برامج صندوق النقد الدولي في الميزان

متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
TT

برامج صندوق النقد الدولي في الميزان

متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)

منذ اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان، التي سبقت أزمة كورونا، بدأ الجدل يحتدم حول سبل العلاج. والملف الأبرز الذي فتح في هذا المجال تركز على الحاجة إلى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي، وتفاوت النقاش، الذي أخذ في لبنان طابعاً سياسياً وحتى طائفياً كما هي العادة، بين قائلين بأن يقتصر دور الصندوق على طلب المشورة، وآخرين يدعون إلى تدخل مباشر لصندوق النقد عبر حزمة إنقاذ مالية ترافقها الشروط والضوابط التي يفرضها المسؤولون في الصندوق على خطة التمويل، أسوة بما حصل مع دول أخرى في المنطقة العربية وحول العالم، مرت بظروف مشابهة.
وهكذا تحول التعامل مع صندوق النقد الدولي إلى قضية توازي بأهميتها قضية الانهيار المالي ذاته، الذي واجهه اللبنانيون للمرة الأولى في تاريخهم، مع إعلان الحكومة عجزها عن تسديد دفعة من السندات التي استحقت في مطلع الشهر الحالي.
في هذه الصفحة من قضايا نعرض مواقف من تجربتين عربيتين للتعامل مع صندوق النقد الدولي من خلال مقالين: للدكتور تيسير الصمادي وزير التخطيط والتعاون الدولي السابق في الأردن، والدكتور أحمد جلال وزير المالية المصري السابق، بالإضافة إلى رأي الخبير الاقتصادي اللبناني الدكتور جو سروع.

