برامج صندوق النقد الدولي في الميزان

متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
TT

برامج صندوق النقد الدولي في الميزان

متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)
متظاهرة في بيروت ضد البنك الدولي (إ.ب.أ)

منذ اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان، التي سبقت أزمة كورونا، بدأ الجدل يحتدم حول سبل العلاج. والملف الأبرز الذي فتح في هذا المجال تركز على الحاجة إلى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي، وتفاوت النقاش، الذي أخذ في لبنان طابعاً سياسياً وحتى طائفياً كما هي العادة، بين قائلين بأن يقتصر دور الصندوق على طلب المشورة، وآخرين يدعون إلى تدخل مباشر لصندوق النقد عبر حزمة إنقاذ مالية ترافقها الشروط والضوابط التي يفرضها المسؤولون في الصندوق على خطة التمويل، أسوة بما حصل مع دول أخرى في المنطقة العربية وحول العالم، مرت بظروف مشابهة.
وهكذا تحول التعامل مع صندوق النقد الدولي إلى قضية توازي بأهميتها قضية الانهيار المالي ذاته، الذي واجهه اللبنانيون للمرة الأولى في تاريخهم، مع إعلان الحكومة عجزها عن تسديد دفعة من السندات التي استحقت في مطلع الشهر الحالي.
في هذه الصفحة من قضايا نعرض مواقف من تجربتين عربيتين للتعامل مع صندوق النقد الدولي من خلال مقالين: للدكتور تيسير الصمادي وزير التخطيط والتعاون الدولي السابق في الأردن، والدكتور أحمد جلال وزير المالية المصري السابق، بالإضافة إلى رأي الخبير الاقتصادي اللبناني الدكتور جو سروع.

