الرياض تطوي شوارعها وتنصت لليل «كورونا»

أحد شوارع الرياض كما بدا أول أيام منع التجول (تصوير: أحمد فتحي)
أحد شوارع الرياض كما بدا أول أيام منع التجول (تصوير: أحمد فتحي)
TT

الرياض تطوي شوارعها وتنصت لليل «كورونا»

أحد شوارع الرياض كما بدا أول أيام منع التجول (تصوير: أحمد فتحي)
أحد شوارع الرياض كما بدا أول أيام منع التجول (تصوير: أحمد فتحي)

لم تكد الرياض تنهض من غفوتها الطويلة، وترتدي فستان فرح من نور، وترقص في موسمها الفاتن، وترسل ألعابها النارية، وتفتح دور السينما فيها، ويرى الناس بعضهم في الأماكن العامة، في «البوليفارد»، «رياض بارك»، «واجهة الرياض»... حتى عادوا بإرادتهم إلى منازلهم، وسجنوا أنفسهم فيها، متسلحين بالمنظفات والمطهرات والمعقمات. كنت أفكر كيف أصبحت الرياض خضراء تماماً في «غوغل مابس».
لم تعد ألوان الأحمر والبرتقالي ظاهرة في شبكة عاصمة ضخمة. ملايين السيارات اختبأت في كراجاتها، فلم يعد الطريق من بيتي أقصى شمالها إلى الوزارة بحي الوزارات يحتاج إلى ساعة، وإنما عشرون دقيقة كافية لقطع ثلاثين كيلومتراً. ما الذي يحدث في مدينة البهجة والمتعة؟ كيف أصبحت موحشة، ناسها يخرجون من منازلهم حذرين كلصوص؟ كماماتهم أقنعة تخفي ملامحهم الطيبة، وقفازاتهم تنذر بجريمة محتملة. كنت أتساءل: كيف أتحاشى عدوي؟ كيف أهرب منه وهو معي؟ هو ليس لصاً، أو قاتلاً مأجوراً، أو محتلاً يغزو شوارع مدينتي الحبيبة. إنها يدي فقط، يدي تتربص بي!
يدي التي أكتب بها، صارت عدوي. أصابعي عشر رصاصات مصوبة إلى أنفاسي. كل شيء ألمسه وأحمله هو لغم مؤقت. آلة الصرافة والأصابع الغريبة التي همزتها قبلي. عربة السوبرماركت. البضاعة على الرفوف.
أكياس النايلون. الرجل السمين ذو الكمامة حين يصادفني في أحد الممرات فأكتم أنفاسي حتى يعبر، وفي المرات اللاحقة أتحاشى الممرات التي يجمع منها مؤنته. من قال أصلًا أنني أبحث عن زبدة الفول السوداني؟ ولست في حاجة أساساً إلى معجون وشفرة حلاقة. قالوا إن المشكلة في المرحلة التالية، حين ترفع يدك الملوثة بالفيروس إلى وجهك. يا إلهي، كيف أضبط هذه العلاقة اللعينة بين يدي ووجهي؟ لماذا لم يخترع الصينيون الذين ورّطوا العالم بفيروسهم جهازاً يطلق رنيناً كإنذار الحريق، يضجُّ كلما مددتُ يدي إلى وجهي؟ في المرة الثانية حين ذهبت إلى السوبرماركت وجدت عند مدخله معقمات وقفازات.
هنا صار الأمر أسهل. نعم أدفع العربة محتمياً بقفازاتي، وألمس المواد والأشياء دون خوف. لكن الأمر ما زال مستمراً مع المتسوقين، مع أن شماغي هذه المرة أنقذني.
كنت مثل قاطع طريق، أو بدوي في صحراء ألفّه حول فمي وأنفي. يا له من فيروس جعلنا غير أسوياء. مرتبكون وقلقون، وربما متسولون أحياناً. كانت دهشتي كبيرة في المستشفى حين وجدت امرأة تعبئ علبة بلاستيكية فارغة من سائل المعقم المثبت على الجدار. كنت في صالة الانتظار صباحاً أحدِّق بالمرأة، وبالشاب الذي يصنع قهوة. وددت أن أبتاع كوب قهوة أميركية، لكنني ترددت وجلاً.
حين عدت إلى المنزل، كان طريق التخصصي خفيفاً، مما يتطلب الحذر من كاميرات مراقبة السرعة المتربصة. معظم المحال كانت مغلقة. انعطفت يميناً من طريق الإمام سعود، باتجاه الشرق، كانت الأنفاق خالية، موحشة أحيانًا.
كم مرة شتمت الزحام، ولعنت السائقين المتهورين، واليوم أقود سيارتي وحيداً، باستثناء سيارتين أو ثلاث؟ حتى المخرج المزدحم عادةً بجوار النخيل مول الذي تتحارب فيه العربات مثل ديناصورات، كان خالياً، فكنت وحدي أتمطى بديناصوري الرمادي، حتى وقفت أمام مقهى «لوركا»، حيث المواقف خالية تماماً، بينما كنت سابقاً أضطر إلى الالتفاف داخل الحي مرتين أو ثلاثاً حتى أجد موقفاً شاغراً.
هذه المرة وقفت بشكل طولي. لمحني جوني الفلبيني من خلف الزجاج، أشار بإبهامه نحوي، فقد اعتاد طلبي منذ سنوات، ثم جاء نحوي بكمامة وقفازين دون أن يخشى الديناصور الرمادي. جاء واثقاً حاملاً كوب قهوتي الفرنسية، وبيده الأخرى آلة السحب، وضعت بطاقتي البنكية على شاشتها، ومضيت وحيداً وغريباً في غابة لا أعرفها!
لماذا أشعر بكل هذه الوحشة، والحالات المصابة بالوباء بالكاد تتجاوز خمسمائة فقط، ماذا لو تضاعفت عشرات المرات، لو عجزت المستشفيات القائمة والميدانية عن استيعابها، لو تناثرت الجثث في الطرقات، كما تروي جدتي عن قرى نجد زمن الطاعون، حيث يموت الناس عند أبواب بيوتهم الخشبية؟ ماذا لو انهار النظام الصحي، وتصدع الأمن الغذائي، وأصبحت المدينة غابة، وإنسانها ذئباً؟ كنت أحاصر مخيلتي الشرسة، لكنها تحاصرني، ولا أعرف كيف لمحت هذا الفيروس اللعين بتيجانه المقززة، وهو ينتظر يدي تلتف حول الكوب الورقي لقهوتي الفرنسية. سحبتُ منديلاً ورقيّاً ولففته حول الكوب، ورفعته إلى شفتيَّ، وما أن تسللت القهوة حتى شعرت بمرارة مصحوبة بالصدأ، هل فعلاً لم أتذوق حلاوة البندق المعتادة، أم يهيأ لي؟
استدرت من طريق عثمان، ولم تكن المقاهي كالعادة تنشر طاولاتها خارجاً، بل كانت تعمل بنظام البيع للسيارات. رصيف المشاة كان خالياً وحزيناً، ونوافذ الشقق المطلة مضاءة. أسفل منها ترقد العربات كقطط متوحشة، بينما صوت المؤذن ينادي لصلاة العشاء، ويردِّد بحزن: «صلوا في رحالكم». كنت أتخيل المدينة بعد حظر التجول. صمت طرقها السريعة، ليلها الذي ينصت إلى الصراصير، محالها المهجورة، اختفاء عمالها المتجولين، ناسها المنسحبين، أو المتحولين إلى عالمها الافتراضي. البيوت هشتَّ بأهلها، والأطفال يشعلون صالاتها ضجيجاً. الرجال الذين اكتشفوا بيوتهم المهجورة، شاكسوا صغارهم، وشاركوهم ألعابهم. الزوجات الغائبات شممن رائحة المطبخ، ورائحة أطفالهن وأزواجهن وهنّ يحلقن رؤوسهم، ينثرن شعرهم على بلاط السيراميك في دورات المياه. الضحكات مرة، والصراخ مرات. لم أتخيل كيف تنام الرياض باكراً مثل قرية صغيرة، تطوي شوارعها وتضعها في خزانة الغد، الغد الذي يعدُ بالأمل والذكريات. فلا شيء يبقى من وباء «كورونا» سوى الحكايات والذكريات.
- روائي سعودي


