كان حلم الفتى مزمّل أن يترك الريف السوداني الذي يعيش فيه ويرحل إلى المدينة الكبيرة. حياته كانت منهكة منذ أن وُلد وجاءت به والدته إلى الشيخ ليبارك مولده، فإذا به يخبرها بأن طفلها ذاك سيموت في العشرين من العمر.
هكذا كتب المخرج أمجد أبو العلا فيلمه «ستموت في العشرين»، الذي دارت كل أحداثه في تلك القرية الصحراوية البعيدة عن مضارب الحياة المدنية. عناية المخرج كانت في متابعة هذا الفتى وقد وصل إلى العشرين من العمر لإثبات أن النبوءة في شأن الأعمار لم تُمنح للبشر وأن مزمل ووالدته عاشا حياة صعبة تبعاً لتلك النبوءة.
في المشهد الأخير نراه يركض وراء الحافلة المارة على الطريق الرئيسي الذي يربط القرية بالعالم… يركض وراءها ولا يصل ويبقى مستقبله معلّقاً.
لكن الريف، حتى وقت ليس ببعيد، كان ملجأ للباحثين عن البراءة والطيبة والألفة العائلية. لا تتطلع صوب أفلام القوّة والفتوّة ومعلّمي السمك التي سادت في أفلام نيازي مصطفى مع ممثلي الخير والشر أمثال فريد شوقي ومحمود المليجي وتوفيق الدقن. تلك كانت للزينة الترفيهية. لكن خذ واقع الريف من هنري بركات في «الحرام» ومن يوسف شاهين في «الأرض» تجده، على أخطاء بعض شخصياته، المكان الذي يظلل كل شخصياته بأكسجين الحياة.
في «خرج ولم يعد» لمحمد خان تأكيد على روعة الريف من وجهة نظر بطله عطية (يحيى الفخراني) الذي ترك المدينة عائداً للريف لكي يبيع قطعة الأرض التي ورثها من والده قبل أن يعود إلى القاهرة. كانت هذه خطته، لكنه لاحقاً ما استساغ البقاء في الريف الطيب، خصوصاً أن الرجل الذي يفكّر في شراء الأرض (فريد شوقي) لديه ابنة جميلة (ليلى علوي) ولا يمانع في تزويجها لابن البلد الذي عاد لأصوله.
لا أعتقد أن هناك، في السينما العربية الحديثة، من يوجز المقارنة بين المدينة والريف ببلاغة هذا الفيلم الذي تم إنتاجه (عن سيناريو عاصم توفيق) سنة 1984.
بداية الفيلم الذكية تحيط بإيجاز وافٍ بكل ما تريد معرفته عن حال ذلك الموظف ابن المدينة (يحيى الفخراني) الذي يستيقظ صباح كل يوم ليؤدي الأعمال ذاتها في الأجواء ذاتها وفي البيئة نفسها. في مطلع الفيلم يستيقظ عطية في يوم عادي من نومه ليجد أن الماء مقطوع في شقته التي فوق السطوح. ليست سوى بضع دقائق أخرى حتى نرى عطية وقد أصبح في الريف لتبدأ، وبروية، مهمّة الفيلم، ومن دون خطابة، المقارنة بين حياتين على نقيض.
- تلك المدينة
على أن المدينة كضياع شامل موجودة في العديد من الأفلام العربية (والمصرية تحديداً). خذ، على سبيل المثال، «آخر أيام المدينة» لتامر السعيد. فيلم عن مخرج يحاول صنع فيلم تسجيلي عن والدته وعن مدينة القاهرة، ولا بأس إذا ما احتوى الفيلم على حكايات مدينتين أخريين هما بيروت وبغداد. في الوقت ذاته، هذا الفيلم الذي في الفيلم، المشروع الذي نراه من خلال عيني بطله خالد (خالد عبد الله)، هو الفيلم ذاته الذي أمضى المخرج تامر السعيد سنواته الخمس الأخيرة وهو يحاول تحقيقه. إنه سيرة شخصية كون المخرج داخل الفيلم يعكس المخرج خارجه. وهو أيضاً تسجيل مركّـب ضمن الرواية في تفعيلة من الصعب إتقانها.
