف سكانها على الأقل، فيما يصوّر نصّ كتبه الشاعر الويلزي ليوان غيثين عام 1349 مأزق روحه في تلك الفترة، فيقول: «نرى الموت يتسرّب بيننا كما دخان أسود، طاعونٌ يستأصل الشباب، شبحٌ بلا جذور لا يرحم طلّة بهيّة، ولا يعفي من غضبه أحد».
وفي يوليو (تموز) 1348، وصل الوباء آيرلندا، بعد ستة أشهر من تفشيه بجنوى، فضرب موانئها قبل أن يعمَ الجزيرة بأكملها. وهناك يوميّات شديدة الأهميّة تسجّل وقائع تلك الأزمنة المظلمة، تركها راهب فرانشيسكي من بلدة كيلكيني، يدعى جون كلاين، تظهر أن العالم برمتّه كان يعيش الكارثة ذاتها، إذ يقول: «لم يتبقَ بيت في آيرلندا اكتفى الموت الأسود بخطف روح شخص واحد من أهله، إذ غالباً ما كان يأخذ في طريقه العائلة بأجمعها: الأبّ والأم والأبناء»، وسجّل أنّ دبلن فقدت 14 ألفاً من سكانها خلال خمسة أشهر، ودوّن أسماء 25 من رفاقه رهبان دروغيدا الذين قضوا نحبهم وهم يحاولون تقديم العون للذين يفارقون الحياة، كما أسماء 23 آخرين من دير آخر في دبلن.
ويبدو أن الرّاهب كلاين كان يعتقد أنّه يشهد نهاية العالم رأي العين، إذ يقول: «خشية أن تنقرض الكتابة بموتي، وألا أقوم بواجبي، فسأستمر بتدوين هذه اليوميّات التي بدأت بها، لربما يجدها رجل قد ينجو بالصدفة من الموت القاسي، أو يتبقى بعدي في الدنيا أحد من نسل آدم». وبالفعل، تستمر اليوميّات لبعض الوقت، قبل انقطاعها فجأة وبلا مقدمات، بعد بداية عام 1349. ليخط آخر سطر فيها شخص آخر، اكتفى بالقول: «يبدو أن المؤلف قد قضى نحبه».


مقالات ذات صلة

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

يوميات الشرق زاهي حواس (حسابه على فيسبوك)

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

أكد الدكتور زاهي حواس، أن رفض مصر مسلسل «كليوباترا» الذي أذاعته «نتفليكس» هو تصنيفه عملاً «وثائقي».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

وجد علماء الأنثروبولوجيا التطورية بمعهد «ماكس بلانك» بألمانيا طريقة للتحقق بأمان من القطع الأثرية القديمة بحثًا عن الحمض النووي البيئي دون تدميرها، وطبقوها على قطعة عُثر عليها في كهف دينيسوفا الشهير بروسيا عام 2019. وبخلاف شظايا كروموسوماتها، لم يتم الكشف عن أي أثر للمرأة نفسها، على الرغم من أن الجينات التي امتصتها القلادة مع عرقها وخلايا جلدها أدت بالخبراء إلى الاعتقاد بأنها تنتمي إلى مجموعة قديمة من أفراد شمال أوراسيا من العصر الحجري القديم. ويفتح هذا الاكتشاف المذهل فكرة أن القطع الأثرية الأخرى التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ المصنوعة من الأسنان والعظام هي مصادر غير مستغلة للمواد الوراثية

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

يُذكر الفايكنغ كمقاتلين شرسين. لكن حتى هؤلاء المحاربين الأقوياء لم يكونوا ليصمدوا أمام تغير المناخ. فقد اكتشف العلماء أخيرًا أن نمو الصفيحة الجليدية وارتفاع مستوى سطح البحر أدى إلى فيضانات ساحلية هائلة أغرقت مزارع الشمال ودفعت بالفايكنغ في النهاية إلى الخروج من غرينلاند في القرن الخامس عشر الميلادي. أسس الفايكنغ لأول مرة موطئ قدم جنوب غرينلاند حوالى عام 985 بعد الميلاد مع وصول إريك ثورفالدسون، المعروف أيضًا باسم «إريك الأحمر»؛ وهو مستكشف نرويجي المولد أبحر إلى غرينلاند بعد نفيه من آيسلندا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

