تاريخ موجز لاتجاهات هوليوود السياسية

النازية والشيوعية والرأسمالية تنازعت على الكعكة الأميركية

عسكري ضد آخر في «ناهشو الجسد» (1993)
عسكري ضد آخر في «ناهشو الجسد» (1993)
TT

تاريخ موجز لاتجاهات هوليوود السياسية

عسكري ضد آخر في «ناهشو الجسد» (1993)
عسكري ضد آخر في «ناهشو الجسد» (1993)

في الوقت الذي طالما اتهمت فيه السينما الأميركية بأنها مجرد ترفيه ساذج، وأن هوليوود عبارة عن مصنع لإنتاج أفلام الترفيه وحدها، يتراءى مجدداً كم هو اعتبار بعيد عن الحقيقة اليوم كما كان بعيداً عن الحقيقة في الماضي.
بينما من الصحيح القول إن هوليوود أنتجت العديد من الأفلام المخلصة لسينما الترفيه، كوميدية وبوليسية ورعب وخيال علمي وموسيقية، إلا أن كل فيلم من إنتاجها كان انعكاساً لموقف سياسي خالص. فالابتعاد عن طرح سياسي هو طرح سياسي بحد ذاته.
لكن حتى مع الافتراض أن أفلام هوليوود الترفيهية ليست سياسية في نهاية المطاف، فإن ما لا يُحصى من أفلامها كان سياسياً بالمفهوم الشائع للكلمة. حتى حين النظر إلى أفلام الوسترن (الغرب الأميركي) المعروف منها والمتناثر بين طبقات التجاهل والنسيان، يجد المرء أنها - في العموم الكاسح - كانت إما أفلاماً تنتمي إلى مفهوم الحزب الجمهوري أو أفلاماً تنتمي إلى سياسة ومفهوم الحزب الديمقراطي. هذا قبل الولوج إلى ما إذا كان الانتماء الأول أسفر عن أفلام يمينية، بينما أسفر الثاني عن أفلام يسارية.
في الحكاية الأكثر وروداً في عالم هذه السينما هناك «البطل» الذي يسعى لمجابهة أعيان البلدة وأشرارها الذين هم - في العادة - من الأثرياء والطامعين للمزيد من الثراء والسُلطة. وإذا لم تكن هذه هي إحدى القصص المتوالية، فإن الأخرى هو الحديث عن التوسع الأميركي في ذلك الغرب وكيف تم «ربح الغرب» (كما هو عنوان أحد الأفلام) على حساب المواطنين الأصليين الذين تمّت تسميتهم منذ أيام كولومبوس بـ«الهنود الحمر».
فيلم ضد فيلم
الفارق بين فيلمي «منتصف النهار» (High Noon لفرد زنمَن، 1952) وبين «ريو برافو» أن الأول مال لليسار والثاني مال لليمين. والحكاية الموثوقة هي أن كلاً من السيناريست كارل فورمن والمنتج ستانلي كرامر والمخرج فرد زنمَن كانت لديهم ملاحظات قوية ضد جنوح المكارثية ودورها في تقليم أظافر السينمائيين الذين اعتبروا يساريين. هذا ينطبق أكثر على فورمَن الذي سمّته «لجنة التحقيق في النشاطات المعادية لأميركا» شخصاً غير متعاون وصار صعباً عليه إيجاد عمل (رحل إلى بريطانيا لبضع سنوات). «منتصف النهار» كان في طور الإنجاز عندما حدث كل ذلك. وفورمَن اقتبس الحكاية من قصة قصيرة حول «مارشال» (رجل القانون الفيدرالي) بلدة اسمه ول كْـيْن (غاري كوبر في الفيلم) كان في طريقه وزوجته لقضاء شهر عسل عندما وصله نبأ قرب وصول أربعة مجرمين لقتله (كان أودى بأحدهم إلى السجن وخرج لينتقم). يقرر الشريف البقاء حيث هو وسط تذمّر زوجته (غريس كَلي) ويستدير صوب أهل البلدة باحثاً عن متطوّعين لمواجهة القتلة القادمين.