شهدت المنطقة العربية نشاطاً غير مسبوق لصندوق النقد الدولي في السنوات التالية للربيع العربي عام 2011. في الدول غير النفطية، مثل الأردن وتونس ومصر والمغرب، أخذ نشاط الصندوق شكل الاتفاق على برامج إصلاح انكماشية في جوهرها، على غرار ما يقوم به في أرجاء المعمورة. في الدول النفطية، مثل السعودية والإمارات، أخذ هذا النشاط شكل مساعدات فنية تمولها هذه الدول. شروط الإصلاح في الدول غير النفطية ملزمة للحكومات، نظراً لارتباطها بالقروض التي يمنحها الصندوق. أما شروط المساعدات الفنية في الدول غير النفطية، فتعد نوعاً من الاستشارات غير الملزمة. هذا خلاف جوهري يبرر حصر ما سوف يأتي في بقية المقال على الدول غير النفطية، وبحكم معرفتي بمصر، أكثر من غيرها من الدول، سوف يكون التركيز أيضاً عليها بشكل خاص.
في إطار التمعن في ظاهرة انتشار برامج الصندوق في منطقتنا، قد يكون من المفيد محاولة الإجابة عن عدد من التساؤلات، أولها يدور حول الأسباب وراء هذا المد، وثانيها يدور حول طبيعة وتوابع هذا الانتشار، وثالثها يدور حول كفاية هذه البرامج لتعافي الاقتصادات المتلقية لها، اليوم وغداً. ما يكسب هذا النقاش أهمية خاصة أن برامج الصندوق ليست محل توافق عام، وأن دواعي الاختلاف مهنية أحياناً، وآيديولوجية أحياناً أخرى.
فيما يتعلق بأسباب انتشار برامج الصندوق في المنطقة، فالمعروف أن ذلك يعود أساساً لتدهور الأحوال الاقتصادية في كثير من البلدان بعد ثورات الربيع العربي. في مصر وتونس والأردن والمغرب، تسببت حالة عدم الاستقرار والغياب النسبي للأمن في تراجع معدلات النمو، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض مستوى التشغيل، وزيادة الضغوط على الموازنة العامة وميزان المدفوعات. وأدى إحجام المستثمر المحلي والأجنبي عن ضخ أموال جديدة، وضعف موارد الدول من العملة الصعبة (بسبب تراجع السياحة والتصدير)، إلى تدني احتياطيات البنوك المركزية من العملة الصعبة، واتساع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي ونظيره غير الرسمي، وارتفاع مستويات الدين العام، وصعوبة الاقتراض، وارتفاع تكلفته. ببساطة شديدة، دخلت هذه الدول دائرة مفرغة كان من الصعب الفكاك منها، وكان أحد المخارج الرئيسية المتاحة اللجوء لصندوق النقد الدولي، وهذا ما حدث بالفعل. وهنا، من الواجب تذكر أن هذا هو الغرض الذي أنشئ من أجله الصندوق في المقام الأول بعد الحرب العالمية الثانية.
ماذا عن مكونات برامج الصندوق؟ كما هو متوقع، كان محور هذه البرامج استعادة التوازن المالي والنقدي في البلدان التي أخذت بها. في الحالة المصرية، وهي ليست بعيدة كثيراً عن الدول الأخرى، تم التوافق على استعادة التوازن المالي تدريجياً، عن طريق تخفيض الإنفاق وزيادة الإيرادات. وجاء تخفيض الإنفاق بشكل أساسي عن طريق رفع الدعم عن المحروقات، وزيادة أسعار الخدمات العامة، مثل الكهرباء والغاز الطبيعي والمياه. وانصبت إجراءات زيادة الموارد بشكل كبير على تفعيل ضريبة القيمة المضافة ورفع سعرها، وبيع بعض الأصول العامة، إذا أمكن ذلك.
وتضمن الاتفاق تخصيص بعض الموارد لتخفيف العبء على الفقراء، ومن هنا ظهرت برامج تكافل وكرامة، كجزء من منظومة الحماية الاجتماعية.
وفي سبيل إعادة التوازن للحساب الجاري، تم الاتفاق على تغييرات كبيرة في السياسة النقدية، أهم بنودها تعويم العملة المحلية، ووضع سقف على المعروض النقدي، ورفع سعر الفائدة. وفي غضون سنوات قليلة، شهدت المؤشرات الكلية تحسناً ملحوظاً، لكن تكلفة تطبيق البرنامج كانت عالية، كما سيتضح فيما يلي.
على الجانب الإيجابي، شهدت مؤشرات الاقتصاد الكلي في مصر تحسناً كبيراً، ومنها انخفاض عجز الموازنة قبل البرنامج من نحو 13 - 12 في المائة من الدخل القومي إلى نحو 8 في المائة، واختفاء السوق السوداء للدولار، وتراجع الدين العام كنسبة من الدخل القومي. وفي مرحلة لاحقة، عمل البنك المركزي على تخفيض أسعار الفائدة، وتحسنت موارد الاقتصاد من العملة الأجنبية، خاصة من تحويلات المصريين في الخارج، وزادت التدفقات الرأسمالية الساخنة. على أثر كل ذلك، بدأ الاقتصاد في النمو بمعدلات قريبة مما كانت عليه قبل 2011. على الجانب السلبي، جاء التحسن في الأداء الاقتصادي مكلفاً للطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
بشكل أكثر دقة، ارتفعت معدلات التضخم بعد التعويم لمستويات غير مسبوقة، وصلت إلى أكثر من 30 في المائة سنوياً، في وقت لم تزد فيه الدخول بالنسبة نفسها. كما ارتفعت نسبة من يقعون تحت خط الفقر في مصر إلى أكثر من ثلث المصريين، وتباطأ النشاط الاقتصادي جراء السياسات الانكماشية، ولم يخفف من وطأتها سوى التوسع في النشاط العقاري خارج الموازنة العامة. صحيح أن تعديل الأسعار، وخاصة فيما يتعلق بالطاقة والخدمات العامة، ساعد على ترشيد سلوك المنتجين والمستهلكين، لكنه افتقد الآليات التي تضمن أن الزيادات ليست نتيجة تدني كفاءة المؤسسات المعنية.
السؤال الأخير هو: هل كان برنامج الصندوق حتمياً ومبرراً؟ بشكل عام، الإجابة هي بالطبع لا، خاصة عندما تكون الدولة قادرة على احتواء ما تواجهه من صدمات داخلية أو خارجية مؤقتة. وهذا ما فعلته أميركا لتتخطى الأزمة المالية العالمية عام 2008، من خلال اتباع سياسة اقتصادية توسعية، وليست انكماشية. وهذا أيضاً ما يمكن أن تقوم به الدول النفطية، إذا أرادت، بحكم حوزتها لأرصدة متراكمة من عائدات النفط في الصناديق السيادية.
أما معظم الدول النامية، ومنها مصر، فحاجتها لدعم الصندوق، في غياب معونة الأصدقاء، ليست محل نقاش. هذا لا يعني التسليم وقبول كل ما يطرحه الصندوق من شروط، ولا يعني أن الحكومات غير مسؤولة عن الآثار التوزيعية السلبية للبرنامج، ولا يعني تحميل جل العبء على الطبقات الاجتماعية الأقل حظاً، وأهم من هذا وذاك، لا يعني أن برنامج الصندوق كافٍ لضمان تعافي الاقتصاد في الأجل المتوسط. حقيقة الأمر أن الحكومات، في أثناء التفاوض، يمكنها أن تختار بدائل تحقق أهداف التوازن المالي والنقدي، والكفاءة، وعدالة توزيع الأعباء في وقت واحد.
كما أنها تستطيع محاولة تعظيم استجابة القطاعات الحقيقية في الاقتصاد، من زراعة وصناعة وسياحة وخدمات، للإصلاحات الكلية، وذلك بتبني برامج لتحسين مناخ الأعمال، وأسواق العمل، والمنافسة، وبرامج إصلاح مؤسسي لترشيد دور الدولة في الاقتصاد، سواء كمنتج أو مراقب أو صانع للسياسات. التخاذل عن اتخاذ ما يلزم لا يبرر الاكتفاء بإلقاء اللوم على برامج الصندوق، رغم وفرة التحفظات على هذه البرامج.
- وزير المالية السابق في مصر



المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

TT

المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

بعد 9 أشهر من الحرب التي شنها قائد «الجيش الوطني الليبي»، المشير خليفة حفتر، على العاصمة الليبية طرابلس، في 4 أبريل (نيسان) 2019، مدعوماً بمقاتلين من مجموعة «فاغنر» الروسية، دفعت أنقرة بمرتزقة ينتمون لمجموعات سورية معارضة، أبرزها فصيل «السلطان مراد»، الذي غالبية عناصره من تركمان سوريا، إلى ليبيا. وبعد اقتتال دام 14 شهراً، نجحت القوات التابعة لحكومة فايز السراج، في إجبار قوات «الجيش الوطني» على التراجع خارج الحدود الإدارية لطرابلس.

وفي تحقيق لـ«الشرق الأوسط» تجري أحداثه بين ليبيا وسوريا والسودان وتشاد ومصر، تكشف شهادات موثقة، كيف انخرط مقاتلون من تلك البلدان في حرب ليست حربهم، لأسباب تتراوح بين «آيديولوجية قتالية»، أو «ترغيب مالي»، وكيف انتهى بعضهم محتجزين في قواعد عسكرية بليبيا، وأضحوا الحلقة الأضعف بعدما كان دورهم محورياً في بداية الصراع.

وفي يناير (كانون الثاني) 2024، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن عدد عناصر «المرتزقة السوريين» في طرابلس تجاوز 7 آلاف سابقاً، لكن فرّ منهم نحو 3 آلاف وتحولوا إلى لاجئين في شمال أفريقيا وأوروبا.

مرتزقة الحرب الليبية.. وقود المعارك وعبء الانتصارات والهزائم