لا تزال مدينة مروي الأثرية، شمال السودان، تحتل واجهة الأحداث وشاشات التلفزة وأجهزة البث المرئي والمسموع والمكتوب، منذ قرابة الأسبوع، بسبب استيلاء قوات «الدعم السريع» على مطارها والقاعد الجوية الموجودة هناك، وبسبب ما شهدته المنطقة الوادعة من عمليات قتالية مستمرة، يتصدر مشهدها اليوم طرف، ليستعيده الطرف الثاني في اليوم الذي يليه. وتُعد مروي التي يجري فيها الصراع، إحدى أهم المناطق الأثرية في البلاد، ويرجع تاريخها إلى «مملكة كوش» وعاصمتها الجنوبية، وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد نحو 350 كيلومتراً عن الخرطوم، وتقع فيها أهم المواقع الأثرية للحضارة المروية، مثل البجراوية، والنقعة والمصورات،

أحمد يونس (الخرطوم)
يوميات الشرق علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

اتهم علماء آثار مصريون صناع الفيلم الوثائقي «الملكة كليوباترا» الذي من المقرر عرضه على شبكة «نتفليكس» في شهر مايو (أيار) المقبل، بـ«تزييف التاريخ»، «وإهانة الحضارة المصرية القديمة»، واستنكروا الإصرار على إظهار بطلة المسلسل التي تجسد قصة حياة كليوباترا، بملامح أفريقية، بينما تنحدر الملكة من جذور بطلمية ذات ملامح شقراء وبشرة بيضاء. وقال عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس لـ«الشرق الأوسط»، إن «محاولة تصوير ملامح كليوباترا على أنها ملكة من أفريقيا، تزييف لتاريخ مصر القديمة، لأنها بطلمية»، واتهم حركة «أفروسنتريك» أو «المركزية الأفريقية» بالوقوف وراء العمل. وطالب باتخاذ إجراءات مصرية للرد على هذا

عبد الفتاح فرج (القاهرة)

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية
TT

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

صدر حديثاً عن «محترف أوكسجين للنشر» في أونتاريو كتابٌ جديد بعنوان: «العودة إلى متوشالح - معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» للكاتب المسرحي الآيرلندي جورج برنارد شو، وقد نقله إلى العربية المترجم السوري أسامة منزلجي. ويأتي الكتاب ضمن سلسلة «أوكلاسيك»، (أوكسجين + كلاسيك = أوكلاسيك) التي يسعى من خلالها المحترف إلى «تقديم الكلاسيكيات بنهج جديد ومغاير عماده الاكتشاف وإعادة الاكتشاف»، وجاء الكتاب في 352 صفحة.

من التقديم:

«نحن هنا أمام كتابٍ يتخذ فيه برنارد شو من المسرحية والحوار والنقد السياسي طريقاً نحو البشرية وهي تعيش إحدى لحظاتها التاريخية الأكثر دماراً، ولنَكُن بعد قراءة الاستهلال حيالَ نظرياتٍ فلسفية وسياسية وأدبية تدفعنا للتفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم وقد أمسى نموذج الحضارة على المحك، اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، فلا محيد عن الكوارث التي يُلحقها الإنسان بنفسه وبالطبيعة. فما الذي يحتاج إليه ليصبح أكثر نضجاً وحكمةً؟ يفترض شو أن ثلاثة قرون أو أكثر من عمر الإنسان كفيلة بأن تجعله يبلغ كماله العقلي في مسار تطوّرهِ وتحقيقه غايات وجوده السامية، فهل الامتداد الأفقي للزمن يحقق ذلك؟ من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ هذا ما يقدمه لنا كتاب (العودة إلى متوشالح) كونه كتاباً يتحدّى الفناء! منطلقُه الأزل ومنتهاه الأبد. يبدأ من آدم وحواء في جنة عدن، وينتهي في عام 31920 ميلادي وقد أمسى بمقدور الإنسان العيش لما يتجاوز الثلاثمائة عام، وصولاً إلى ولادته من بيضة! إنه كتاب عصيٌّ على التصنيف، له أن يجسد تماماً ماهية (الخيال العلمي)، بوصف الخيال مع جورج برنارد شو (1856 - 1950)، يستدعي العلم والفلسفة والفكر بحق، مقدّماً هجائية كبرى لداروين والانتقاء الظرفي، مفضلاً تسميته الانتقاء التصادفي، فإذا استطعنا أن نُثبت أنَّ الكون بأكمله خُلِقَ عبر ذلك الانتقاء، فلن يطيق عيش الحياة إلّا الأغبياء والأوغاد.