لكن البلدة تُدير ظهرها له بعدما شجعته على الفرار بجلده أو أخبرته إنها مشكلته الخاصة وعليه أن يحلها بمفرده. أفراد قليلون تبرعوا لنجدته أحدهم فتى صغير لن يسمح له ول بحمل السلاح وعجوز (لون كاغني) لا يستطيع أن يبلي في المعارك ومعاون له يريد أن يثبت جدارته ولو بالقوّة (لويد بردجز).
في نهاية المطاف ينبري منفرداً لمواجهتهم وينتصر ثم يرمي شارة المارشال عند أقدام المواطنين الذين جاءوا ليهنؤوه بنصره مزدرءاً إياهم والشارة التي حملها.
في الرد على هذا الفيلم قام المخرج هوارد هوكس والممثل جون واين بتبني فكرة مضادة في «ريو برافو» مفادها أن الجميع متحد في مواجهة الأشرار ورجال القانون أكثر كبرياءً من طلب المساعدة من أحد.
بطريقته المتميّزة انبرى جون واين في هذا الفيلم بتوزيع المهام على أعوانه ومجابهة الأشرار بالقوّة المستحقَّة. وفي المضمون هنا أن طلب المساعدة من أهل بلدة متيّمون بمصالحهم الشخصية يناقض الأخلاق الوطنية الأميركية لجانب أنه يصوّر رجل القانون وقد تخلّى عن كبريائه وهو يجول طالباً المساعدة من أهل البلدة حتى خلال تأدية صلاة يوم الأحد ما يشكل انتقاداً آخر لهم.
الخطر الأحمر
الحال هو أن النموذجين المستخدمين هنا ليسا منفردين والسينما الأميركية مليئة بالاتجاهات المختلفة التي أدّت سابقاً إلى تغيير مسارات الأفلام تبعاً لتغيير السياسة الراهنة. خلال الحرب العالمية الثانية، وقبل أن تدخل الولايات المتحدة الحرب بجانب الحلفاء، كان هناك مكتب ألماني في هوليوود يقرأ سيناريوهات الأفلام التي تتعامل مع الموضوع النازي لإبداء الرأي فيها وفي حال كانت معادية فلن تسمح باستيراد الفيلم إليها. استوديوهات الإنتاج الأميركية الكبرى في مجملها أذعنت كون حجب السوق الألمانية يعني خسارة الأفلام أحد أهم مواردها العالمية.
فقط عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب اندفعت السينما الأميركية لتحقيق أفلام وطنية معادية لألمانيا كانت غالباً من أفلام الحروب التي امتدت سريعاً لتشمل «العدو» الياباني قبل وبعد غارة بيرل هاربور الشهيرة.
ما إن انتهت الحرب حتى توقف الزخم السابق من الأفلام المعادية للنازية ولفترة قصيرة بدا أن التحالف السوفييتي - الأميركي سيعني استبدال سوق بآخر، بل كان هناك إنتاج لحفنة أفلام أميركية تحدثت إيجاباً عن الحياة تحت ظل النظام الشيوعي.
لكن هذا لم يستمر طويلاً ففي أواخر الأربعينات، مع بداية محاكمات المكارثية، أخذت سينما اليمين الأميركي تتحدّث عن الخطر الأحمر بديلاً عن الخطر النازي، خصوصاً حين وردت الأنباء بأن روسيا صنعت أول قنبلة نووية سنة 1949.
انبرت شركة «فوكس»، في سنة 1948. لإنتاج «الستار الحديدي» The Iron Curtain تحت إدارة المخرج ويليام أ. ولمان، الذي كان فيلمه «أجنحة» (رومانسي تقع أحداثه في إطار الحرب العالمية الأولى) نال أول أوسكار منح لفيلم وذلك سنة 1929.
