إيطاليا وإسبانيا في عين عاصفة «كورونا»

بعد انتقال بؤرة الإصابات من آسيا إلى أوروبا وأميركا الشمالية

إيطاليا وإسبانيا في عين عاصفة «كورونا»
TT

إيطاليا وإسبانيا في عين عاصفة «كورونا»

إيطاليا وإسبانيا في عين عاصفة «كورونا»

في منتصف شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، صدر عن منظمة الأمم المتحدة، بالتعاون مع قسم الدراسات الاستراتيجية في البنك الدولي، تقرير يحذّر من مخاطر جائحة عالمية يمكن أن تودي بحياة عدد كبير من البشر، وتقوّض دعائم الاقتصاد، وتؤدي إلى أجواء من الفوضى الاجتماعية لم يشهد العالم مثيلاً لها في العصور الحديثة. ودعا التقرير الدول إلى الاستعداد لأسوأ الاحتمالات من تداعيات وباء ينتشر عبر أجهزة التنفس في أنحاء المعمورة.
وجاء في التقرير أن مسبباً مرضياً (Pathogen) بهذه الأوصاف يمكن أن ينشأ بشكل طبيعي أو أن يصمم في مختبر بصفته سلاحاً بيولوجياً. كما دعا الدول والمؤسسات الدولية إلى اتخاذ التدابير التي من شأنها أن تحول دون انتشار ما وصفه بالخطر المحدق.
التقرير الأممي يحمل توقيع مجموعة من الخبراء، ترأستهم غرو هارلم بروندلاند، وهي طبيبة سبق أن تولّت رئاسة الحكومة النرويجية، ومنصب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية لاحقاً. وقد شدّد التقرير في استنتاجاته على أن تفشّي وباء على نطاق واسع هو «مصدر للقلق العميق بقدر ما هو احتمال واقعي من شأنه أن يدفع العالم إلى وضع يعادل في القرن الحادي والعشرين ما خلّفته (الإنفلونزا الإسبانية) في عام 1918، التي أودت بحياة نحو 50 مليون شخص». كذلك جاء في التقرير أنه لا توجد دولة في العالم جاهزة لمواجهة مثل هذا الوضع، ولا ممتثلة بالكامل لمعايير «اللوائح الصحية الدولية»، رغم موافقة كل الحكومات عليها. وتابع أنه «ليس من المستغرب أن يكون العالم غير مستعد لمواجهة جائحة سريعة تسري عن طريق الهواء».