مقالات ذات صلة

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)
صحتك امرأة تعاني من «كورونا طويل الأمد» في فلوريدا (رويترز)

دراسة: العلاج النفسي هو الوسيلة الوحيدة للتصدي لـ«كورونا طويل الأمد»

أكدت دراسة كندية أن «كورونا طويل الأمد» لا يمكن علاجه بنجاح إلا بتلقي علاج نفسي.

«الشرق الأوسط» (أوتاوا)
صحتك «كوفيد طويل الأمد»: حوار طبي حول أحدث التطورات

«كوفيد طويل الأمد»: حوار طبي حول أحدث التطورات

يؤثر على 6 : 11 % من المرضى

ماثيو سولان (كمبردج (ولاية ماساشوستس الأميركية))

فيصل بن فرحان يناقش المستجدات السورية مع بيدرسون

الأمير فيصل بن فرحان في لقاء سابق مع بيدرسون بمقر وفد السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك (واس)
الأمير فيصل بن فرحان في لقاء سابق مع بيدرسون بمقر وفد السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك (واس)
TT

فيصل بن فرحان يناقش المستجدات السورية مع بيدرسون

الأمير فيصل بن فرحان في لقاء سابق مع بيدرسون بمقر وفد السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك (واس)
الأمير فيصل بن فرحان في لقاء سابق مع بيدرسون بمقر وفد السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك (واس)

ناقش الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي، مع غير بيدرسون المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا، مستجدات الأوضاع السورية.

جاء ذلك في اتصال هاتفي تلقاه وزير الخارجية السعودي من المبعوث الأممي إلى سوريا، الأربعاء.

وزير الخارجية السعودي ونظيرته الإسواتينية عقب التوقيع على اتفاقية التعاون في الرياض الأربعاء (واس)

ولاحقاً، وقّع الأمير فيصل بن فرحان وفوليلي شاكانتو وزيرة خارجية إسواتيني على اتفاقية عامة للتعاون بين حكومتي البلدين، عقب مباحثات أجراها الجانبان في العاصمة الرياض، تناولت سبل تنمية التعاون المشترك في مختلف المجالات.

واستقبل الأمير فيصل بن فرحان في وقت لاحق شاكانتو، يرافقها الأمير لينداني ابن ملك إسواتيني عضو البرلمان، في ديوان وزارة الخارجية السعودي، حيث جرى خلال الاستقبال استعراض العلاقات الثنائية بين البلدين.