عزلة «كورونا» تخيّم على ذكرى عبد الحليم حافظ

إلغاء احتفالات الأوبرا... ومنع استقبال محبيه في بيته

عبد الحليم حافظ
عبد الحليم حافظ
TT

عزلة «كورونا» تخيّم على ذكرى عبد الحليم حافظ

عبد الحليم حافظ
عبد الحليم حافظ

لا يزال صوته حارساً لحكايات الحب وأقدارها وظلمات التيه وشمس الأوطان، صوت منحه محبوه لقب «العندليب الأسمر» منسوباً لواحد من أرق الطيور المُغردة على الإطلاق، وتُجدد ذكراه، التي توافق 30 مارس (آذار)، تأمل ظاهرة عبد الحليم حافظ، كحالة فنية ووجدانية استطاعت الاحتفاظ بتماسكها ووهجها على الرغم من مرور 43 عاماً على رحيله، عبر رصيد من الإنجازات يُجاوز سنوات عمره الـ47 القصيرة التي قضاها في عالمنا.
تحل ذكرى العندليب اليوم في خفوت، متأثرة بالمناخ الفني والثقافي العام الذي تسبب فيروس «كورونا» في ركوده. تمر الذكرى من دون صخب، فلا احتفالات تنظمها وزارة الثقافة المصرية ككل عام في دار الأوبرا المصرية احتفالاً بالذكرى، علاوة على عدم تمكن ورثة عبد الحليم من إحياء ذكراه التي يجتمع فيها محبوه لزيارة منزله في مثل هذا اليوم، فيما خصصت الإذاعة والتلفزيون المصري ضمن خريطتها البرامجية برامج لمواكبة ذكراه، أبرزها «العندليب لا يغيب»، و«في ذكرى وفاة المطرب عبد الحليم حافظ»، و«ذكريات الكبار»، و«أوراق الزمن الجميل».
عبر الراحل عبد الحليم حافظ أبواب الشهرة الواسعة في الغناء والتمثيل، إلّا أن تفاصيل حياته العادية لعبت دوراً في حال القرب الوجداني التي منحته مكانة خاصة بين جمهوره، تلك الحياة التي اتخذت طابعاً درامياً منذ ولادته في قرية «الحلوات» بمحافظة الشرقية، يوم 21 يونيو (حزيران) عام 1930، بعد أن اختبر مشاعر اليُتم وقسوتها، إذ وُلد يتيم الأم التي توفيت في أثناء ولادته، ولحق بها والده عقب أسبوعين على رحيلها، فتولت خالته تربيته ورعايته.
تركت مشاعر اليُتم في نفسه ندوباً، كان يتحدث عنها في معظم لقاءاته الصحافية والتلفزيونية بكثير من المرارة، وتبع اليتم الكثير من الفصول القاسية لعل أشهرها قصة الحب التي جمعته بفتاة وانتهت بموتها المفجع، لتظل جرحاً لم تبدده الشهرة ولا الأضواء، مروراً بمسلسل المرض الذي تقاطع مع مسيرة حياته القصيرة، حتى تمكن منه على الرغم من لجوئه في السنوات الأخيرة إلى أكبر المستشفيات العالمية، فمات بتليف الكبد الذي تسبب فيه داء البلهارسيا الذي أُصيب به وهو صغير، كعديد من المصريين في ذلك الوقت، وهو الخبر الذي نزل على جمهوره آنذاك كالصاعقة، حتى إن بعض الفتيات أقدمن على الانتحار من الشرفات، وشهدت مصر وقتها جنازة مهيبة شارك فيها أكثر من مليوني شخص، ضجّت بالنحيب والعويل لرحيل «العندليب الأسمر».
لم ينسَ عبد الحليم كيف لم يُرحب به الجمهور في بدايات مشواره، فلم يتحمسوا لأولى أغنياته «صافيني مرة» ولم يستسيغوا لونها وأداءه الغنائي الجديد في تلك الفترة، كما لم ينسَ كيف استقبلته واحدة من أشهر المُنتجات في تلك الفترة وهي ماري كويني، التي رفضت إسناد دور له باعتبار أن وجهه غير سينمائي، غير أن تلك الإحباطات المُبكرة كانت مقدمةً لعشرات الأغنيات العاطفية والوطنية والأفلام السينمائية التي قاد عبد الحليم قاطرتها في فترة الخمسينات والستينات في مصر.
الصوت المُرهف والمميز لعبد الحليم ليس وحده السبب وراء رسوخ ظاهرته، وفق الناقد الفني المصري محمود قاسم، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «كان شديد الذكاء، لديه اختيارات غنائية متميزة، لعل ذلك ما ظهر مع أولى القصائد التي غناها وكانت قصيدة من كلمات الراحل صلاح عبد الصبور وهي (لقاء)».
كما كان عبد الحليم من أبرز من واكب الحال السياسية التي مرّت بها مصر بداية من عام 1954 عبر سلسلة من الأغنيات الوطنية مثل (الله يا بلادنا)، و(احنا الشعب)، و(يا جمال يا حبيب الملايين)، وكان مع كل حفل لعيد الثورة يطرح أغنيات جديدة، وقدّم مع النكسة في يونيو 1967 أغنيته المريرة (عدى النهار)، وفق قاسم.
فيما كانت محطة السينما مهمة جداً في مشروع عبد الحليم الغنائي، لا سيما أنّه كان ممثلاً جيداً، له طلة وروح خفيفة، حسب قاسم، وكانت من أبرز محطاته السينمائية فيلم (البنات والصيف)، و(معبودة الجماهير) و(الخطايا)، و(أبي فوق الشجرة)، وفيلم (دليلة) الذي خاض فيه تجربة الإنتاج رغم أنّه كان من أوائل أفلامه، ما يدل على أنّه كان قادراً في عمره الفني المبكر على المغامرة وإنتاج أفلامه، وهو دليل آخر على تعامله مع مشروعه الفني بذكاء كبير.
غناء «العندليب الأسمر» للقصائد كان من أبرز ما قدمه خلال مشوره الفني، وكان يرى وفق تصريحات تلفزيونية له أنّه يغنّي أكثر من أغنية داخل الأغنية الواحدة على غرار «مداح القمر»، ومن بين القصائد التي صدح بها قصيدة «ليالي الغرام» للشاعر محمود حسن إسماعيل، و«لست قلبي» للشاعر كامل الشناوي، و«رسالة من تحت الماء» للشاعر نزار قباني، فيما تعدّ قصيدة «قارئة الفنجان» من أبرز ما قدّمه خلال سنوات عمره، وفق قاسم الذي يرى «أنه كان سيخسر كثيراً لو لم يقدم هذه الأغنية الرائعة، فتلك القصيدة المُبكية عندما غناها، صارت كأنّها هي نفسها مُحاكاة لحياة عبد الحليم وحاله الإنسانية في مواجهة القدر، قبل أن يرحل عن عالمنا في 30 مارس عام 1977».عبد الحليم حافظ



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».