ليس من أدنى شك في أن عالم ما بعد كورونا لن يكون كعالم ما قبل هذه الجائحة التي أخذت الكرة الأرضية على حين غرّة وعاثت في طولها وعرضها فساداً. وليس من أدنى شك في أنه سيكون للحدث الصحي الخطير تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة. لكن يبدو أن الأثر الأكبر وربّما الأقرب سيكون في أوروبا، «القارة العجوز» أو «قلب العالم» وذلك المختبر الدائم للعلاقات بين الأمم: مسرح الصدامات والحروب، ومنبر التفاهمات والالتقاءات الحضارية.
هز وباء «كوفيد - 19» أركان دول كبيرة في أوروبا، وتحديداً إيطاليا وإسبانيا وبعدهما فرنسا، حيث نرى مآسي ومشاهد لم يكن أحد يتخيّل أنها تحصل في دول متقدّمة تولي رفاه الإنسان أولوية.
عندما تفشّى الوباء بهذا الشكل، بدا واضحاً أن إيطاليا عاجزة عن احتوائه، فنُكبت منطقة لومبارديا الشمالية الغنية، خصوصاً مدينتي بيرغامو وبريشيا، وحتى الجارة الكبرى ميلانو... مستشفيات عاجزة، وجسم طبي منهك، ودولة مرتبكة، وشعب خائف وغاضب.
وكانت خيبة الأمل الكبرى أن الإبن البارّ للاتحاد الأوروبي لم يلق العون من بروكسل إلا في وقت متأخّر، وهو ما اعترفت به رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، السياسية الألمانية المخضرمة التي لم تتوانَ عن تقديم اعتذار صريح للشعب الإيطالي عما حصل من تأخير وتقصير في المساعدة. غير أن حزمة التدابير المالية التي أعلنت عنها لم تنل رضى رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، السياسي المستقل الذي يبذل قصاراه لاحتواء الكارثة التي أصابت بلاده وتركتها مهيضة الجناح.
الامتحان الأصعب
لم تكن مسيرة الاتحاد الأوروبي منذ ولادته عام 1958 يسيرة، بل عرفت الكثير من الصعاب والعراقيل. بيد أنها استمرت في صعود على الرغم من كل شيء. فقد نجح الاتحاد في جَبه عواصف عدة، مثل خروج بريطانيا من التكتل «بريكست»، وإنقاذ دول متعثّرة تنتمي إلى «منطقة اليورو»، وموجات الهجرة من مناطق مضطربة في العالم إلى «الجنّة» الأوروبية... غير أن أزمة «كورونا» تفوق كل ما سبق بقوّة عَصفها، فهي وضعت فلسفة وجود الاتحاد الأوروبي على المحكّ. فلمَ كل هذه المؤسسات المكلفة إذا غاب التضامن في وقت المحنة؟ وما معنى وجود مفوّضية وبرلمان وبنك مركزي إذا تُركت كل من الدول الـ27 الأعضاء تتخبّط وحدها في اللجج المتلاطمة؟
ترأس السياسي الفرنسي جاك دولور (94 عاماً) المفوضية الأوروبية عشر سنوات من 1985 إلى 1995، وهو قلّما خرج عن صمته منذ أن غادر الحلبة السياسية. لكن الرجل المؤمن بشدّة بفكرة الاندماج الأوروبي، قال قبل أيام إن غياب التضامن يشكّل «خطراً قاتلاً على الاتحاد الأوروبي».
أما إنريكو ليتّا الذي ترأس الحكومة الإيطالية بين 2013 و2014، فحذّر بدوره من «خطر مميت»، وقال لصحيفة «ذا غارديان» البريطانية: «نواجه أزمة تختلف عن الأزمات السابقة»، خصوصاً أن الهوية الأوروبية ضعفت في السنوات العشر الأخيرة، كما قال. وأسف لأن «روح الجماعة في أوروبا هي أضعف اليوم مما كانت عليه قبل عقد» من الزمان. ونبّه إلى أن اعتماد مبدأ «إيطاليا أولاً» أو «ألمانيا أولاً» أو «بلجيكا أولاً» سيجعل الجميع «يغرقون معاً».
