ربما لم يسبق للعالم أن انغلق على نفسه كما يحدث اليوم، أعداد هائلة من البشر ترزح تحت نير سجن كبير بألوان مختلفة وبغرف كثيرة، الكل يغلق الباب على نفسه خوفاً من رسائل الموت، الموقعة باسم قاتل مجهول غير مرئي وغير مفهوم حتى الآن، الجميع يضرب عن خطى الطرقات التزاماً بما تمليه ظروف الجائحة الكونية.
يتوحش العالم بالوباء، فنعود نحن إلى البيت... نعود إلى البيت، لا إلى أي مكان آخر، إنها حالة فطرية تجعلنا نستشعر في هذا المكان دون غيره كل أحاسيس الأمان والهدوء والشعور اللذيذ بالسكينة، كما يقول الكاتب المسرحي الأميركي تشانينج بولوك: «البيت سيظل أفضل الأماكن على كوكب الأرض».
رمزية البيت كمكان أو كبيئة حاضنة للطمأنينة تنبع أساساً من تفاصيله الكامنة خلف الشكل، والتي لا تفصح عن ملامحها إلا في حالات الضرورة الطارئة، في الخوف والحزن، وفي حالات أخرى من اللذة والفرح... هذا الموطن الصغير بهوامشَ متّسعة حيث تولد أولى الأفكار وأكثرها حميمية، هو موطنٌ أرحَبُ من حدود الجدران.
وفي حالة الحجر الصحي التي يعيشها العالم اليوم، يصبح البحث عن عناصر الحياة المتاحة أمراً ملحاً للغاية، إنها عناصر حيوية ذات قيمة عليا، لكنها لا تنبع من الخارج كما جرت العادة، بل تولد الآن من رحم هذا الداخل الضيق... من قفص البيت. وقد يكون للأدب والفن واللمسات المبدعة في الطبخ والديكور، حتى الحركات الرياضية، دور بارز في كسر حاجز الفراغ الذي بات يحاصر مليارات البشر المحتجزين في رقعة جغرافية محدودة، يتسع فيها صخبُ الصمت، وتصبح فيها خيوط الزمن متشابكة ومتشابهة وبلا معنى.
قبل أيام فقط، صرّح عالم الاجتماع الفرنسي الشهير، ألان تورين، قائلاً؛ إن فيروس كورونا جعلنا نعيش اللّامعنى في بيوتنا!
كان تورين يقصد حالة القلق الصامت المعجون بالخوف والمدفوع بالريبة، وهي أحاسيس مركبة يشعر بها الإنسان اليوم في غمرة الذهول، ولا سيما وهو يجد نفسه فجأة وبصفة دراماتيكية أمام أسوأ سيناريو يعشيه منذ الحرب العالمية تقريباً. حالة اللّامعنى تلك، تنبع من عدم معرفته لما يجري على نحو صحيح، فهو لا يعرف عن فيروس كورونا أكثر مما التقطَتْهُ الأسماع من عموميات طبية متباينة وغير حاسمة، وهو لا يعلم ما إذا كان العالم قادراً على كبح جماح هذا العدو الغريب في أفق منظور، أم أن الأمر سيدوم طويلاً، كما أنه لا يعرف على وجه الدقة كيف سيتغير العالم من حوله حين يرحل الوباء، وكيف سينعكس ذلك على حياته الخاصة... يكتفي هذا الإنسان التائه بالجلوس في بيته معزولاً عن الآخرين بقوة التباعد الصارم، وفي خانة ضيقة من الحجر المفروض عليه، متجرداً من اليقين تماماً وممسكاً بالخوف والانتظار، يجلس في الداخل كي ينجو مما لا يعرفه في الخارج!
وفي البيت، تجول المخيلة في مسارات بعيدة من الصور التي تستعيدها الذاكرة، كي لا تقع في شرَك العدم أو كي لا يسقط الأفق، وحين تشحُّ الصور تحت ضغط القلق أو أمام فقر التجربة، يصبح الخيال نشيطاً، وهو يلبي دعوة الأمل بالغناء، كما فعل الإيطاليون من شرفاتهم، مرددين أناشيد الانتصار حين كانت أرقام الوفيات في ذروتها، أو بحملات الصور الإيجابية التي أغرقت مواقع التواصل الاجتماعي كنوع من السخرية الجماعية القوية، أو بتبادل التصفيقات بين الماكثين في بيوتهم وبين أولئك العاملين في ساحة المعركة من شرطة وأطباء وعمال نظافة. من هنا، كان الجلوس في البيت عنصراً محرضاً على اكتشاف الأفراد لعادات جديدة، أو لإعادة إحياء الميت منها والمنسي. كل ذلك يحدث من وحي هذه الصلة المستجدة بين الأفراد ومنازلهم، في إطار عزلة من نوع خاص، فرضتها الضرورة، لكنها في المقابل، حرّضت عوامل الإبداع على السعي لامتلاك مزيد من الخيارات لمواجهة الأزمة، لقد كانت العزلة على الدوام خياراً مُلهماً... ربما نستحضر الآن بوعي أكبر وصيةَ نيتشه للإنسان الحكيم؛ سارع إلى عزلتك يا صديقي!
لقد أصبح الوباء شبحاً غادراً يتربص بالأحبة والأقربين ممن أُجبر ذووهم على الابتعاد عنهم كشكل من أشكال الوقاية القاسية. الشباب والشيوخ جميعهم في البيت، في تلك اللحظات الحاسمة يصبح البيت رحيماً وقاسياً، فيه تسكن الهشاشة، وتتوحش أكثر بمشاعر الخوف والقلق على الآخرين الضعفاء، تماماً مثلما يتعاظم القلق على الذات! كل ذلك يحدث في البيت الذي يصبح في لحظة ما مَركزاً لاستقبال الهواجس القاتلة، فهي تنطلق منه وإليه تعود... «كُلُّ ظَلامٍ سيعود إلى البيت ليحلُمَ ذاتَ الحلم؛ وطنٌ وصغارٌ وسلام، كُلُّ ظلامٍ سيعودُ بلا جدوى لينام»، تقول الشاعرة الكويتية سعدية مفرح.
في البيت أيضاً ينمو شعور مسالمٌ بالفراغ والهشاشة والحيادية التامة أمام الظواهر والأشياء، في الحالات العادية، تكون للأمر علاقة مباشرة بالرتابة، فمن المنطقي جداً أن يضجر الإنسان بعد مكوثه الطويل في المنزل بلا حافز. كان درويش يقول: «في البيت أجلسُ، لا سعيداً لا حزيناً، بين بينَ، ولا أُبالي». لكن هذه الحالة الاستثنائية التي نعيشها اليوم بكل تفاصيلها، تمنح البيت جاذبية خاصة لا نظير لها، جاذبية لا تسحقُها الرتابة ولا يجحدها الحالمون بترَف الخروج، إنها جاذبية متقشّفة وعميقة تنبع من مسافة الأمان التي يأخذها الشخص مع الخارج بمعطياته المخيفة، لذا فإن الشوق للحظة الخروج من الحَجْر لا تدعمه الآن الرغبة في مواجهة الخطر الذي يتربص بمن يغادرون بيوتهم. الآن لن تصحّ مقولة جورج برنارد شو: «أكره الشعور بأنني في البيت عندما أكون خارجاً!» على العكس من ذلك، سيحبّ الناس منازلهم أكثر... حتى وهم يحلمون بأضواء الخارج.
- شاعر وكاتب مغربي