المفاجئ... غير المفاجئ
نسوّق هذه المعلومات الموثّقة من باب الإشارة إلى أن التصريحات التي تكرّرت على ألسنة كثير من المسؤولين في الأسابيع الأخيرة، بأن أحداً لم يكن بوسعه أن يتوقّع مثل هذه الأزمة، أقل ما يقال فيها أنها تجانب الحقيقة.
الحقيقة أنه ثمّة من توقّع هذه الأزمة، وحذّر من تداعياتها الصحّية والاقتصادية والاجتماعية، والدليل على ذلك أن 3 أطباء فرنسيين تقدّموا بشكوى ضد الحكومة لإهمالها هذه التحذيرات، كما أن أطباء إيطاليين وإسباناً يعدّون ملفّاتهم لتقديم شكاوى مماثلة.
وبعد 3 أشهر تقريباً من ظهور هذا الوباء، وانتشاره بسرعة وكثافة في إقليم هوباي الصيني وعاصمته ووهان، تتأهب بكين لتعلن «انتصارها» عليه، بعدما أوقع 3300 ضحيّة من نحو 82 ألف إصابة، وشفاء 74 ألف مريض، فيما انتقلت بؤرة الانتشار عالمياً إلى أوروبا، وبخاصة إيطاليا واسبانيا حيث تجاوز عدد الإصابات المؤكدة بكل منهما حاجز الـ 100ألف، بينما يشكل مجموع الوفيات نحو نصف عددها عالمياً.
وبعد «نجاح» النموذج الصيني الذي يستحيل تطبيقه في الدول الأخرى لاعتبارات سياسية وتكنولوجية، اتجهت الأنظار إلى النموذج الكوري الجنوبي الذي حقق نتائج سريعة في احتواء الفيروس. ولكن في هذه الأثناء، تسارع انتشار الوباء بكثافة، وأوقع عدداً كبيراً من الضحايا في الشمال الإيطالي الذي يعد من أغنى المناطق الأوروبية وأكثرها تطوراً على صعيد الخدمات الصحية، إضافة إلى كونه مركزاً لعدد من المصانع الكبيرة للأدوية. ومن إيطاليا انتقل إلى إسبانيا، حيث تفشّى أيضاً بسرعة قياسية وضعت إسبانيا منذ مطلع هذا الأسبوع في المرتبة الثانية عالمياً، من حيث عدد الوفيات والإصابات.
وفي الرابع والعشرين من الشهر الماضي، أعلنت منظمة الصحة العالمية أنها على شفا إعلان الوباء جائحة على الصعيد العالمي. إلا أنه رغم ذلك، وما كان الجميع يشهده من تداعيات هذا الوباء في عدد من الدول، واصلت الحكومات الأوروبية، وبخاصة تلك التي كان الفيروس قد بدأ ينتشر فيها، مثل إيطاليا وإسبانيا، التحرّك ببطء شديد وتردد في اتخاذ التدابير التي ظهرت فعاليتها بوضوح في الحالتين الصينية والكورية الجنوبية.

بطء وتقصير وخروق
هذا التحرّك البطيء لمواجهة الوباء، وما رافقه من عدم اتخاذ التدابير الشديدة منذ المراحل الأولى لجهود الاحتواء، إضافة إلى «الخروق» الكثيرة لهذه التدابير حتى الآن، أدى في الحالتين الإيطالية والإسبانية إلى فوضى عارمة على الصعيد الاجتماعي أمام انتشار الفيروس، في أجواء من الهلع وغموض الرؤية في معالجة الأزمة التي بدت وكأنها هبطت من غير إنذار، وكشفت عن هشاشة كبيرة غير متوقعة في النظامين الصحيين اللذين يعدان من بين الأفضل في العالم. ومع مرور الأيام، راح الوضع يتفاقم بشكل خطير في البلدين حتى أصبح مجموع الإصابات والوفيات فيهما يتجاوز نصفها في أوروبا، وربعها في العالم.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه قبل أن يبدأ الفيروس بالانتشار في أوروبا وآسيا، كان عدد الوفيّات في الصين قد بلغ 2600 من أصل 77 ألف إصابة مؤكدة، أي ما يعادل 3.4 في المائة. ومن ناحية ثانية، مع انتشار الفيروس في محيط الصين الآسيوي والقارة الأوروبية، بدأت تظهر فوارق في نسبة الوفيّات بين الدول التي تسجّل أكبر عدد من الإصابات. ويقول الخبراء إن نسبة الوفّيات تكون عادة مرتفعة في المرحلة الأولى، قبل أن يكون الوباء قد انتشر على نطاق واسع، ثم تتدنّى مع ازدياد عدد الإصابات المؤكدة.
غير أن هذا المنحى التنازلي لنسبة الوفيّات لم يتحقق في إيطاليا وإسبانيا، حيث تسجّل نسبة أعلى بكثير من الصين وكوريا الجنوبية، أو حتى من ألمانيا وفرنسا، إذ بلغت نسبة الوفيات في إيطاليا مثلاً 8 في المائة، بينما لم تتجاوز 1 في المائة في كوريا الجنوبية.
كذلك يلاحظ الخبراء أن النسبة الأعلى بين المصابين في كوريا الجنوبية هم الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و29 سنة، وهي قد بلغت 25 في المائة تقريباً عندما انتشرت الإصابات بكثافة بين إحدى المجموعات الدينية. أما في إيطاليا وإسبانيا، فإن النسبة الأعلى من الإصابات هي بين الذين تزيد أعمارهم على 60 سنة.
أيضاً من الأرقام اللافتة أن نصف الوفيّات في إيطاليا، و40 في المائة منها في إسبانيا، هي بين الذين تزيد أعمارهم على 80 سنة. وفي البلدين، تزيد نسبة الإصابات بين المسنّين عن نسبتهم من العدد الإجمالي للسكان، وهو ما قد يفسّر سبب انتشار الفيروس بسرعة أكبر من سرعة انتشاره في الصين وكوريا الجنوبية.
وعلى صعيد متصل، وبينما تركّز كل المعلومات والبيانات المتداولة على عدد الإصابات والوفيّات، ونسب ارتفاعها أو تراجعها، وعدد الحالات الخطرة، يحذّر بعض الاختصاصيين من الإفراط في التفاؤل أمام «تحسّن» هذه الأرقام التي لا تعكس -في رأيهم- الصورة الحقيقية لانتشار الوباء، بل تعطي فكرة عن مدى خطورته.
وكان مفوّض الحكومة الإيطالية المكلّف بالإشراف على حالة الطوارئ قد أعلن أخيراً، بعد أن بدأ كثيرون يتحدثون عن بلوغ ذروة الإصابات ومعدلات الوفيات اليومية، ويتوقعون تراجعها، أن الأرقام المتداولة عن عدد الإصابات قد لا تعكس سوى 10 في المائة من العدد الفعلي. أما السبب في ذلك، فهو أن عدد الإصابات المؤكدة يتوقّف على عدد الاختبارات التي تُجرى لتحديدها. ففي كوريا الجنوبية، مثلاً، أجرت وزارة الصحة 6200 اختبار لكل مليون شخص، بينما لم يتجاوز هذا العدد في إيطاليا 3400 حتى الآن، وفي إسبانيا ما زال دون الألفين. يضاف إلى ذلك أن الدول لا تنشر أرقام الاختبارات بانتظام، رغم أنها معلومات أساسية، إلى جانب الديموغرافيا، لتحديد النسبة الحقيقية للوفّيات.