شهدت المنطقة العربية نشاطاً غير مسبوق لصندوق النقد الدولي في السنوات التالية للربيع العربي عام 2011. في الدول غير النفطية، مثل الأردن وتونس ومصر والمغرب، أخذ نشاط الصندوق شكل الاتفاق على برامج إصلاح انكماشية في جوهرها، على غرار ما يقوم به في أرجاء المعمورة. في الدول النفطية، مثل السعودية والإمارات، أخذ هذا النشاط شكل مساعدات فنية تمولها هذه الدول. شروط الإصلاح في الدول غير النفطية ملزمة للحكومات، نظراً لارتباطها بالقروض التي يمنحها الصندوق. أما شروط المساعدات الفنية في الدول غير النفطية، فتعد نوعاً من الاستشارات غير الملزمة. هذا خلاف جوهري يبرر حصر ما سوف يأتي في بقية المقال على الدول غير النفطية، وبحكم معرفتي بمصر، أكثر من غيرها من الدول، سوف يكون التركيز أيضاً عليها بشكل خاص.
في إطار التمعن في ظاهرة انتشار برامج الصندوق في منطقتنا، قد يكون من المفيد محاولة الإجابة عن عدد من التساؤلات، أولها يدور حول الأسباب وراء هذا المد، وثانيها يدور حول طبيعة وتوابع هذا الانتشار، وثالثها يدور حول كفاية هذه البرامج لتعافي الاقتصادات المتلقية لها، اليوم وغداً. ما يكسب هذا النقاش أهمية خاصة أن برامج الصندوق ليست محل توافق عام، وأن دواعي الاختلاف مهنية أحياناً، وآيديولوجية أحياناً أخرى.
فيما يتعلق بأسباب انتشار برامج الصندوق في المنطقة، فالمعروف أن ذلك يعود أساساً لتدهور الأحوال الاقتصادية في كثير من البلدان بعد ثورات الربيع العربي. في مصر وتونس والأردن والمغرب، تسببت حالة عدم الاستقرار والغياب النسبي للأمن في تراجع معدلات النمو، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض مستوى التشغيل، وزيادة الضغوط على الموازنة العامة وميزان المدفوعات. وأدى إحجام المستثمر المحلي والأجنبي عن ضخ أموال جديدة، وضعف موارد الدول من العملة الصعبة (بسبب تراجع السياحة والتصدير)، إلى تدني احتياطيات البنوك المركزية من العملة الصعبة، واتساع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي ونظيره غير الرسمي، وارتفاع مستويات الدين العام، وصعوبة الاقتراض، وارتفاع تكلفته. ببساطة شديدة، دخلت هذه الدول دائرة مفرغة كان من الصعب الفكاك منها، وكان أحد المخارج الرئيسية المتاحة اللجوء لصندوق النقد الدولي، وهذا ما حدث بالفعل. وهنا، من الواجب تذكر أن هذا هو الغرض الذي أنشئ من أجله الصندوق في المقام الأول بعد الحرب العالمية الثانية.
ماذا عن مكونات برامج الصندوق؟ كما هو متوقع، كان محور هذه البرامج استعادة التوازن المالي والنقدي في البلدان التي أخذت بها. في الحالة المصرية، وهي ليست بعيدة كثيراً عن الدول الأخرى، تم التوافق على استعادة التوازن المالي تدريجياً، عن طريق تخفيض الإنفاق وزيادة الإيرادات. وجاء تخفيض الإنفاق بشكل أساسي عن طريق رفع الدعم عن المحروقات، وزيادة أسعار الخدمات العامة، مثل الكهرباء والغاز الطبيعي والمياه. وانصبت إجراءات زيادة الموارد بشكل كبير على تفعيل ضريبة القيمة المضافة ورفع سعرها، وبيع بعض الأصول العامة، إذا أمكن ذلك.
وتضمن الاتفاق تخصيص بعض الموارد لتخفيف العبء على الفقراء، ومن هنا ظهرت برامج تكافل وكرامة، كجزء من منظومة الحماية الاجتماعية.
وفي سبيل إعادة التوازن للحساب الجاري، تم الاتفاق على تغييرات كبيرة في السياسة النقدية، أهم بنودها تعويم العملة المحلية، ووضع سقف على المعروض النقدي، ورفع سعر الفائدة. وفي غضون سنوات قليلة، شهدت المؤشرات الكلية تحسناً ملحوظاً، لكن تكلفة تطبيق البرنامج كانت عالية، كما سيتضح فيما يلي.
على الجانب الإيجابي، شهدت مؤشرات الاقتصاد الكلي في مصر تحسناً كبيراً، ومنها انخفاض عجز الموازنة قبل البرنامج من نحو 13 - 12 في المائة من الدخل القومي إلى نحو 8 في المائة، واختفاء السوق السوداء للدولار، وتراجع الدين العام كنسبة من الدخل القومي. وفي مرحلة لاحقة، عمل البنك المركزي على تخفيض أسعار الفائدة، وتحسنت موارد الاقتصاد من العملة الأجنبية، خاصة من تحويلات المصريين في الخارج، وزادت التدفقات الرأسمالية الساخنة. على أثر كل ذلك، بدأ الاقتصاد في النمو بمعدلات قريبة مما كانت عليه قبل 2011. على الجانب السلبي، جاء التحسن في الأداء الاقتصادي مكلفاً للطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
بشكل أكثر دقة، ارتفعت معدلات التضخم بعد التعويم لمستويات غير مسبوقة، وصلت إلى أكثر من 30 في المائة سنوياً، في وقت لم تزد فيه الدخول بالنسبة نفسها. كما ارتفعت نسبة من يقعون تحت خط الفقر في مصر إلى أكثر من ثلث المصريين، وتباطأ النشاط الاقتصادي جراء السياسات الانكماشية، ولم يخفف من وطأتها سوى التوسع في النشاط العقاري خارج الموازنة العامة. صحيح أن تعديل الأسعار، وخاصة فيما يتعلق بالطاقة والخدمات العامة، ساعد على ترشيد سلوك المنتجين والمستهلكين، لكنه افتقد الآليات التي تضمن أن الزيادات ليست نتيجة تدني كفاءة المؤسسات المعنية.
السؤال الأخير هو: هل كان برنامج الصندوق حتمياً ومبرراً؟ بشكل عام، الإجابة هي بالطبع لا، خاصة عندما تكون الدولة قادرة على احتواء ما تواجهه من صدمات داخلية أو خارجية مؤقتة. وهذا ما فعلته أميركا لتتخطى الأزمة المالية العالمية عام 2008، من خلال اتباع سياسة اقتصادية توسعية، وليست انكماشية. وهذا أيضاً ما يمكن أن تقوم به الدول النفطية، إذا أرادت، بحكم حوزتها لأرصدة متراكمة من عائدات النفط في الصناديق السيادية.
أما معظم الدول النامية، ومنها مصر، فحاجتها لدعم الصندوق، في غياب معونة الأصدقاء، ليست محل نقاش. هذا لا يعني التسليم وقبول كل ما يطرحه الصندوق من شروط، ولا يعني أن الحكومات غير مسؤولة عن الآثار التوزيعية السلبية للبرنامج، ولا يعني تحميل جل العبء على الطبقات الاجتماعية الأقل حظاً، وأهم من هذا وذاك، لا يعني أن برنامج الصندوق كافٍ لضمان تعافي الاقتصاد في الأجل المتوسط. حقيقة الأمر أن الحكومات، في أثناء التفاوض، يمكنها أن تختار بدائل تحقق أهداف التوازن المالي والنقدي، والكفاءة، وعدالة توزيع الأعباء في وقت واحد.
كما أنها تستطيع محاولة تعظيم استجابة القطاعات الحقيقية في الاقتصاد، من زراعة وصناعة وسياحة وخدمات، للإصلاحات الكلية، وذلك بتبني برامج لتحسين مناخ الأعمال، وأسواق العمل، والمنافسة، وبرامج إصلاح مؤسسي لترشيد دور الدولة في الاقتصاد، سواء كمنتج أو مراقب أو صانع للسياسات. التخاذل عن اتخاذ ما يلزم لا يبرر الاكتفاء بإلقاء اللوم على برامج الصندوق، رغم وفرة التحفظات على هذه البرامج.
- وزير المالية السابق في مصر