وذهبت الإيطالية ناتالي توتشي، التي عملت مستشارة لوزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي السابقة فيديريكا موغيريني، أبعد من ذلك بقولها: «المشروع الأوروبي هو حقاً الآن أمام مفترق: الاستمرار أو الإندثار. إذا لم تسر الأمور على ما يرام سنكون أمام احتمال انتهاء الاتحاد في ظل صعود حمّى القومية والشعبوية».
رؤيتان اقتصاديتان
في موازاة الخلاف حول المقاربات الصحية والتأرجح بين إغلاق الحدود وفتحها بين الأشقاء الأوروبيين، يبرز خلاف عميق في شأن معالجة الآثار الاقتصادية التي ستخلّفها الجائحة. وهناك في الواقع معسكران متقابلان في هذا المجال، ففيما تريد فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ودول أخرى إصدار ما يسمى «سندات كورونا» لمساعدة الدول المتعثّرة، تتمسك ألمانيا والنمسا وهولندا وسواها برفض الفكرة. وبعد فشل الزعماء الأوروبيين في الاتفاق على صيغة، كلّفوا وزراء المال في حكوماتهم البحث عن ترياق يجنّب الدول الـ 27 السقوط في هاوية الركود.
تفصيلاً، يريد المنادون بإصدار «سندات كورونا» دعم بلدان ديونها مرتفعة، مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا. فإذا استطاعت هذه اقتراض الأموال بدعم من ألمانيا كضامن، سيعتبر المستثمرون أن المخاطر الائتمانية معقولة ويرضون تالياً بأسعار فائدة أقل، الأمر الذي يجعل كلفة الاقتراض مقبولة.
في المقابل، ترفض ألمانيا وحلفاؤها الشماليون الفكرة من أساسها. فأهل الشمال ضاقوا ذرعاً بتسديد الفواتير عن أهل الجنوب، وألمانيا تخشى أن تتحمّل العبء الأكبر من أكداس الديون الآتية، كما حصل مراراً وتكراراً، خصوصاً إبان الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي حصلت قبل نحو عشر سنوات.
والمشكلة الكبرى أن لكلا الخيارين آثاراً سياسية سلبية، فإذا قبلت ألمانيا بضمان الاقتراض، ستقوى فيها التيارات الشعبوية والأحزاب القومية، مثل «البديل من أجل ألمانيا»، ويذهب المشهد السياسي نحو ملامح وقسَمات مخيفة. وإذا أقفلت ألمانيا والمقتدرون الآخرون خزائن المال، ستضعف حكومات الجنوب ويشتد عود القوميين والشعبويين الذين سيزداد طموحهم إلى اعتلاء السلطة ويكون في رأس سلم أولوياتهم مغادرة الاتحاد الأوروبي...
سأل رئيس الوزراء الإسباني الغاضب بيدرو سانشيز المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة: «هل تفهمين حالة الطوارئ التي نمر بها؟».
أجابته بأنها تفهم وتدرك، ومع ذلك رفضت فكرة «سندات كورونا»، متمسكة باقتراح أن تقترض الدول المحتاجة بطريقة تقليدية عبر آلية الاستقرار المالي الأوروبي، البرنامج الذي يوفّر تمويلاً طارئاً حتى حدود 500 مليار يورو.
خلاصة القول أن الاتحاد الأوروبي يعيش أياماً حالكة أياً يكن الطريق الذي سيسلكه. فأغنياؤه يخشون أن يتحملوا وزر أزمة جديدة قد تجعلهم فقراء، فيما فقراؤه يحذرون من نهاية حتمية إذا «لم تقم أوروبا بما عليها القيام به»، كما قال رئيس الوزراء البرتغالي أنطونيو كوستا.