دور العادات الاجتماعية
العادات الاجتماعية في السياق الديمغرافي، الإيطالي والإسباني، هي أيضاً من الأسباب التي أدت إلى الانتشار الواسع السريع للوباء في هذين البلدين. فالإسبان والإيطاليون يميلون إلى العيش بالقرب من أسرهم، والانتقال يومياً إلى أماكن عملهم، فضلاً عن أن هناك نسبة عالية من الشباب الذين تركوا إقامتهم المنفردة، وعادوا إلى السكن مع أهلهم، بعد أزمة عام 2008 التي أدت إلى ارتفاع نسبة البطالة، وتراجع القدرة الشرائية للطبقة الوسطى.
وبالفعل، بيّنت الدراسات الأخيرة أن التواصل بين الشباب والمسنين هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى هذا الانتشار السريع للفيروس في إيطاليا وإسبانيا؛ ذلك أن الشباب هم الناقل الرئيسي الأخطر للفيروس، وهم الأخطر لأنهم في الغالب لا تظهر عليهم عوارض الوباء. وهذا ما دفع أحد خبراء الجراثيم في جامعة ميلانو إلى القول: «الفيروس يسير على أقدام الذين لا تظهر عليهم عوارضه». وفي المقابل، يشكّل المسنّون المجموعة الأضعف والأكثر تعرضاً، لا سيما إذا ما كانوا يعانون من أمراض أخرى.