مخيم جنين: ليست حرباً على المسلحين... ولكن على الناس ورواياتهم

TT

مخيم جنين: ليست حرباً على المسلحين... ولكن على الناس ورواياتهم

الزميل كفاح زبون مع الصحافيين الذين تسللوا إلى مخيم جنين وقد بدا حولهم الدمار الهائل (الشرق الأوسط)
الزميل كفاح زبون مع الصحافيين الذين تسللوا إلى مخيم جنين وقد بدا حولهم الدمار الهائل (الشرق الأوسط)

ظل محمود الرخّ متردداً في الدخول إلى مخيمه الذي ولد وعاش فيه، مخيم جنين، بعدما حولته إسرائيل إلى كومة ركام كبيرة، ومصيدة للموت، قبل أن يحسم أمره، ويتجرأ ويعبر إلى داخل المخيم متغطياً بمجموعة صحافيين قرروا الدخول أيضاً بعد مشاورات كثيرة، وطول تردد. فالكل يدرك جيداً أنه قد يتعرض لإطلاق نار، قد يقتل، وقد يصاب، وقد يعتقل.

كان الشارع من دوار السينما الشهير في جنين إلى مداخل المخيم يعطيك انطباعاً سريعاً عما ستشاهده لاحقاً، وقبل المستشفى الحكومي الذي يقبع في آخر الشارع، حول الجنود المدججون بكل أنواع الأسلحة، المدخل الرئيسي للمخيم إلى ثكنة عسكرية. لكن شبان المخيم وأهله وصحافيي المدينة قالوا لنا إنه يمكن أن نتسلل إلى المخيم من خلف المستشفى، في جولة بدت صادمة للغاية.

«لا أحد إلاك في هذا المدى المفتوح»، تذكرت ما قاله الشاعر الراحل محمود درويش وأنا أعبر إلى المخيم. «لا أحد» في المخيم. «لا أحد»، لا سلطة ولا ناس ولا مقاتلين، «دب الإبرة بتسمع صوتها» على ما نقول. فقط جنود إسرائيليون حولوه إلى كومة ركام كبيرة شاهدة على تاريخ وصمود ومعارك وحياة وذكريات وحكايات كثيرة، يتربصون بأي أحد، ويحلمون كما يبدو بتحويل المكان من فلسطيني إلى إسرائيلي بالكامل.