القصّـة مأخوذة عن حياة طالب لجوء روسي فعلي هو إيغور غوزنسكو (قام بدوره دانا أندروز) وفحواها هو أن إيغور كان جندياً سابقاً مُـنح وظيفة إدارية ثم طُـلب منه العمل في السفارة السوفييتية في مدينة أوتاوا قبل سنة من نهاية الحرب. مهمّـته جمع المعلومات عن القنبلة النووية والقدرة العسكرية الكندية. لإتمام ذلك سيقطن إيغور حيّـاً سكنياً مع زوجته (جين تييرني) وسوف يتوددان لمحيطهما الجديد لكنهما عليهما الحذر من الإفصاح عن حقيقة علاقتهما بالسفارة. ما يحدث هو أن الزوجة تكتشف محاسن الحياة الحرّة وأن هؤلاء الكنديين ليسوا أعداء كما زعمت السُـلطة الموسكوفية. إيغور بدوره بات يميل إلى هذه الحياة الرغيدة التي ستمنح طفله الجديد مستقبلاً واعداً على عكس ما ينتظره إذا ما عاد لموسكو.
بعد عام واحد قامت شركة مترو - غولدوين - ماير بإنتاج «الدانوب الأحمر» The Red Danube للمخرج جورج سيدني. الحكاية خيالية وتدور حول ضابط بريطاني اسمه مايكل نيكوبار (وولتر بيدجون) تم تعيينه في فيينا للمساعدة في تجميع الروس الذي تشتتوا خلال الحرب العالمية الثانية للعودة إلى بلادهم، وليكتشف أن العديد منهم لا يرغبون في العودة وبينهم راقصة باليه (جانيت لي التي لاحقاً ما لعبت جزءاً من بطولة «سايكو»). ينحو الفيلم بشدّة صوب إدانة الشيوعية كنظام ملحد مبتعد عن الدين ويسوق عبر ذلك رسالته المناوئة والوطنية.
«الخطر الأحمر» The Red Menace (في عام 1949 أيضاً) نجد حكاية أميركي (روبرت روكوَل) التحق بالحزب الشيوعي في أميركا بعدما تم التغرير به. هناك يتعرّف على نينا (هانلوري أكسمان) وكلاهما يكتشف أنه خُـدع فيحاولان الإفلات من القبضة المحكمة للحزب. هذا فيلم تشويقي من المخرج أر.ج. سبرينغستين بموضوع منتم إلى ما انطلق ليسود السنوات اللاحقة تحت راية سينما الحرب الباردة. والجزء الأكبر منها ورد في مطلع الخمسينات مثل «كنت شيوعياً لحساب أف بي آي» لغوردون دوغلاس (1951) و«المرأة عند الرصيف 13» لروبرت ستيفنسون.
في الخمسينات نشطت أفلام الخيال العلمي التي انتقلت من تصوير الخطر الشيوعي من ملفات واقعية (أو خيالية مرتبطة بالحاضر المعاش على نسق ما ورد في الأفلام الواردة) إلى أخرى خيالية يتم فيها تصوير المخلوقات الفضائية كرمز للخطر الشيوعي الذي يهدد الولايات المتحدة وديمقراطيتها.
من بين هذه الأفلام «جاء من الفضاء الخارجي» (It Came From Outer Space) لجاك أرنولد (1953) حيث تهبط الأرض مخلوقات فضائية بغاية السيطرة على الآدميين عبر استلاب قواهم والاستيلاء على شخصياتهم للتظاهر بأنهم أرضيون أيضاً.
«غزاة من المريخ» لويليام كاميرون منزيز (1953) حكى القصّة ذاتها تقريباً: مركبة ترتطم بالأرض وكل من يقترب منها يعود بالملامح ذاتها، إنما بشخصية جديدة. وكما الحال في الفيلم السابق، تقع الأحداث في بلدة صغيرة وتتفشّى تلك الشخصيات فيها. هنا البطولة لصبي يرى بوضوح ما يحدث ويكشفه.
