أطباء العالم يتصدرون الصفوف الأمامية في الحرب على «كوفيد ـ 19»

طواقمهم تعاني من نقص المعدات الوقائية... وغوتيريش يدعو إلى الاعتراف بجهودهم

ممرضة مرهقة في قسم العناية المركزة خلال نوبة ليلية في مستشفى قريب من باريس أول من أمس (إ.ب.أ)
ممرضة مرهقة في قسم العناية المركزة خلال نوبة ليلية في مستشفى قريب من باريس أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

أطباء العالم يتصدرون الصفوف الأمامية في الحرب على «كوفيد ـ 19»

ممرضة مرهقة في قسم العناية المركزة خلال نوبة ليلية في مستشفى قريب من باريس أول من أمس (إ.ب.أ)
ممرضة مرهقة في قسم العناية المركزة خلال نوبة ليلية في مستشفى قريب من باريس أول من أمس (إ.ب.أ)

من الطبيب الصيني الذي دق ناقوس الخطر من وباء «كورونا»، إلى الممرضات والأطباء في مستشفيات أوروبا وأميركا، تحارب طواقم العالم الطبية جائحة «كوفيد - 19» من الصفوف الأمامية، مفتقدة في العديد من الأحيان لأبسط المعدّات الوقائية.
ووجّهت نقابات طبية نداء استغاثة في مختلف دول العالم، مطالبة حكوماتها بضرورة توفير الكمامات والبدلات الوقائية، والمعقمات، وأجهزة الكشف عن الفيروس. ودعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أمس إلى الاعتراف بجهود الأطباء والممرضات الذين يكافحون جائحة فيروس كورونا، والتفكير في الأشخاص الأكثر ضعفاً. وأضاف غوتيريش في رسالة مصوّرة: «دعونا نفكر بشكل خاص في الأبطال العاملين بالمجال الصحي على الخطوط الأمامية لمحاربة هذا الفيروس المروع، وفي كل أولئك الذين يعملون على الحفاظ على سير الحياة بمدننا وبلداتنا». وتابع: «دعونا نتذكر الأشخاص الأكثر ضعفاً حول العالم... أولئك الذين هم في مناطق الحروب ومخيمات اللاجئين والأحياء الفقيرة وجميع الأماكن الأقل تجهيزاً في مكافحة الفيروس».

- غضب بريطاني

برزت في الأيام الماضية انتقادات حادة للحكومة البريطانية، على خلفية ندرة المعدات الوقائية في مستشفيات البلاد. وقالت وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل، أمس، إنها تأسف إذا كان العاملون الصحيون يشعرون بأن هناك إخفاقات في الحصول على معدات الوقاية الشخصية خلال قيامهم بمكافحة فيروس كورونا.
واشتكى أطباء وممرضون رسمياً من أن هناك نقصاً في معدات الوقاية الشخصية للعاملين في المكافحة المباشرة للمرض، وعندما سئلت وزيرة الداخلية مباشرة إن كانت تعتذر عن ذلك قالت: «متأسفة إذا كان الناس يشعرون بأن هناك إخفاقات». وأضافت: «من المحتم أن الطلب والضغوط على معدات الوقاية الشخصية ستكون استثنائية، وستكون عالية بشكل متزايد»، كما نقلت وكالة «رويترز». جاء ذلك بعد ساعات من تحذير نقابات الأطباء والتمريض في بريطانيا من أن أفرادها الذين يعالجون المصابين بمرض كوفيد - 19 مهددون بالعدوى بسبب نقص معدات الوقاية. من جهته، قال وزير الصحة مات هانكوك، أول من أمس، إن هناك معدات كافية لكن الأمر يتطلب جهداً لوجيستياً «ضخماً» بدعم من الجيش لضمان وصول معدات الوقاية الشخصية إلى العاملين في طليعة مكافحة الفيروس.وأضاف أنه تم تسليم 761 مليون قطعة من معدات الوقاية حتى الآن.
وقالت الجمعية الطبية البريطانية، التي تمثل الأطباء، إن الإمدادات الحالية في لندن ويوركشير في شمال إنجلترا غير كافية، مضيفة أن الأطباء يواجهون قراراً «يفطر القلب» بشأن ما إن كان عليهم علاج المرضى دون وقاية كافية، وبالتالي يعرضون أنفسهم للخطر. وتوفي 19 من العاملين في هيئة الصحة الوطنية، منهم 11 طبيباً، جراء الإصابة بكورونا. وقال هانكوك إن الحكومة ليس لديها أي علم بوجود صلة بين حالات الوفاة المذكورة ونقص المعدات.
في المقابل، كشف مسح أجرته الجمعية الطبية البريطانية هذا الشهر أن أكثر من نصف الأطباء البريطانيين أبلغوا عن نقص أو عدم توفر الكمامات الواقية. وقال هانكوك إن معدات الوقاية الشخصية ينبغي أن تعامل على أنها «مورد ثمين» وألا تهدر دون داع، وناشد المصنعون البريطانيون استخدام خطوط إنتاجهم لصناعة المزيد منها.
وقالت كلية التمريض الملكية إن تلميح هانكوك بشأن تبديد معدات الوقاية الشخصية «يثير الغضب». فيما اعتبر زعيم المعارضة العمالية، كير ستارمر، على «تويتر» أنه «من المهين جداً التلميح بأن العاملين على الخطوط الأمامية (لمكافحة الفيروس) يبددون معدات الوقاية الشخصية».