منشورات ألقاها الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين (الشرق الأوسط)

لمحنا على مسافة بعيدة لافتات زرعها الجنود، تحمل أسماء عبرية مثل «محور يائير» في محاولة يائسة للسطو على المكان. وكانت مثار سخرية؛ إذ لا يخطئ الجنينيون في لفظ أسماء حاراتهم في المخيم من «الحواشين» إلى «الدمج» و«الألوب»... إلخ.

لم تكن حرباً على المسلحين، لقد كانت حرباً على المكان والناس والتاريخ والحاضر والرواية كذلك، وليست مجرد عملية عسكرية أطلقتها إسرائيل في المخيم في 21 يناير (كانون الثاني) الماضي، في بداية تحرك يتسع نطاقاً في باقي الضفة، بعد إدراجها على قائمة أهداف الحرب.

«السور الحديدي» وقواعد ثابتة

كانت العملية التي تعدّ تغييراً في الاتجاه الإسرائيلي، واتخذت اسم «السور الحديدي»، في تذكير واضح بالعملية الواسعة التي شنتها إسرائيل في الضفة عام 2002 في أثناء الانتفاضة الثانية، وأطلقت عليها اسم «السور الواقي»، واجتاحت معها كل الضفة الغربية، بدأت بهجوم جوي نفذته طائرة مسيرة على عدة بنى تحتية هناك، قبل أن تقتحم الوحدات الخاصة والشاباك والشرطة العسكرية مناطق واسعة في جنين، ثم ينفذ الطيران غارات أخرى.

بعد 25 يوماً، حين وصلنا إلى المخيم كانت إسرائيل قتلت 26 فلسطينياً وجرحت آخرين، وهجّرت 20 ألفاً بالتمام والكمال هم كل سكان المخيم، بلا استثناء.

سألت أحمد الشاويش، وهو صحافي من جنين تطوع للدخول معنا: إذاً ماذا يفعلون في المخيم؟ قال إنهم في مناطق لا نستطيع الوصول إليها يبنون قواعد ثابتة، ما يذكّر بكلام وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأنهم لن يغادروا المكان.

وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أعلن شخصياً عن بدء العملية في جنين، قائلاً إنها أطلقت «بتوجيه الكابينت»، بوصفها «خطوة أخرى نحو تحقيق الهدف، وهو تعزيز الأمن في الضفة الغربية». وتابع حينذاك: «نحن نتحرك بشكل منهجيّ وحازم ضد المحور الإيرانيّ، أينما يرسل أذرعه؛ في غزة ولبنان وسوريا واليمن والضفة الغربية».

مسألة توقيت لا قرار

لم يكن قرار الهجوم على جنين مستحدثاً، لكنهم قرروا انتظار الهدنة في غزة، وبعد 3 أيام من بدء سريانها هناك، حولوا البوصلة إلى الضفة بعد توصية رئيس الشاباك رونين بار الذي أبلغ المجلس الأمني والوزاري المصغر أنه يجب اتخاذ إجراءات أوسع لتغيير الواقع، والقضاء على المجموعات المسلحة في الضفة، مطالباً «بالتعلم من الذي حصل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)»، ومحذراً من أن الانخفاض الكبير في العمليات في الضفة الغربية «مخادع ومضلل»، و«لا يعكس حجم تطور الإرهاب على الأرض».

آليات الجيش الإسرائيلي تقتحم مخيم جنين (الشرق الأوسط)

مسألة أخرى قالت وسائل إعلام إسرائيلية إنها ساهمت في اتخاذ قرار الهجوم على الضفة الغربية، هي الإفراج الجماعي عن الأسرى الفلسطينيين ضمن صفقة غزة، باعتبار ذلك «سيثير حماس الإرهابيين في المنطقة، ويزيد من دوافعهم لتنفيذ الهجمات».

لم أصدق ما شاهدت بأم العين رغم أنني رأيت مئات الفيديوهات من جنين قبل ذلك.

