التنين السعودي في «أوبك»

محمد الماضي محافظ المملكة في «أوبك».. أمام أهم اختبار للمنظمة منذ 1990

التنين السعودي في «أوبك»
TT

التنين السعودي في «أوبك»

التنين السعودي في «أوبك»

في يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) من عام 2008 كان السعودي محمد الماضي يجلس في مكتبه
في العاصمة الصينية بكين ليتابع أعمال «أرامكو» السعودية في السوق الصينية التي أصبحت ثاني
أهم سوق نفطية في العالم بعد الولايات المتحدة بعد أن أخذت تشتري النفط بدءاً من عام 2000 بكميات مهولة.
وفي نفس ذلك اليوم وعلى بعد آلاف الكيلومترات في مدينة وهران الجزائرية عقد وزراء منظمة البلدان المصدر
ة للبترول (أوبك) اجتماعاً طارئاً غير عادي واتفقوا فيه «وهذه أحد المرات النادرة التي تتفق فيها المنظمة»
على أن يخفضوا الإنتاج بنحو 4.2 مليون برميل يومياً ابتداء من أول أيام السنة الجديدة 2009 لإنقاذ أسعار النفط من الانهيار الكبير الذي ضربها ذلك العام. إذ إن أسعار النفط هبطت من 147 دولاراً في يوليو (تموز)
2008 لتصل إلى أقل من 40 دولاراً قبل وقت الاجتماع في ديسمبر.
لم يترك وزراء النفط «أوبك» في وهران الكثير من المساحة للتفكير أمام الماضي في بكين والذي كان حينها قد أوشك أن يكمل عامه الثاني في الصين رئيسا لفرع «أرامكو» هناك. فمن جهة كان عليه أن يزيد مبيعات «أرامكو» ومن جهة فهو عليه أن يلتزم بالتخفيض الذي أقرته المنظمة، حيث إن المملكة هي القائد الفعلي لـ«أوبك»، لذا عليها الالتزام بتخفيض إنتاجها أكثر من الجميع.
ويقول أحد الأشخاص الذين عملوا معه في تسويق النفط في الصين في تلك الفترة لـ«الشرق الأوسط»: «لقد كان عام 2009 أكبر تحد واجهناه ونحن في الصين فالمطلوب من (أرامكو) بناء على قرار (أوبك) أن تخفض إنتاجها حتى ترتفع الأسعار. لقد كان تحديا كبيرا لنا أن نبيع المزيد من النفط حينها».
* التنين من بكين إلى فيينا
* ووسط هذه الظروف الصعبة نجحت السعودية وباقي «أوبك» في انتشال سعر النفط من الهبوط وبدأت الأسعار تشق طريقها للأعلى خلال 2009 بعد التخفيض الكبير في الإنتاج. ونجح الماضي كذلك هو وفريقه في تحقيق معجزة مماثلة، إذ إن مبيعات «أرامكو» السعودية في الصين زادت سنوياً بين 2008 إلى 2010 رغماً عن الركود العالمي الذي ضرب الأسواق حينها ورغماً عن إبقاء «أوبك» إنتاجها منخفضاً حتى تتوازن السوق وترتفع الأسعار.
ويعلق نفس الشخص على ذلك قائلاً: «لم نصدق أن ذلك سوف يحدث، ولكن الماضي بذل جهداً كبيراً حينها حتى تبيع (أرامكو) نفطاً أكثر. لقد كانت عزيمته على تثبيت قدم (أرامكو) في الصين حينها أكبر من كل الظروف والتحديات».
ويضيف الشخص الذي رفض ذكر اسمه: «الصين بلد التنانين وأن تبيع على الصينيين شيئاً فهذا ليس بالأمر السهل ما لم تكن تنيناً، وهذا ما كان عليه الماضي. لقد كان التنين السعودي في الصين. لقد كان يفكر مثلهم ويتكلم لغتهم الصينية بطلاقة ويعرف أسرارهم».
إلا أن التنين السعودي أو الماضي الذي تأثر كثيراً بقرار «أوبك» لم يدر بخلده حينها أنه بعد مضي 5 سنوات سيترك بكين ويتجه إلى العاصمة النمساوية فيينا مقر الأمانة العامة لـ«أوبك» ليمثل المملكة في نفس المنظمة التي وضعته في 2008 أمام أصعب التحديات.
وفي الخامس من شهر ديسمبر لعام 2013، عينت المملكة الماضي محافظاً جديداً لها في «أوبك» خلفاً للمحافظ السابق ياسر المفتي والذي عاد لبيته الأساسي في «أرامكو» ليتولى مهام الإشراف على استراتيجية التحول المتسارعة التي أطلقتها الشركة لتتحول من منتج للنفط والغاز إلى شركة طاقة متكاملة.
وجاء تعيين الماضي ليعكس أهمية الصين وآسيا بالنسبة لـ«أوبك» عامة وللسعودية خاصة، نظراً لأنها أصبحت الملاذ الآمن لصادرات دول المنظمة في ظل توجه الولايات المتحدة لتقليل وارداتها النفطية والاعتماد على الإنتاج المحلي الذي ازداد هذا العام ليصل لمعدلات لم يصلها منذ عام 1983 بفضل النفط الصخري. وتبدو أهمية آسيا واضحة للسعودية إذ من بين كل 10 براميل تنتجها «أرامكو» يتم شحن 5 ونصف منها إلى أسواق آسيا.
السنوات الصعبة في الصين
وعندما أعلنت السعودية عن تعيينها للماضي في «أوبك» لم يكن هناك كثير ممن يعرفونه لأنه قضى سبع سنوات في آسيا بعيداً عن أعين الجميع، وهناك من تصور أن الماضي الذي تم تعيينه هو نفسه الرئيس التنفيذي لشركة «سابك» والذي يحمل نفس الاسم الأول واسم العائلة.
وذهب الماضي إلى آسيا في عام 2007 مديرا عاما لفرع «أرامكو» السعودية في الصين وبعد 5 سنوات انتقل إلى كوريا الجنوبية في 2012 مديرا عاما لفرع الشركة، وهو المنصب الذي شغله حتى تم تعيينه في «أوبك».
وسألت «الشرق الأوسط» شخصاً آخر ممن عملوا معه عن أهم إنجازات الماضي خلال السنوات التي عمل فيها الصين فقال: «انظر إلى أرقام مبيعات النفط الخام السعودي في الصين خلال تلك الفترة حتى تعرف إنجازاته فالأرقام لا تكذب».
وبناء على أرقام الجمارك الصينية التي قامت «الشرق الأوسط» بجمعها وتحليلها فإن واردات البلد الآسيوي من النفط السعودي كانت تنمو بصورة بسيطة حتى 2007 وهي السنة التي تسلم فيها الماضي زمام الأمور هناك.
ففي عام 2004 كانت الصين تستورد في المتوسط نحو 346 ألف برميل يومياً من النفط السعودي ثم ارتفعت في العام الذي يليه إلى 445 ألف برميل يومياً وواصلت النمو لتصل إلى 479 ألف برميل يومياً في 2006 وهو العام الذي سبق وصول الماضي إلى الصين.
وفي أول عام له في الصين لم تزد واردات النفط الخام كثيراً، إذ ارتفعت 49 ألف عن العام الذي سبقه لتصل إلى 528 ألف برميل في المتوسط بنهاية 2007. ولكنها في العام الثاني له أي في 2008 قفزت قفزة كبيرة جداً لترتفع إلى 730 ألف برميل يومياً.
وفي عام 2009 وهو العام الذي التزمت فيه المملكة مع الـ«أوبك» بتخفيض إنتاجها بشكل كبير، زادت واردات الصين من النفط السعودي رغم أن صادرات المملكة من النفط شهدت انخفاضاً كبيراً. وأظهرت بيانات السعودية الرسمية أن إجمالي صادرات المملكة إلى كل بلدان العالم من النفط الخام انخفضت بنحو مليون برميل من 6.55 مليون برميل يومياً في يناير (كانون الثاني) لتصل إلى 5.55 مليون برميل يومياً في يونيو (حزيران).
وارتفعت واردات الصين خلال 2009 إلى 842 ألف برميل يومياً في المتوسط من 730 ألف برميل يومياً في 2008 ولم تتوقف عند هذا الحد، بل استمرت في النمو إلى 896 ألف برميل يومياً في 2010 ثم تجاوزت سقف المليون برميل يومياً في 2011 وهو المستوى الذي ظلت عليه حتى 2013. لكن واردات الصين من النفط السعودي لم تتغير كثيراً بين 2012 و2013 وظلت ثابتة عند نفس الرقم في شكل خط مستقيم.

* الثقافة قبل بيع النفط
* ولكن ما السر وراء نمو مبيعات النفط السعودي في الفترة التي تولى فيها الماضي إدارة الصين؟ وهل كان الماضي فعلاً نقطة تحول في المبيعات هناك أم أن الصين كانت ستزيد وارداتها من السعودية بشكل طبيعي دون تدخل أحد، نظراً للنمو الاقتصادي الكبير الذي شهدته خلال الأعوام التي قضاها الماضي هناك؟
الإجابة على السؤال الأول يرويها أحد الأشخاص الذين عملوا معه في تلك الفترة والذي يقول: «السر في اهتمام الصينيين في الماضي يكمن في أنه أصبح صينياً في وقت بسيط جداً وبذلك اقترب منهم».
ويضيف قائلاً: «لقد جاء الماضي في 2007 إلى الصين ولكنه بدلاً من أن يبدأ في البيع، فقد كرس أغلب وقته لتعلم اللغة الصينية ومراقبة الناس والمجتمع والانخراط فيه وتعلم ثقافاتهم. بهذا تمكن من اختراق الزبائن الصينيين».
وتمكن الماضي من إتقان اللغة الصينية خلال الخمس سنوات التي قضاها هناك، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل حصل على الدكتوراه في هندسة البترول من جامعة بكين. وهنا يقول زميله في المكتب: «لقد كنت أراه في بعض الأحيان وهو يدرس بعد انتهاء ساعات العمل. لقد اجتهد كثيراً ولم يضع وقته في الصين غير في العمل أو التعلم. والأهم من هذا أنه كان يقرأ بنهم شديد جداً ويقرأ تقريباً عن كل شيء».
ويقدم المحلل النفطي الكويتي والرئيس التنفيذي السابق لشركة البترول الكويتية العالمية كامل الحرمي إجابة على السؤال الثاني في حديثه إلى «الشرق الأوسط» قائلاً: «(أرامكو) أكبر شركة منتجة للنفط والصين أكبر مستورد للنفط في آسيا ولهذا كلاهما يحتاج للآخر».
ويستطرد الحرمي قائلاً: «إلا أن عضلات (أرامكو) لن تفيد بمفردها في السوق الصينية ما لم يكن هناك مخ يساعدها. ففي الصين التجار عقليتهم واحدة وهي الحصول على الأفضل بالسعر الأقل وكل الدول تريد أن تبيع لهم، ولهذا فإن الأسماء لا تعني لهم كثيراً». ويضيف الحرمي: «أنا لا أعرف الماضي شخصياً ولكني واثق من أن (أرامكو) لن تضع في الصين إلا أقوى رجالها».
وتشهد السوق الصينية منافسة شديدة من كل الدول المصدرة للبترول. فهناك دول مثل أنغولا بدأت في الاقتراب كثيراً من المستوى الذي تصدر به السعودية إلى الصين. وهناك دولة قادمة من الخلق بقوة مثل عمان التي تضاعفت واردات الصين منها خلال عامين فقط.
ولم تكن مساهمة الماضي محصورة في تسويق النفط السعودي، إذ إنه ذهب إلى أبعد من ذلك بحسب ما يوضحه زملاؤه السابقون في الصين، حيث استخدم الماضي لغته الصينية وكل فنون الإقناع التي اكتسبها خلال سنوات عمله في الصين في إقناع شركة «ساينوبك» الصينية في الدخول شريكا في مشروع مصفاة ياسرف الواقعة في مدينة ينبع على ساحل البحر الأحمر بعد أن أعلنت شركة «كونوكو فيلبس» الأميركية انسحابها منه في عام 2010.
وبحسب ما أوضحه زملاء الماضي فإنه هو الذي فتح باب المفاوضات لـ«أرامكو» للدخول شريكا مع شركة بتروتشاينا المملوكة للحكومة الصينية في مشروع مصفاة في إقليم يونان طاقتها التكريرية تقارب 300 ألف برميل يومياً، وهو المشروع الذي لم ينتهِ الطرفان من التفاوض حوله حتى الآن.
ويتمتع الماضي بعلاقات قوية جداً مع رؤساء شركات النفط الصينية ليس فقط لكونه ممثلاً لـ«أرامكو» السعودية، بل لأن الصينيين يحترمون فيه اهتمامه بلغتهم وثقافتهم، بحسب زملائه، الذين أوضحوا كذلك أنه كان قادراً على الحصول على موعد مع رؤساء أكبر الشركات بكل سهولة، وهو أمر افتقر إليه كثير من ممثلي الشركات الخليجية على حد تعبيرهم.

* الماضي «الغورو» و«العراب»
* أما على صعيد العمل فيقول عنه زملاؤه السابقون في الصين، إن أكثر ما يميز الماضي هو التزامه بتحقيق أي هدف يضعه لهم. ويقول أحدهم: «قد أبدو مبالغاً لو قلت إن هذا الرجل لا يحب الاعتراف بكلمة المستحيل ولكن هذه هي الحقيقة. فقط جرب أن تعطيه مهمة وتطلب منه تنفيذها وسترى بنفسك».
ومن بين الأمور الأخرى التي يتميز بها الماضي هو أنه مقاتل عن حقوق زملائه ومرؤوسيه كما يقولون عنه. وهنا يضيف أحد الشباب الذين عملوا معه في مكتب الصين: «أنا شخصياً أعتبره عرابي في الشركة، لأسباب كثيرة أولاً لأنه يقدر كل الأشخاص الذي يعملون بجد ويحارب من أجلهم، وثانياً لأنه كان يتبنى الشباب ويرعانا بصورة شخصية. وحتى عندما أخطئ كان لا يوبخني بل يقول لي الأخطاء لا تهم طالما أننا نتعلم منها ولا نكررها».
وأجمع زملاؤه أن ميزته الأهم هو أنه مفكر استراتيجي ومسوق في نفس الوقت. ويصفه أحدهم بقوله: «الماضي ابن السوق ويجيد مهنة المبيعات والتسويق ولكن الكثيرين غير الماضي يجيدونها مثله، إلا أن ما يميزه عن غيره أنه كان مخططا استراتيجيا ويبني التسويق على أساس استراتيجيات وخطط طويلة المدى».
وتحمل السيرة الذاتية للماضي الكثير من الأمور الغريبة أولها هو أنه بدأ حياته العملية بعيداً عن قطاع النفط، وثانيها هو أنه نادرا ما استمر في وظيفة ما لأكثر من 5 سنوات ولعل هذه هي السمة الأبرز في مشواره العملي. وبدأ الماضي مشواره العملي في القطاع المصرفي عندما التحق بفرع البنك السعودي الفرنسي في الدمام في عام 1983 على وظيفة مسؤول الائتمان بعد تخرجه في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
وفي عام 1988 التحق بالشركة السعودية للكهرباء منسقا للميزانيات الرأسمالية، ليقترب بذلك خطوة من «أرامكو» السعودية التي التحق بها في عام 1991 في قسم التخطيط بعيد المدى بنفس مسمى وظيفته السابقة. وفي عام 1996 انتقل إلى وحدة تحليل الأعمال التابعة للشركة محللا أعلى للطاقة.
وفي عام 2001، أي في بدايات نمو الطلب الصيني على النفط السعودي، انتقل الماضي إلى قسم تسويق وإمدادات النفط على وظيفة مدير التسويق، ولعل هذه الوظيفة هي التي فتحت عينه على سوق النفط الآسيوي وعلى زبائن المملكة. ويقول أحد الأشخاص الذين عملوا معه في التسويق في تلك الفترة: «كان من أفضل الأشخاص الذين يسعرون النفط السعودي، ولذلك كان البعض يلقبه بـ(الغورو) أي المعلم».
وفي عام 2007 بدأ الماضي رحلته الآسيوية واقترب أكثر من زبائن «أرامكو» عندما التحق بشركة البترول السعودية الصينية التابعة لـ«أرامكو» نائبا للرئيس الإقليمي قبل أن يحط رحاله في كوريا في عام 2012.
والآن يجلس الماضي على كرسي محافظ السعودية في «أوبك» ساحباً معه سنوات طويلة من تسويق وتسعير وبيع النفط في السوق، وهو أمر لم يتوفر في أخر ثلاثة محافظين سبقوه إلى المنصب، وهم ياسر المفتي الذي كانت خلفيته في معظمها فنية في إنتاج النفط والغاز، أو الدكتور ماجد المنيف والذي كان اقتصادياً، أو سليمان الحربش الذي دخل لمنصب محافظ الأوبك من خلال بوابة وزارة البترول واستمر فيه لمدة 13 عاماً.
ومجلس المحافظين هو أعلى جهاز في «أوبك» بعد المؤتمر الوزاري والذي يتكون من وزراء المنظمة. ومهمة المجلس هي تطبيق كل قرارات وتوصيات الوزراء، والموافقة على ميزانية والتعيينات في المنظمة إضافة إلى تقديم توصيات للوزراء بكل ما يخص المنظمة ومراجعة أي تقرير من الأمين العام مقدم للوزراء.
إذن ماذا سيضيف شخص مثل الماضي للمنظمة ولمجلس المحافظين؟ يجيبب أحد زملائه على هذا السؤال قائلاً: «من الصعب التكهن بماذا يمكن أن يضيفه، فهو لم يكمل عامه الأول في (أوبك) ولكن أفضل ما يجيده الماضي هو التفكير الاستراتيجي والتخطيط المستقبلي ومعرفة اتجاهات السوق بناء على انطباعات الزبائن. وإذا وضعت هذه الأمور في ممثل أكبر منتج نفطي في مجلس المحافظين في (أوبك) فإن المجلس سيقترب أكثر من السوق وسيضع يده على نبضه». ويبقى السؤال الأخير هو هل سيكون الماضي موجوداً في مجلس محافظي «أوبك» في 2020 أم أنه سيمارس هوايته المفضلة وينتقل إلى وظيفة أخرى عقب 5 سنوات من الآن؟



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.