- «ساحة حرب» أميركية

يشعر الأطباء وطواقم التمريض بالولايات المتحدة، الذين يتصدرون المعركة ضد فيروس كورونا المستجد بالصدمة من الضرر الذي يلحقه الفيروس بالمرضى وأسرهم، وبأنفسهم. ووصف أطباء وأفراد من طواقم التمريض إحباطهم من نقص المعدات ومخاوفهم من نقل العدوى إلى أسرهم، ولحظات اليأس الشديد التي مروا بها وانهمرت فيها دموعهم.
وشبّهت أرابيا موليت، طبيبة الطوارئ المتخصصة في الأمراض الباطنية، في حديث مع «رويترز» مكان عملها بـ«ساحة حرب طبية». وقالت: «نحاول الاستمرار دون أن نغرق. نحن خائفون. نحاول أن نحارب من أجل حياة الآخرين، لكننا نحارب من أجل حياتنا أيضاً». وهناك شح في إمدادات أسطوانات الأكسجين وأجهزة التنفس الصناعي، فضلاً عن مستلزمات الحماية الشخصية.
من جهتها، روت ممرضة في سياتل أنها لا تتحدث عن عملها الجديد في المنزل حتى لا يشعر أطفالها، وهم في سن الذهاب إلى المدرسة، بالقلق، مضيفة أن زوجها لا يفهم طبيعة عملها ويطلب منها رفض المهام التي قد تعرضها للخطر. وقالت: «ما أفكر فيه هو أن الأمر ليس آمناً بالفعل في رأيي». لكنها تخشى عزلها عن أسرتها إذا أصيبت بالفيروس. وقالت: «سأعيش في سيارتي إذا اضطررت لهذا. لن أنقل المرض لأسرتي».
في هذا السياق، أكّد محققون تابعون لوزارة الصحة الأميركية أن «المستشفيات أبلغت عن نقص كبير في معدات الحماية الشخصية مما يعرض العاملين والمرضى للخطر»، وأضافوا: «المستشفيات تبلغ باستمرار عن انتظار يصل إلى سبعة أيام أو أكثر لظهور نتائج التحليلات».

- إيطاليا تفقد 100 طبيب

أودى فيروس كورونا المستجد في إيطاليا بحياة حوالي مائة طبيب في هذا البلد الذي تجاوزت حصيلة الوفيات بالمرض فيه 18 ألفا، حسبما أعلنت نقابتهم لوكالة الصحافة الفرنسية الخميس. وقال المكتب الإعلامي للاتحاد الوطني لنقابة أطباء الجراحة والأسنان: «لدينا عدد الأطباء الذين توفوا بسبب كوفيد – 19، يبلغ مائة وربما 101 حاليا للأسف». ووضع الموقع الإلكتروني للاتحاد شريطاً أسود تعبيراً عن الحداد، وذكر أسماء كل الأطباء الذين توفوا، وبينهم عدد من المتقاعدين الذين تم استدعاؤهم لمساعدة الخدمات الصحية التي فاق عدد المرضى قدرتها. وكتب رئيس الاتحاد فيليبو أنيلي: «لا يمكننا أن نسمح بعد الآن بإرسال أطبائنا وعاملينا الصحيين لمكافحة الفيروس بلا وسائل حماية». وأضاف: «إنها معركة غير متكافئة تؤلمنا وتؤلم مواطنينا وتضر بالبلاد». إلى ذلك، أفادت وسائل الإعلام الإيطالية بأن حوالي ثلاثين ممرضاً وممرضة ومساعداً طبياً توفوا بالفيروس أيضاً. وقال المعهد العالمي للصحة إن حوالي عشرة في المائة من المصابين هم من أفراد الطواقم الطبية.
وقالت رئيسة نقابة الممرضين بربارا مانجاكافالي إن «هدفنا هو مساعدة المرضى (...) ونحن نبرهن على ذلك في هذا الوباء». وأضافت أن «الممرضين يمثلون 52 في المائة أو أعلى نسبة مئوية بين المصابين بالمرض من المعالجين الصحيين». وتابعت أن «بين الممرضين هناك من يموتون جراء كوفيد - 19 بسبب تقربهم من المرضى، وهم يفعلون ذلك بلا تردد».

