«كورونا» والعزلة و«السوشيال ميديا»

«كورونا» والعزلة  و«السوشيال ميديا»
TT

«كورونا» والعزلة و«السوشيال ميديا»

«كورونا» والعزلة  و«السوشيال ميديا»

يتفق قطاع كبير من علماء النفس على أن الإنسان «كائن اجتماعي»، وأن بناء علاقات اجتماعية آمنة ومجزية من احتياجاته الجوهرية، فالعزلة لا توافق أهدافه.
ومع ذلك، فقد فُرضت العزلة على الإنسان كثيراً، لأسباب مختلفة، حتى إن البعض رأى أن يفرضها على نفسه؛ ومن بين هؤلاء ميشيل دي مونتين (1533 - 1592)، الذي يُوصف بأنه أحد أكثر الفرنسيين تأثيراً في عصر النهضة. لقد فرض هذا المفكر العزلة على نفسه في مطلع حياته، وبقي سنوات يبني معرفته، ويُخصب ثقافته، ويحتشد عقلياً ونفسياً، حتى بدأت كتاباته في الظهور في عام 1571، لتحقق اختراقاً، اُعتبر تمهيداً مهماً لولوج عصر النهضة.
يفترض معظم أطباء الصحة النفسية أن قدرة الإنسان على الاختلاط وبناء العلاقات الاجتماعية دليل صحة وقوة، لكن عالم النفس دونالد وينيكوت بات، في خمسينيات القرن الفائت، أحد القلائل الذين يتحدون ذلك؛ إذ اعتبر أن «القدرة على احتواء العزلة عنصر صحة ودليل تفوق».
يعيش قطاع من العالم في عزلة اليوم تحت تهديد «كورونا»، لكن تلك العزلة لم تكتمل مقوماتها كالعزلة التي قررها دي مونتين لنفسه؛ وهي أيضاً لا تظهر كدليل صحة وتفوق، كما يرى وينيكوت.
يقول دي مونتين في التأصيل لعزلته: «على المرء أن يفصل ويسترد نفسه. يجب أن نحتفظ بمساحة لأنفسنا، خصوصاً بنا دون غيرنا، نؤسس فيها لحريتنا، ونجني ثمار الانزواء»، وهو لم يقصر أبداً في توضيح كيف أفادته عزلته في انتقاء الأفكار، وتطويرها، وتلقيحها، وبلورتها، وصياغتها، وقد أثبتت أفكاره لاحقاً جدوى وبراعة.
لقد انعزل قطاع من الجمهور تحت وطأة تهديد «كورونا» جسدياً، لكن الفضاء الاتصالي الراهن لم يمكنهم أبداً من قطف ثمار عزلتهم، بل لم يسمح لهم باستكمال أركانها.
لا يجري الحديث هنا عن وسائط الإعلام التي توصف بأنها تقليدية؛ فتلك قد لا تختلف كثيراً عن الكتب والمقالات التي ظل دي مونتين يقرأها في عزلته؛ هي وسائط لا حيل واسعة لها، سطوتها معروفة، وتأثيرها واضح، لكن خطاها ضيقة، ومداها يمكن تحديده.
الحديث يجري هنا عن وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت على مرمى حجر تقريباً من «إنهاء عهد العزلة»، ليس بوصفها فقط نقطة اتصال دائمة وملحة، ولكن باعتبارها كذلك أكبر غواية للانخراط والتفاعل.
بسبب «السوشيال ميديا»، باتت البشرية أقل قدرة على اختبار مبدأ العزلة الحقيقية، وربما يأتي لاحقاً من يثبت لنا، بأدوات علمية، أن «كورونا»، وغيره من الأوبئة ومصادر الإكراه، يمكن أن ينهي حياة مئات الآلاف، ويحبس مئات الملايين في منازلهم، لكنه غير قادر على فرض العزلة.
كان بيار بورديو، السوسيولوجي الفرنسي، هو من تحدث عن وسائل الإعلام بوصفها أدوات للقمع الرمزي، ورصد قدرتها على تسخير المجموع لتداول أفكار يُراد لها الرواج، لكنه ذهب إلى ما هو أهم من ذلك حين أطلق تعبير «الهابيتوس» (L’HABITUS)، بوصفه مفهوماً مركزياً يشير إلى عقلية تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون وللعالم، وطاقة فعلية توجه الجماعة وتقود أفرادها.
في اجتماعنا الدائم على وسائل التواصل الاجتماعي نفي لعزلة دي مونتين، وبسبب هذا الاجتماع تكرس «الهابيتوس»، ومعه آليات العنف الرمزي.
نستيقظ كل يوم مدفوعين برغبة عارمة في الاتصال، في عالمنا المفرط في الاتصال (Hyper - Connected)، نتواصل مع من نعرف، ومن لا نعرف، نطلب مؤانسة دائمة عبر الوسائط، نطالع الرسائل الواردة مرات، ونعيد قراءة ما نرسل مرات، ونحزن لو مر الوقت من دون أن نتصل ونتفاعل.
تلك الوسائط توشك على إنهاء عهد العزلة، ورغم أنها انطوت على مزايا فريدة، لكنها أبقتنا رهن أمرها وضمن إيقاعها؛ وهو أمر سيحرمنا عوائد العزلة، والتأمل، والاحتشاد، والتفكير في ما جرى وفي المآل.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.