كان الدمار هائلاً؛ بيوت مهدمة، وجدران متهاوية، وشوارع مجرفة، وأكوام من الركام في كل مكان، فيما رائحة الحرائق تفوح من كل زقاق.

مضينا بحذر شديد فيما كانت طائرات «الدرون» التي يسميها الفلسطينيون «زنانات»؛ لفرط الإزعاج الذي تسببه، تحوم فوق المخيم 24 ساعة في اليوم والليلة.

قال الرخ إنه يريد العودة. تردد كثيراً لأن زوجته و2 من أولاده الصغار معه، لكن زوجته أصرّت على أن تواصل؛ لأنها بحاجة إلى جلب معاطف من المنزل. وفعلاً عبرت مع ابنتها إلى هناك، وأحضرت بعض الملابس، أما هو فوقف عاجزاً عن وصف مشاعره وهو يشاهد منزله المهدم جزئياً.

غزّة ثانية

لا أعرف كيف سيشعر أي شخص حين يرى منزله الذي بناه من تعب وعرق واحتضنه مع عائلته قد تبخر بلمح البصر؟! الابن أحمد قطع علينا أفكارنا وهو ينادي والده بفرح: «يابا يابا... جابت ستر جابت ستر (معاطف)».

لم يغادر الرخ سريعاً رغم أن المهمة أُنجزت، وظل يراقب منزله في حارة الحواشين، ثم أشار إلى بيته المحروق والمهدم وقال: «ما خلو اشي ما خلو بيوت ولا سكان».

مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)

قال لنا إنه تسلل قبل ذلك وتعرض لإطلاق نار، وأضاف: «لولاكم ما دخلت. خايف يطخوا علينا معي زوجتي وأولادي. شفتكم وتشجعت... والله الحامي».

وأضاف: «إشي لا يصدق شوف شوف. غزة ثانية عملوها».

سألته: ماذا ستفعل بعد ذلك؟ قال: «سنعود. سأنصب خيمة وراح أنام فيها».

فعلاً كان مخيم جنين غزة صغيرة، عبرنا فوق أكوام الركام، ودخلنا عبر البيوت المهدمة والمفتوحة لتجنب الجيش في الشوارع.

وكان فادي، أحد أبناء المخيم، خبيراً في أزقته، وحاول إلى حد كبير توجيه جولتنا مع كثير من التحذيرات.

طلب منا الوقوف فجأة عندما سمع صوت جيب إسرائيلي يسميه الفلسطينيون «بوز النمر». صاح: «وقفوا بوز نمر قريب». لم يصدر أحد صوتاً، وخيم السكون. تدخل صديقه وقال: «من هنا»، فاضطرنا إلى تسلق ما يشبه جبلاً من الركام، ثم هبوط جبل آخر لنعبر إلى حارة أخرى.

كان شيئاً لم نشهده في الضفة الغربية في الانتفاضتين: الأولى والثانية. وعلى الرغم من أن كل الفلسطينيين اختبروا كل أشكال الحرب، بما في ذلك غارات الطيران الحربي وتوغل الدبابات في قلب المدن، فإن مخيم جنين بدا شيئاً آخر. ولا حتى ما تبثه الشاشات يمكن أن يعكس هول المشهد.

حزن كبير يغمر المكان. حزن الحجارة والشوارع على المكان والناس الذين كانوا قد تشردوا عند أقارب لهم في مراكز نزوح تقام لأول مرة في الضفة الغربية.

تجريف لتسهيل الاقتحام

لم أعرف أين وقف كاتس، نهاية الشهر الماضي، عندما وصل إلى المخيم، لكني تخيلته وهو منتشٍ بما شاهده من دمار يوازي دمار غزة.

قال من هنا إنه سيواصل الهجوم، ولن يخرج من المخيم الذي لن يعود كما كان حتى بعد انتهاء العملية.

نظرت إلى المخيم وفهمت أنه لن يعود كما كان، لكني لم أفهم ضد من سيواصل الهجوم في مكان بلا أحد!

سألت الصحافيين والناس مرة أخرى إن كان هناك مسلحون فقالوا: «لا، لا يوجد أي أحد. لا يوجد أي بشر هنا فقط هذا الدمار».