من اليسار إلى الوسط فاليمين
في السنة نفسها تم تحقيق فيلم آخر من هذا النمط هو «حرب العالمين» (The War of the Worlds) لبايرون هسكين حيث تقع معارك طاحنة حين تغزو القوى الفضائية الولايات المتحدة مسببة دماراً شاملاً، مما يستدعي اللجوء إلى الدين (ترمز إليه الكنيسة) للرد على تلك المخلوقات غير المؤمنة. في عام 2005 قام ستيفن سبيلبرغ بإعادة صنع الفيلم نفسه إنما مع توجه مختلف.
بين كل هذه الأفلام وما جاورها لن نجد ما هو أفصح شأناً من فيلم دونالد سيغل «غزو ناهشو الجسد» (Invasion of the Body Snatchers) ليس فقط من ناحية تصوير الخطر المدهم لمخلوقات ستحوّل الأميركيين إلى أجساد لا أرواح آدمية فيها، بل أيضاً كمثال على كيف تغيّرت رسالة الفيلم في كل مرّة أعيد فيها إنتاجه من جديد.
هي بلدة صغيرة في ولاية كاليفورنيا اسمها سانتا ميرا، وهو طبيب اسمه مايلز (كيفن مكارثي) يتابع شكاوى بعض المواطنين حول أفراد عائلاتهم. معظمهم يردد الأعراض ذاتها وهي أن سلوكيات هؤلاء الأفراد تغيّرت فجأة. معاونه يعتبر أن هناك «وباءً هستيرياً» معتبراً أن هذه الشكاوى لا صحة لها. لكن العوارض تزداد انتشاراً: رجال ونساء عديدون يتصرّفون كما لو أنهم يعيشون بلا أرواح. لا عواطف على الإطلاق. لا ردّات فعل من أي نوع. نظرات هائمة وابتسامات غامضة وقت الحاجة والبلدة تتحوّل فجأة إلى غالبية كاسحة قوامها أناس متبدّلون إثر كل ليلة.
يكتشف الطبيب أن هناك بذرة نباتية تهبط مع المطر وتنمو ثم تغزو الأجساد حين نوم أفرادها وتحوّلهم من صباح اليوم التالي إلى شخصيات غريبة. مايلز نفسه يصبح في خطر التحوّل. كل ما يمنعه من ذلك القدرة على البقاء يقظاً بلا نوم. في النهاية يغادر البلدة ليحذر العابرين فوق الطرق السريعة من خطر ماحق قد يستولي على أميركا كلها.
شيء قريب مما يحدث اليوم، مع وباء كورونا، والنظريات الكثيرة (ليست كل نظرية مؤامرة) التي تحيط بالأسباب وتعايش الأوضاع السياسية المحيطة بها.
في عام 1973 قام فيليب كوفمن بتحقيق نسخة من هذا الفيلم من بطولة دونالد سذرلاند وبروك أدامز. هنا نلاحظ اختفاء الرمز السياسي واهتمام المخرج كوفمن بتوفير عناصر فيلم الرعب المبني على الحكاية الخيالية العلمية.
وبعد عشرين سنة تم تحويل الفيلم الأصلي إلى اتجاه آخر. فإذا كانت نسخة سيغال يمينية في توجهها على نحو مباشر، وكانت نسخة كوفمن غير سياسية على نحو شبه تام (على الأقل لا تخدم بعداً آيديولوجياً ما) فإن نسخة أبل فيرارا المسماة «ناهشو الجسد» (Body Snatchers) توجهت لنقد اليمين وحده. هذا معبّر عنه بحكاية مستوحاة تقع أحداثها في قاعدة عسكرية عندما يكتشف بطل الفيلم (تيري كيني) وابنته (مغ تيلي) وجود مخلوقات غامضة تحتل الجنود لتبدلهم من آدميين إلى نسخ تمهيداً لهيمنة عسكرية واسعة.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».