يتخذ الكتاب معبره إلى الخيال من حقيقة أن البشر لا يعيشون مدةً كافية، وعندما يموتون يكونون مجرد أطفال، واجداً في لامارك والنشوء الخلّاق سنده، لنكون حيال عملٍ خالدٍ، لا هو مسرحية ولا رواية، بل مزيج بينهما، مسرحية تُقرأ ولا تُجسّد، ورواية يتسيّدها الحوار...

حملت المسرحيات الخمس العناوين التالية: (في البدء)، و(مزمور الأخوان بارناباس)، و(الأمر يحدث)، و(مأساة رجل عجوز)، و(أقصى حدود الفكرة)، وعبر حوارات عميقة حول مكانة العلم والتطور والفن والإبداع يسافر بنا برنارد شو عبر الأزمنة ليناقش الأفكار التي يطرحها أبطاله منذ آدم وحواء مروراً بالزمن الحاضر، ومضيّاً نحو المستقبل البعيد وقد وصلت البشرية إلى ذروتها، وتخلَّص الناس من الحب والجنس والعاطفة، وأصبحوا كائنات منطقية خالصة! لكن عبقرية برنارد شو في هذا الكتاب تكمن في تعامله مع فكرة الخلود، بحيوية وسخرية، مستكشفاً العواقب النفسية لطبيعة العقل البشري الذي يحتاج إليه الإنسان ليعيش ألف عام ويحكم نفسه بنفسه، ويتخلّص من الصراع والحروب والآفات التي تبدأ به وتنتهي بإفنائه»

جورج برنارد شو، كم هو معروف، كاتب مسرحي وروائي ومفكّر وناشط سياسي آيرلندي، وُلد في دبلن عام 1856 وتوفي عام 1950. عُرف بآرائه الساخرة المثيرة للجدل، ونزوعه التقدمي والرؤيوي، واشتراكيته الفابية. ألّف 5 روايات، و60 مسرحية، ضمّنها أفكاره ومقارباته السياسية والتاريخية والفلسفية، عدا عن مئات المقالات والمقدمات الفكرية لأعماله. من مسرحياته: «السلاح والإنسان»، 1894، و«الإنسان والسوبرمان»، 1903، و«بجماليون»، 1913. حين فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1925 رفضها، قائلاً: «أستطيع أن أسامح نوبل على اختراعه الديناميت، لكنْ وحده شيطان بهيئة إنسان من كان بمقدوره اختراع جائزة نوبل»، لكنه عاد وقبل الجائزة بشرط ألا يتلقى قيمتها المالية.

أما أسامة منزلجي فهو مترجم سوري له كثير من الترجمات مثل رواية «ربيع أسود»، 1980، و«مدار السرطان» و«مدار الجدي» وثلاثية «الصلب الوردي»، لهنري ميللر، و«أهالي دبلن» لجيمس جويس، و«غاتسبي العظيم» و«الليل رقيق» و«هذا الجانب من الجنة» لسكوت فيتزجيرالد، ومسرحيات وروايات لتينسي وليامز وبول أوستر وفيليب روث وتيري إيغلتون وآلي سميث وإريكا يونغ.