لكن إسرائيل مصرّة وتقول إن العملية في جنين مستمرة، وهدفها «تحييد المسلحين بالكامل»، ويتحدثون عن عملية قد تستمر عدة أشهر.

مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)

في الأثناء كانت الجرافات تصل إلى المخيم، وانطلق نقاش حول تجريف إسرائيل شوارع واسعة في المخيم قد تحوله إلى مربعات سكنية صغيرة، بما يسمح للجيش بالبقاء والاقتحام وقتما يشاء.

وربما أنهم مثل ما يحلمون في غزة يحلمون في مخيمات الضفة، تهجير الناس وتقليص المساحات للوجود الدائم، واستيطان إذا تسنى لهم.

في أحد أزقة المخيم التي تحولت إلى «طينة» بفعل تدمير البنية التحتية، كان ثمة بيانات سابقة ألقاها الجنود ما زالت موجودة تطالب أهل المخيم بنبذ المسلحين، وتقول إنهم السبب بتدمير المخيم، وإنهم هم من يدفع الثمن.

والبيانات أسلوب إسرائيلي قديم جداً لم يتوقف، وطالما ألقى الجيش طيلة الانتفاضة الثانية في كل مكان في الضفة بيانات تقول للفلسطينيين: «قف وفكر. لا تدعم المسلحين».

لم يتوقف الفلسطينيون ولا المسلحون ولا إسرائيل.

لكن في مخيم جنين بعد معارك طويلة ومستمرة، لم يكن هناك اليوم أي مسلحين، ولكن أكوام. أكوام من كل شيء، أكوام حجارة، أكوام حديد، أكوام سيارات محترقة، أكوام رمل، ولا شيء سوى الأكوام.

السجن الكبير

لا تكفي جولة سريعة تقوم بها تحت الضغط والقلق. فأنت بوصفك فلسطينياً أولاً، وإنساناً ثانياً، تنسى أنك صحافي، وتغرق في دهشة وحزن وكثير من الأمنيات بالتخلص من واقع معقد وصعب حوّل الجميع إلى سجناء في سجن كبير بعنابر متفاوتة، ينتظرون الموت أو الإذلال المستمر.

في الطريق إلى جنين عبرنا حواجز عديدة، وكان علينا متابعة أخبار الحواجز؛ لمعرفة إن كانت مفتوحة أو مغلقة أو مزدحمة. وكان علينا أن نلتف عليها في رحلة تحولت إلى مضنية، وأكثر من مضنية خصوصاً في طريق العودة حين أصر الجنود على تفتيش السيارة والجوالات، وبدأوا يطرحون أسئلة سخيفة.

لم نصدق أننا خرجنا سالمين من مصيدة الموت في المخيم.

مجموعة الصحافيين تخرج على عجل من مخيم جنين (الشرق الأوسط)

«لقد نجونا»، صرنا نفكر قبل أن يهمهم الجميع بعد العودة إلى المستشفى الحكومي، الحمد لله على السلامة.

قال الشاويش إنهم في آخر محاولة للدخول تعرضوا لإطلاق النار، وقد أصيب مواطنون حاولوا الدخول إلى المخيم. وفي المرة التي سبقت ذلك اضطر الصليب الأحمر للتدخل من أجل إخراج صحافيين حوصروا داخل المخيم.

خارج المخيم صادفنا شباناً يتصيدون الفرصة للدخول، يراقبون تحرك الآليات ويستطلعون المداخل، وبادروا بسؤالنا: «كيف الوضع؟ وين وصلتوا؟ لاقكم جيش؟».

قال أحمد سمارة إنه يدخل بشكل شبه متكرر متسللاً إلى حارة الدمج، إحدى الحارات التي لم نستطع الوصول إليها ودُمرت بشكل كبير.

وسألته: لماذا يخاطر هكذا؟ فقال باستنفار: «أنا داخل على بيتي مش على بيتهم، بدي أدخل غصب عنهم. خليهم يطخوني».