التجربة الإيطالية
عندما تأكدت الإصابة الأولى في إيطاليا، في منتصف الشهر الماضي، قالت وزارة الصحة إن الفيروس ينتشر في البلاد منذ أواسط يناير (كانون الثاني). ولكن رغم ذلك، ومع ظهور الإصابات الأولى، لم تتخذ السلطات الصحية الإجراءات التي كانت قد أوصت بها منظمة الصحة العالمية، علماً بأن الفيروس بدأ انتشاره في مناطق الشمال، حيث متوسط عمر السكان هو الأعلى. ويفيد المعهد الوطني للإحصاء أن هناك 14 مليون شخص تتجاوز أعمارهم 65 سنة، يشكّلون 22 في المائة من مجموع السكان في إيطاليا، وتصل هذه النسبة إلى 27 في المائة في الأقاليم الشمالية. وكان خبراء منظمة الصحة العالمية الذين شاركوا في مكافحة الفيروس في الصين قد أفادوا بأن نسبة الوفيات بين المصابين الذين تتجاوز أعمارهم 80 سنة تبلغ 14.8 في المائة، في حال ما كانوا يعانون من أمراض أخرى، وهي ترتفع أكثر في حالات الإصابة بأمراض القلب وجهاز التنفس والسكري وضعف المناعة.
وللعلم، كانت الإصابة الأولى في إيطاليا قد ظهرت يوم 21 فبراير (شباط)، في بلدة كودونيو التي تبعد 70 كيلومتراً عن مدينة ميلانو، ثم ارتفع عدد الإصابات فيها إلى 100 في غضون يومين، ما أدى إلى اتخاذ قرار بعزلها كلياً، مع 11 بلدة أخرى محيطة بها، وتكليف الجيش وقوى الأمن بإنفاذ الحجر الصحي الإلزامي لفترة 14 يوماً. وقد تمكنّت الأجهزة الصحية من تحديد «المريض رقم 1»، لكن تعذّر عليها تحديد «المريض صفر»، أي الذي جاء من الصين، ونقل الفيروس إلى المريض الأول. ويقول الاختصاصيون إن الفترة التي انتقل فيها الفيروس من «المريض صفر» إلى «المريض 1» يرجّح أنها كانت طويلة نسبياً، ما أدى إلى انتشار الوباء بصمت في مناطق الشمال، قبل اتخاذ التدابير الأولى.
ومن جانب آخر، أدت أجواء البلبلة والتردد في اتخاذ القرارات خلال تلك المرحلة إلى تشتيت الجهود وتضارب التدابير التي كانت تتخذها السلطات المحلية من غير تنسيق بينها ومع السلطات المركزية. ومن ثم، تحوّل الموضوع إلى مسرح للمواجهة بين الحكومة والمعارضة، بعدما أدلى رئيس الحكومة جيوزيبي كونتي بتصريح تحدث فيه عن «إدارة غير سليمة في مستشفى كودونيو ساهمت في انتشار الفيروس لقلة احترام التدابير المعتمدة». وهدّد كونتي حينذاك بتعليق الصلاحيات الصحّية المنوطة بالسلطات المحلية، قبل أن يعلن حالة الطوارئ التي بموجبها وُضعت كل الصلاحيات الإقليمية تحت إشراف السلطة المركزية وخليّة إدارة الأزمة.
يضاف إلى ما تقدم، قول الخبراء إن تدابير العزل التي اتخذتها السلطات الإيطالية في مناطق الشمال كانت تدريجية، وجرت من غير تنسيق بين المناطق. وهذا ما أدى إلى الحد من فعاليتها، ووضع المنشآت والطواقم الصحية تحت ضغط كبير بسبب الانتشار السريع للوباء، وتضاعف عدد الإصابات كل 3 أو 4 أيام. وحقاً، اعتذر رئيس بلدية ميلانو جيوزيبي سالا أخيراً عن القرار الخاطئ الذي اتخذه عندما أطلق حملته «ميلانو لا تتوقف» في عز انتشار الوباء، ودعا إلى مواصلة الحركة الاقتصادية والحياة الطبيعية.
وأصبح واضحاً اليوم أن ذلك القرار، الذي كان الهدف منه وقف الخسائر المادية التي تنجم عن توقف العجلة الاقتصادية، لم يحقق الهدف المنشود، بل كانت له آثار سلبية جداً على كثافة انتشار الفيروس في ميلانو ومحيطها. وبالتالي، اضطرت الحكومة المركزية إلى اتخاذ قرار بعزل المناطق الشمالية بكاملها في العاشر من هذا الشهر، قبل أن تفرض العزل التام على جميع أنحاء البلاد، ووقف العجلة الاقتصادية، باستثناء المرافق الاستراتيجية، لكن بعدما كان عدد الوفيّات قد تجاوز 3 آلاف، والإصابات 40 ألفاً. ولقد دفعت الطواقم الطبية ثمنا باهظاً لهذه الأزمة, إذ أصيب الآلاف من أفرادها وفقد الجسم الطبي حتى الآن 66 طبيباً بسببها.