- إضراب باكستاني

دخل أطباء باكستانيون يعملون بمستشفيين في مدينة كويتا جنوب غربي البلاد في إضراب اليوم هذا الأسبوع، بعد لجوء الشرطة إلى استخدام القوة لتفريق واعتقال أطباء وطواقم طبية كانوا يتظاهرون احتجاجاً على نقص معدات الحماية من فيروس كورونا المستجد.
وتجمع مئات الأطباء والمسعفين الاثنين الماضي للاحتجاج على ما وصفوه بتقاعس الحكومة عن تسليمهم الإمدادات التي تعهدت بها، وفق «رويترز». واعتقلت شرطة مكافحة الشغب 30 طبيباً على الأقل لتحديهم حظر التجمعات العامة الذي فرض خلال فترة مكافحة انتشار الفيروس.

- إغلاق مستشفى هندي

تم إغلاق مستشفى خاص كبير في بومباي أمام مرضى جدد، وأُعلن منطقة يتم فيها احتواء فيروس كورونا المستجد بعد أن أكّدت فحوص إصابة 26 من الممرضين وثلاثة من الأطباء بالفيروس القاتل. ومنذ بدء انتشار الفيروس في الهند الخاضعة لإجراءات عزل منذ 25 مارس (آذار)، يشتكي أفراد الفرق الطبية من نقص في مستلزمات الوقاية الضرورية.
وقال المتحدث باسم سلطة مدينة بومباي، فيجاي خابالي - باتيل، لوكالة الصحافة الفرنسية إن مستشفى ووكهارت أُعلن «منطقة احتواء الوباء» بعد تأكيد الحالات. وأضاف: «وُضع 300 موظف في الحجر الصحي، وتم إغلاق المستشفى».
واتهمت نقابة الممرضين المتحدين في بومباي إدارة المستشفى بالإخفاق في حماية الطواقم، برفضها السماح لهم بارتداء لوازم الحماية الضرورية. وقال أكاش بيلاي أمين عام النقابة عن ولاية ماهاراشترا التي تضم بومباي: «أوعزوا لأفراد الفرق الطبية بارتداء كمامات (طبية) عادية... والانصراف للعناية بالمرضى». وأضاف للوكالة الفرنسية: «كانوا يظنون أنه إذا ارتدى أفراد الطواقم مستلزمات الحماية، سيشعر أفراد عائلات مرضى كوفيد - 19 بالخوف». وتابع: «العديد من المستشفيات المعروفة في بومباي وبيون تعرض فرقها للمخاطر نفسها». وتابع أن مستشفى ووكهارت تأخر كثيرا قبل أن يبدأ بإجراء الفحوص على موظفيه ما زاد من احتمال انتشار العدوى.

- تدهور الصحة النفسية

وسط النقص في المعدات الطبية ومعدل الوفيات المرتفع بين المرضى، يطال الإحباط الطواقم الطبية التي تخوض معركة شرسة ضد وباء كوفيد - 19. ولخص رئيس قسم الإنعاش في مستشفى «أفيسين» بضاحية باريس، إيف كوهين، الوضع بالقول: «نواجه كل يوم بيومه». لكنه يخشى منذ الآن «نهاية الأزمة»، حين «يزول الضغط عن العاملين في الرعاية الصحية» بعدما عملوا بأكثر من طاقتهم في مواجهة تفشي فيروس كورونا المستجدّ.
من جهته، تحدث أمين عام نقابة «سود - سانتي» في مستشفى فرساي سيباستيان بوان عن «المعاناة النفسية للزملاء الذين يتحتم عليهم إغلاق الأغطية على جثمان مريض لفظ أنفاسه». وأضاف: «حتى في أقسام الإنعاش، يكون الأمر قاسياً مهما كانوا مهيّئين له»، كما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية.
فيما روت ناتالي (تم تغيير اسمها) الممرضة في مستشفى «كرملين - بيسيتر» بجنوب باريس: «ثمة كثيرون ينهارون، وكثيرون يبكون». ورأت أن «الأضرار النفسية ستكون كبيرة. وخصوصاً على الطلاب». وقالت الممرضة: «أعتقد أن بعض (الطلاب) سيتخلون عن هذا الاختصاص. نضعهم في مواجهة وضع صعب وهم في التاسعة عشرة، ليسوا مهيئين».


مقالات ذات صلة

صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك تعلمت البشرية من جائحة «كورونا» أن لا شيء يفوق أهميةً الصحتَين الجسدية والنفسية (رويترز)

بعد ظهوره بـ5 سنوات.. معلومات لا تعرفها عن «كوفيد 19»

قبل خمس سنوات، أصيبت مجموعة من الناس في مدينة ووهان الصينية، بفيروس لم يعرفه العالم من قبل.

آسيا رجل يرتدي كمامة ويركب دراجة في مقاطعة هوبي بوسط الصين (أ.ف.ب)

الصين ترفض ادعاءات «الصحة العالمية» بعدم التعاون لتوضيح أصل «كورونا»

رفضت الصين ادعاءات منظمة الصحة العالمية التي اتهمتها بعدم التعاون الكامل لتوضيح أصل فيروس «كورونا» بعد 5 سنوات من تفشي الوباء.

«الشرق الأوسط» (بكين)

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