تلتقط الكاميرا صور شوارع القاهرة المزدحمة وفقرائها ومشاهد لهدم المباني القديمة وحكايات الناس العادية وسائق التاكسي الغاضب وإيقاع الحياة وهو يغلي تحت ما يبدو الهدوء الذي يسبق العاصفة. تكتفي الكاميرا بالنظرة الهادئة والإيقاع المتمهل الذي يرصد تلك الأنفس التي لا تلهث. الواقع المعني يجثم عليها. لكن الأبعاد تتوالى واضحة. القاهرة، كما يراها المخرج ويعرضها الفيلم، تعيش لحظات حاسمة في عام 2009 حتى من قبل أن نرى أول مظاهرة أو أول رجال شرطة الأمن.
بيروت وبغداد لا يختلفان عن بعضهما ولا عن القاهرة ذاتها في أكثر من وجه. الثلاثة، عواصم تئن تحت ضغوط الحياة. لكن إذا كانت المدينة نموذجاً للضياع وسط ركابها، فإن الريف بدوره ليس أكثر من وسيلة للبحث المضني عن معانٍ أخرى. نقيض في البيئة ونقي في أعماق الغالب من الناس، على ذلك، بات الريف، في أفلام حديثة أخرى، مفترق طرق لبحث مضن لشخصيات أفاقت لتجد نفسها لم تفعل شيئاً بعد.
هذا وضع إحدى شخصيات فيلم «القديس المجهول» (2019) للمخرج المغربي علاء الدين ألجيم. رجل عاش طوال حياته ينتظر هطول المطر فوق تلك الصحراء التي يقطنها. كلما اقترح عليه ابنه أن ينزح للمدينة قال له إن المطر سيأتي ثم يبدأ بالصلاة والدعاء. ثم يأتي المطر إنما بعدما يكون قد أسلم الروح.
- رهافة بلعباس
في الفيلم ذاته شخصيات أخرى من خارج القرية الصحراوية التي تدور فيها الأحداث بينها طبيب يكتشف معنى الفراغ وضياع الشأن. هناك أيضاً ذلك اللص الذي هرب من المدينة بغنيمته وأودعها حفرة ليعود بعد سجنه ويجد عوض الحفرة بناء يقصده أبناء القرية للتبرك به.
الريف قاسٍ والصحراء أقسى كما نرى في فيلم الجزائري حسن فرحاني «143 شارع الصحراء» (2019) من مزايا هذا الفيلم أنه تسجيلي لا يؤلف حكايته بل يسرد حياة المرأة التي تعيش في بناء هو بيتها ودكانها على الطريق الصحراوي المنعزل. تتأمل في الفيلم فتجده لوحات في حياة تلك المرأة محفورة في الزمن.
بدوره قام المغربي حكيم بلعباس بتحقيق أفلام تسجيلية عن الريف تميّزت برهافة تصويرها للواقع من دون تدخل في طبيعته. وحتى عندما أقدم، سنة 2016. على تحقيق فيلم روائي، هو «عرق الشتا» حافظ على النسيج الجامع بين الروائي والتسجيلي جيداً. في هذا الفيلم حكاية مزارع اسمه مبارك يحفر في أرضه طالباً بئر ماء ينقذ به المحاصيل في موسم أصابه الجفاف.
لديه زوجة حامل وابن معاق. لديه أرواح عليه إطعامها، وديون عليه سدادها وآمال صغيرة (تبدو له بحجم جبال عالية) يريد تحقيقها. لكن مبارك لا يستطيع فعل أي شيء حيال أي من هذه الأعباء التي يحملها.
تلاحقه الكاميرا بأسلوبها الطبيعي والواقعي. ما على المخرج إلا أن يؤسس لها ما يريده منها. غالباً المشاهد كافية لأن تعبر عن الدور المطلوب منها، كمشاهد الحفر التي تبدأ بعمق ظاهر لكن الحفرة تصبح أعمق وأعمق تماماً كحال مبارك) منزلقاً أكثر وأكثر في بؤسه ويأسه. لا يحتاج المخرج إلى الحوار لأن الصورة تعبر عن كل شيء يستطيع الكلام قوله.
المدينة للضياع... والريف للبحث المضني
السينما العربية بين مكانين
المدينة للضياع... والريف للبحث المضني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة