التنين السعودي في «أوبك»

محمد الماضي محافظ المملكة في «أوبك».. أمام أهم اختبار للمنظمة منذ 1990

التنين السعودي في «أوبك»
TT

التنين السعودي في «أوبك»

التنين السعودي في «أوبك»

في يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) من عام 2008 كان السعودي محمد الماضي يجلس في مكتبه
في العاصمة الصينية بكين ليتابع أعمال «أرامكو» السعودية في السوق الصينية التي أصبحت ثاني
أهم سوق نفطية في العالم بعد الولايات المتحدة بعد أن أخذت تشتري النفط بدءاً من عام 2000 بكميات مهولة.
وفي نفس ذلك اليوم وعلى بعد آلاف الكيلومترات في مدينة وهران الجزائرية عقد وزراء منظمة البلدان المصدر
ة للبترول (أوبك) اجتماعاً طارئاً غير عادي واتفقوا فيه «وهذه أحد المرات النادرة التي تتفق فيها المنظمة»
على أن يخفضوا الإنتاج بنحو 4.2 مليون برميل يومياً ابتداء من أول أيام السنة الجديدة 2009 لإنقاذ أسعار النفط من الانهيار الكبير الذي ضربها ذلك العام. إذ إن أسعار النفط هبطت من 147 دولاراً في يوليو (تموز)
2008 لتصل إلى أقل من 40 دولاراً قبل وقت الاجتماع في ديسمبر.
لم يترك وزراء النفط «أوبك» في وهران الكثير من المساحة للتفكير أمام الماضي في بكين والذي كان حينها قد أوشك أن يكمل عامه الثاني في الصين رئيسا لفرع «أرامكو» هناك. فمن جهة كان عليه أن يزيد مبيعات «أرامكو» ومن جهة فهو عليه أن يلتزم بالتخفيض الذي أقرته المنظمة، حيث إن المملكة هي القائد الفعلي لـ«أوبك»، لذا عليها الالتزام بتخفيض إنتاجها أكثر من الجميع.
ويقول أحد الأشخاص الذين عملوا معه في تسويق النفط في الصين في تلك الفترة لـ«الشرق الأوسط»: «لقد كان عام 2009 أكبر تحد واجهناه ونحن في الصين فالمطلوب من (أرامكو) بناء على قرار (أوبك) أن تخفض إنتاجها حتى ترتفع الأسعار. لقد كان تحديا كبيرا لنا أن نبيع المزيد من النفط حينها».
* التنين من بكين إلى فيينا
* ووسط هذه الظروف الصعبة نجحت السعودية وباقي «أوبك» في انتشال سعر النفط من الهبوط وبدأت الأسعار تشق طريقها للأعلى خلال 2009 بعد التخفيض الكبير في الإنتاج. ونجح الماضي كذلك هو وفريقه في تحقيق معجزة مماثلة، إذ إن مبيعات «أرامكو» السعودية في الصين زادت سنوياً بين 2008 إلى 2010 رغماً عن الركود العالمي الذي ضرب الأسواق حينها ورغماً عن إبقاء «أوبك» إنتاجها منخفضاً حتى تتوازن السوق وترتفع الأسعار.
ويعلق نفس الشخص على ذلك قائلاً: «لم نصدق أن ذلك سوف يحدث، ولكن الماضي بذل جهداً كبيراً حينها حتى تبيع (أرامكو) نفطاً أكثر. لقد كانت عزيمته على تثبيت قدم (أرامكو) في الصين حينها أكبر من كل الظروف والتحديات».
ويضيف الشخص الذي رفض ذكر اسمه: «الصين بلد التنانين وأن تبيع على الصينيين شيئاً فهذا ليس بالأمر السهل ما لم تكن تنيناً، وهذا ما كان عليه الماضي. لقد كان التنين السعودي في الصين. لقد كان يفكر مثلهم ويتكلم لغتهم الصينية بطلاقة ويعرف أسرارهم».
إلا أن التنين السعودي أو الماضي الذي تأثر كثيراً بقرار «أوبك» لم يدر بخلده حينها أنه بعد مضي 5 سنوات سيترك بكين ويتجه إلى العاصمة النمساوية فيينا مقر الأمانة العامة لـ«أوبك» ليمثل المملكة في نفس المنظمة التي وضعته في 2008 أمام أصعب التحديات.
وفي الخامس من شهر ديسمبر لعام 2013، عينت المملكة الماضي محافظاً جديداً لها في «أوبك» خلفاً للمحافظ السابق ياسر المفتي والذي عاد لبيته الأساسي في «أرامكو» ليتولى مهام الإشراف على استراتيجية التحول المتسارعة التي أطلقتها الشركة لتتحول من منتج للنفط والغاز إلى شركة طاقة متكاملة.
وجاء تعيين الماضي ليعكس أهمية الصين وآسيا بالنسبة لـ«أوبك» عامة وللسعودية خاصة، نظراً لأنها أصبحت الملاذ الآمن لصادرات دول المنظمة في ظل توجه الولايات المتحدة لتقليل وارداتها النفطية والاعتماد على الإنتاج المحلي الذي ازداد هذا العام ليصل لمعدلات لم يصلها منذ عام 1983 بفضل النفط الصخري. وتبدو أهمية آسيا واضحة للسعودية إذ من بين كل 10 براميل تنتجها «أرامكو» يتم شحن 5 ونصف منها إلى أسواق آسيا.
السنوات الصعبة في الصين
وعندما أعلنت السعودية عن تعيينها للماضي في «أوبك» لم يكن هناك كثير ممن يعرفونه لأنه قضى سبع سنوات في آسيا بعيداً عن أعين الجميع، وهناك من تصور أن الماضي الذي تم تعيينه هو نفسه الرئيس التنفيذي لشركة «سابك» والذي يحمل نفس الاسم الأول واسم العائلة.
وذهب الماضي إلى آسيا في عام 2007 مديرا عاما لفرع «أرامكو» السعودية في الصين وبعد 5 سنوات انتقل إلى كوريا الجنوبية في 2012 مديرا عاما لفرع الشركة، وهو المنصب الذي شغله حتى تم تعيينه في «أوبك».
وسألت «الشرق الأوسط» شخصاً آخر ممن عملوا معه عن أهم إنجازات الماضي خلال السنوات التي عمل فيها الصين فقال: «انظر إلى أرقام مبيعات النفط الخام السعودي في الصين خلال تلك الفترة حتى تعرف إنجازاته فالأرقام لا تكذب».
وبناء على أرقام الجمارك الصينية التي قامت «الشرق الأوسط» بجمعها وتحليلها فإن واردات البلد الآسيوي من النفط السعودي كانت تنمو بصورة بسيطة حتى 2007 وهي السنة التي تسلم فيها الماضي زمام الأمور هناك.
ففي عام 2004 كانت الصين تستورد في المتوسط نحو 346 ألف برميل يومياً من النفط السعودي ثم ارتفعت في العام الذي يليه إلى 445 ألف برميل يومياً وواصلت النمو لتصل إلى 479 ألف برميل يومياً في 2006 وهو العام الذي سبق وصول الماضي إلى الصين.
وفي أول عام له في الصين لم تزد واردات النفط الخام كثيراً، إذ ارتفعت 49 ألف عن العام الذي سبقه لتصل إلى 528 ألف برميل في المتوسط بنهاية 2007. ولكنها في العام الثاني له أي في 2008 قفزت قفزة كبيرة جداً لترتفع إلى 730 ألف برميل يومياً.
وفي عام 2009 وهو العام الذي التزمت فيه المملكة مع الـ«أوبك» بتخفيض إنتاجها بشكل كبير، زادت واردات الصين من النفط السعودي رغم أن صادرات المملكة من النفط شهدت انخفاضاً كبيراً. وأظهرت بيانات السعودية الرسمية أن إجمالي صادرات المملكة إلى كل بلدان العالم من النفط الخام انخفضت بنحو مليون برميل من 6.55 مليون برميل يومياً في يناير (كانون الثاني) لتصل إلى 5.55 مليون برميل يومياً في يونيو (حزيران).
وارتفعت واردات الصين خلال 2009 إلى 842 ألف برميل يومياً في المتوسط من 730 ألف برميل يومياً في 2008 ولم تتوقف عند هذا الحد، بل استمرت في النمو إلى 896 ألف برميل يومياً في 2010 ثم تجاوزت سقف المليون برميل يومياً في 2011 وهو المستوى الذي ظلت عليه حتى 2013. لكن واردات الصين من النفط السعودي لم تتغير كثيراً بين 2012 و2013 وظلت ثابتة عند نفس الرقم في شكل خط مستقيم.

* الثقافة قبل بيع النفط
* ولكن ما السر وراء نمو مبيعات النفط السعودي في الفترة التي تولى فيها الماضي إدارة الصين؟ وهل كان الماضي فعلاً نقطة تحول في المبيعات هناك أم أن الصين كانت ستزيد وارداتها من السعودية بشكل طبيعي دون تدخل أحد، نظراً للنمو الاقتصادي الكبير الذي شهدته خلال الأعوام التي قضاها الماضي هناك؟
الإجابة على السؤال الأول يرويها أحد الأشخاص الذين عملوا معه في تلك الفترة والذي يقول: «السر في اهتمام الصينيين في الماضي يكمن في أنه أصبح صينياً في وقت بسيط جداً وبذلك اقترب منهم».
ويضيف قائلاً: «لقد جاء الماضي في 2007 إلى الصين ولكنه بدلاً من أن يبدأ في البيع، فقد كرس أغلب وقته لتعلم اللغة الصينية ومراقبة الناس والمجتمع والانخراط فيه وتعلم ثقافاتهم. بهذا تمكن من اختراق الزبائن الصينيين».
وتمكن الماضي من إتقان اللغة الصينية خلال الخمس سنوات التي قضاها هناك، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل حصل على الدكتوراه في هندسة البترول من جامعة بكين. وهنا يقول زميله في المكتب: «لقد كنت أراه في بعض الأحيان وهو يدرس بعد انتهاء ساعات العمل. لقد اجتهد كثيراً ولم يضع وقته في الصين غير في العمل أو التعلم. والأهم من هذا أنه كان يقرأ بنهم شديد جداً ويقرأ تقريباً عن كل شيء».
ويقدم المحلل النفطي الكويتي والرئيس التنفيذي السابق لشركة البترول الكويتية العالمية كامل الحرمي إجابة على السؤال الثاني في حديثه إلى «الشرق الأوسط» قائلاً: «(أرامكو) أكبر شركة منتجة للنفط والصين أكبر مستورد للنفط في آسيا ولهذا كلاهما يحتاج للآخر».
ويستطرد الحرمي قائلاً: «إلا أن عضلات (أرامكو) لن تفيد بمفردها في السوق الصينية ما لم يكن هناك مخ يساعدها. ففي الصين التجار عقليتهم واحدة وهي الحصول على الأفضل بالسعر الأقل وكل الدول تريد أن تبيع لهم، ولهذا فإن الأسماء لا تعني لهم كثيراً». ويضيف الحرمي: «أنا لا أعرف الماضي شخصياً ولكني واثق من أن (أرامكو) لن تضع في الصين إلا أقوى رجالها».
وتشهد السوق الصينية منافسة شديدة من كل الدول المصدرة للبترول. فهناك دول مثل أنغولا بدأت في الاقتراب كثيراً من المستوى الذي تصدر به السعودية إلى الصين. وهناك دولة قادمة من الخلق بقوة مثل عمان التي تضاعفت واردات الصين منها خلال عامين فقط.
ولم تكن مساهمة الماضي محصورة في تسويق النفط السعودي، إذ إنه ذهب إلى أبعد من ذلك بحسب ما يوضحه زملاؤه السابقون في الصين، حيث استخدم الماضي لغته الصينية وكل فنون الإقناع التي اكتسبها خلال سنوات عمله في الصين في إقناع شركة «ساينوبك» الصينية في الدخول شريكا في مشروع مصفاة ياسرف الواقعة في مدينة ينبع على ساحل البحر الأحمر بعد أن أعلنت شركة «كونوكو فيلبس» الأميركية انسحابها منه في عام 2010.
وبحسب ما أوضحه زملاء الماضي فإنه هو الذي فتح باب المفاوضات لـ«أرامكو» للدخول شريكا مع شركة بتروتشاينا المملوكة للحكومة الصينية في مشروع مصفاة في إقليم يونان طاقتها التكريرية تقارب 300 ألف برميل يومياً، وهو المشروع الذي لم ينتهِ الطرفان من التفاوض حوله حتى الآن.
ويتمتع الماضي بعلاقات قوية جداً مع رؤساء شركات النفط الصينية ليس فقط لكونه ممثلاً لـ«أرامكو» السعودية، بل لأن الصينيين يحترمون فيه اهتمامه بلغتهم وثقافتهم، بحسب زملائه، الذين أوضحوا كذلك أنه كان قادراً على الحصول على موعد مع رؤساء أكبر الشركات بكل سهولة، وهو أمر افتقر إليه كثير من ممثلي الشركات الخليجية على حد تعبيرهم.

* الماضي «الغورو» و«العراب»
* أما على صعيد العمل فيقول عنه زملاؤه السابقون في الصين، إن أكثر ما يميز الماضي هو التزامه بتحقيق أي هدف يضعه لهم. ويقول أحدهم: «قد أبدو مبالغاً لو قلت إن هذا الرجل لا يحب الاعتراف بكلمة المستحيل ولكن هذه هي الحقيقة. فقط جرب أن تعطيه مهمة وتطلب منه تنفيذها وسترى بنفسك».
ومن بين الأمور الأخرى التي يتميز بها الماضي هو أنه مقاتل عن حقوق زملائه ومرؤوسيه كما يقولون عنه. وهنا يضيف أحد الشباب الذين عملوا معه في مكتب الصين: «أنا شخصياً أعتبره عرابي في الشركة، لأسباب كثيرة أولاً لأنه يقدر كل الأشخاص الذي يعملون بجد ويحارب من أجلهم، وثانياً لأنه كان يتبنى الشباب ويرعانا بصورة شخصية. وحتى عندما أخطئ كان لا يوبخني بل يقول لي الأخطاء لا تهم طالما أننا نتعلم منها ولا نكررها».
وأجمع زملاؤه أن ميزته الأهم هو أنه مفكر استراتيجي ومسوق في نفس الوقت. ويصفه أحدهم بقوله: «الماضي ابن السوق ويجيد مهنة المبيعات والتسويق ولكن الكثيرين غير الماضي يجيدونها مثله، إلا أن ما يميزه عن غيره أنه كان مخططا استراتيجيا ويبني التسويق على أساس استراتيجيات وخطط طويلة المدى».
وتحمل السيرة الذاتية للماضي الكثير من الأمور الغريبة أولها هو أنه بدأ حياته العملية بعيداً عن قطاع النفط، وثانيها هو أنه نادرا ما استمر في وظيفة ما لأكثر من 5 سنوات ولعل هذه هي السمة الأبرز في مشواره العملي. وبدأ الماضي مشواره العملي في القطاع المصرفي عندما التحق بفرع البنك السعودي الفرنسي في الدمام في عام 1983 على وظيفة مسؤول الائتمان بعد تخرجه في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
وفي عام 1988 التحق بالشركة السعودية للكهرباء منسقا للميزانيات الرأسمالية، ليقترب بذلك خطوة من «أرامكو» السعودية التي التحق بها في عام 1991 في قسم التخطيط بعيد المدى بنفس مسمى وظيفته السابقة. وفي عام 1996 انتقل إلى وحدة تحليل الأعمال التابعة للشركة محللا أعلى للطاقة.
وفي عام 2001، أي في بدايات نمو الطلب الصيني على النفط السعودي، انتقل الماضي إلى قسم تسويق وإمدادات النفط على وظيفة مدير التسويق، ولعل هذه الوظيفة هي التي فتحت عينه على سوق النفط الآسيوي وعلى زبائن المملكة. ويقول أحد الأشخاص الذين عملوا معه في التسويق في تلك الفترة: «كان من أفضل الأشخاص الذين يسعرون النفط السعودي، ولذلك كان البعض يلقبه بـ(الغورو) أي المعلم».
وفي عام 2007 بدأ الماضي رحلته الآسيوية واقترب أكثر من زبائن «أرامكو» عندما التحق بشركة البترول السعودية الصينية التابعة لـ«أرامكو» نائبا للرئيس الإقليمي قبل أن يحط رحاله في كوريا في عام 2012.
والآن يجلس الماضي على كرسي محافظ السعودية في «أوبك» ساحباً معه سنوات طويلة من تسويق وتسعير وبيع النفط في السوق، وهو أمر لم يتوفر في أخر ثلاثة محافظين سبقوه إلى المنصب، وهم ياسر المفتي الذي كانت خلفيته في معظمها فنية في إنتاج النفط والغاز، أو الدكتور ماجد المنيف والذي كان اقتصادياً، أو سليمان الحربش الذي دخل لمنصب محافظ الأوبك من خلال بوابة وزارة البترول واستمر فيه لمدة 13 عاماً.
ومجلس المحافظين هو أعلى جهاز في «أوبك» بعد المؤتمر الوزاري والذي يتكون من وزراء المنظمة. ومهمة المجلس هي تطبيق كل قرارات وتوصيات الوزراء، والموافقة على ميزانية والتعيينات في المنظمة إضافة إلى تقديم توصيات للوزراء بكل ما يخص المنظمة ومراجعة أي تقرير من الأمين العام مقدم للوزراء.
إذن ماذا سيضيف شخص مثل الماضي للمنظمة ولمجلس المحافظين؟ يجيبب أحد زملائه على هذا السؤال قائلاً: «من الصعب التكهن بماذا يمكن أن يضيفه، فهو لم يكمل عامه الأول في (أوبك) ولكن أفضل ما يجيده الماضي هو التفكير الاستراتيجي والتخطيط المستقبلي ومعرفة اتجاهات السوق بناء على انطباعات الزبائن. وإذا وضعت هذه الأمور في ممثل أكبر منتج نفطي في مجلس المحافظين في (أوبك) فإن المجلس سيقترب أكثر من السوق وسيضع يده على نبضه». ويبقى السؤال الأخير هو هل سيكون الماضي موجوداً في مجلس محافظي «أوبك» في 2020 أم أنه سيمارس هوايته المفضلة وينتقل إلى وظيفة أخرى عقب 5 سنوات من الآن؟



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.