ما حدث في إسبانيا
في إسبانيا، أعلن عن ظهور الحالات الأولى أواخر الشهر الماضي في أرخبيل جزر الكناري وفي جزر الباليار، مع أشخاص وافدين من مقاطعات الشمال الإيطالية، لكن تبيّن لاحقاً أن الوفاة الأولى وقعت في 13 من الشهر الماضي، ولم يعلن عنها إلا بعد 16 يوماً على وقوعها. ويجمع الاختصاصيون على أن الحكومة تأخرت في اتخاذ التدابير اللازمة، خاصة أن الجميع كان يراقب تطور الأزمة في إيطاليا، ويقتدي بالأمثولات المستخلصة منها.
ولعلّ الخطأ الأكبر الذي ارتكبته الحكومة الإسبانية إبان إدارة الأزمة في مراحلها الأولى كان السماح بمظاهرة حاشدة، شارك فيها أكثر من مائة ألف شخص في مدريد يوم الثامن من هذا الشهر، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة. ويقول الخبراء إن هذا ما يفسّر العدد المرتفع من الإصابات في العاصمة ومحيطها، حيث يسجّل أكثر من نصف الإصابات والوفيات في البلاد، بل وقد تأكدت إصابة 3 وزيرات شاركن في تلك المظاهرة، إضافة إلى زوجة رئيس الحكومة.
أيضاً أدى الارتفاع الكبير في عدد الإصابات في مدريد إلى عجز مستشفياتها عن استيعاب المصابين بحالات خطرة، علماً بأن هذه المستشفيات تعد درّة تاج المنظومة الصحية الإسبانية. وتفاقمت الأزمة، رغم إلغاء هذه المستشفيات منذ أسبوعين جميع العمليات الجراحية غير الضرورية، وتحويل أقسام الطوارئ وغرف العملّيات إلى وحدات للعناية الفائقة (المركزة).
وإلى جانب الكارثة الصحّية، التي ليس معروفاً بعد حجم خسائرها وجدولها الزمني، تواجه الحكومتان الإيطالية والإسبانية كارثة اقتصادية غير مسبوقة. ومعلوم أن إيطاليا وإسبانيا -إلى جانب اليونان- قد دفعتا ثمناً باهظاً جرّاء أزمة عام 2008 المالية، حيث ارتفعت نسبة البطالة فيهما إلى مستويات غير مسبوقة، وتراجع النمو الاقتصادي بنسبة عالية، وألغيت خدمات اجتماعية كثيرة بسبب المديونية العالية التي يرزح تحتها البلدان. وقدرت وزارة الاقتصاد الإيطالية في تقريرها الشهري مطلع هذا الأسبوع أن إجمال الناتج المحلي قد تراجع بنسبة 11% في الفصل الأول من هذا العام. وأعلنت الحكومة الإسبانية يوم الأربعاء الماضي أن 835 ألف شخص فقدوا أعمالهم منذ بداية الأزمة, منهم 300 ألف خلل الشهر الماضي.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.