وفي كل مرة، يصل سمارة إلى بيته المدمر يُلقي نظرة عليه، ويسلّم ويغادر. ومثل الرخ ينتظر سمارة نهاية العملية العسكرية من أجل أن ينصب خيمته هناك، ويقول: «أنا راح أرجع على مخيمي، أنا بحب مخيمي وراح نعمره بأيدينا».

تهجير قسري وتمسّك بالعودة

وبحسب منسق القوى الوطنية والإسلامية في جنين، راغب أبو دياك، فإن الاحتلال هجّر قسراً ما يزيد على 20 ألف مواطن من مخيم جنين، بعدما دمر وعاث خراباً في 470 منزلاً بشكل كامل وجزئي.

لم تكن هذه معركة المخيم الذي بني عام 1953 بحسب وكالة «أونروا» الوحيدة، فقد خاض رجاله مواجهة كانت الأعنف في الضفة الغربية عام 2002.

لكن الناس لم يغادروا آنذاك.

وشرح سكان من المخيم كيف أنهم اضطروا للمغادرة تحت تهديد الجنود والطائرات المسيرة التي كانت تطلق النار.

بعضهم كان محظوظاً لأن له أقارب وأنسباء خارج المخيم، لكن عدداً آخر كان عليه أن يجرب ما جربه الفلسطينيون في قطاع غزة.

كانت جنين المدينة هادئة إلى حد ما لكنها أيضاً متعبة.

وفي جمعية «الكفيف» الخيرية، وجدنا العشرات من سكان المخيم يعيشون هناك، ومثلهم مئات في مراكز نزوح أخرى في المدينة والقرى المجاورة.

رجال يقتلون الوقت في نقاشات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وأولاد يلعبون في حديقة متواضعة، ونساء يتدبرن أمور الحياة، وجميعهم يربون الأمل فقط من أجل عودة قريبة.

لم يتخيل نظمي تركمان أنه سيكون نازحاً يوماً، وقال إن الموقف صعب وحزين للغاية.

وأضاف: «شفت بحياتي كتير. عشت اجتياحات وقتل وضرب وهدم بس هاي المرة غير».

ومثل غيره، يتسلل تركان إلى المخيم كل يوم مأخوذاً بالحنين: « كل يوم برجع بروح بتفرج على البيت المحروق».

سألته أيضاً: ماذا سيفعل بعد انتهاء العملية؟ فأجاب مثل الآخرين: «راجعين مش بس على المخيم وبدنا نرجع كمان على 48. بفكروا يهجرونا من المخيم لا! أنا من حيفا وبدي أرجع على حيفا».

زوجة محمود الرخّ وابنته تحاولان تفادي القناص للوصول إلى المنزل وسحب حاجيات ضرورية (الشرق الأوسط)

غضب على السلطة

وصلت سيارات إلى المكان تحمل بعض المساعدات التي بدت متواضعة، ولا تلبي الاحتياجات، وبعد أيام قليلة فقط أصدر رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى توجيهات بتوفير الإيواء والإغاثة اللازمة للنازحين في محافظات شمال الضفة الغربية، خاصة في مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس.

لكن الحاجة حليمة، وهي معروفة على نطاق واسع في المخيم ونزحت هي الأخرى منه إلى مركز المكفوفين لم تكن راضية عن دور السلطة.

وقالت الحاجة حليمة، وهي عضو سابق في اللجنة الشعبية في مخيم جنين، إن المخيم دفع ثمناً كبيراً عندما حاصرته السلطة في السابق.

وأضافت بكثير من الألم: «شوف بعد كل هذا العمر وين صرنا إشي بحزن إشي قاتل بالآخر نتشرد من دورنا».

تفهم الحاجة حليمة أن الحرب الحالية أكبر من مجرد عملية، وتعتقد أنها تستهدف حق العودة باستهداف المخيمات ووكالة «أونروا».

في أثناء ذلك، كانت إسرائيل تعيد في مخيم نور شمس بطولكرم ما فعلته في مخيم جنين.

لقد بدت حرباً واضحة على المخيمات. لكن الحاجة حليمة استخفت بهم وبحربهم وقالت: «أنا مولودة بالمخيم وراح أرجع... وزي ما بقول المثل: المربى قتال».