من البشر إلى الأفلام، ومن صالات السينما إلى الاستديوهات كل شيء مجمّد حتى إشعار آخر. هوليوود تبدو مثل ثور مثخن بالجراح يحاول أن يواصل التحدي، لكنه يترنح تحت الضربات القاسية التي يتعرض إليها.
هناك مشهد من فيلم «فجر الموتى» (Dawn of the Dead) الذي أخرجه الراحل جورج أ.روميرو سنة 1978، نرى فيه بشراً من الأحياء - الموتى وهو يدخلون مركزاً تجارياً ويفحصونه بعيون حانية وأنفس مشتاقة إلى وقت سابق كانوا فيه يؤمّون المراكز التجارية (شوبينغ مولز) قبل أن يصيبهم الوباء الذي حولهم إلى زومبيز.
هذا لن يحدث للبشر، لكن المراكز التجارية الخالية من الناس هذه الأيام بصالاتها السينمائية تذكّر كثيراً بذلك المشهد. توحي بأن هناك عالماً جديداً ندخله وآخر نودعه. نفق علينا أن نسير فيه إلى نهايته، آملين في أن تعود الحياة للطبيعة التي كانت عليها.
معظم صالات السينما في عموم الولايات المتحدة مغلقة. تشبه المولات التي بُنيت فيها وعاشت بسببها وازدهرت بفضل الذين جمعهم حب الترفيه أو حب السينما كفن راقٍ وثقافة لا متناهية.
فجأة ما عاد ارتياد الصالات وارداً. حتى ولو لم تقم شركاتها بإغلاق أبوابها فإن الذهاب إلى السينما كعادة اجتماعية كان سينحسر سريعاً.
عدم الذهاب إلى السينما يدخل نطاق العادات التي تنكسر تحت حتمية الظروف. بالنسبة لمن داوم الذهاب إليها ليشاهد الجيد والرديء على حد سواء، فإن الحزن قائم لفقدان هذا التواصل الاجتماعي الذي كان يربط بين البشر من لحظة الاقتراب من الموظف - الموظفة الذي سيقبض ثمن التذكرة وتتبادل معه عبارات الشكر على ذلك، إلى لحظة خروج الروّاد من الصالة كل عائدا إلى طبيعة حياته.
- البشر وكل شيء آخر
بدأ كل شيء بالتدرّج البطيء (Fade in بلغة السينما): هناك وباء قيل إنه خطر بدأ يغزو العالم. مهرجان برلين كان تجربة نهائية بالنسبة لمن تشجع وأمّـه. لم نسمع خلال العروض سعالاً ولا شاهدنا سيارة الإسعاف تتوقف لكي تنقل مصاباً. لكن الخوف سكن صدور الجميع. ومعظمنا غادر برلين وقد قرر أنه لن يسمح لنفسه بدخول صالات السينما إلا إذا كان العدد يقتصر على خمسة أفراد، كل منهم يجلس بعيداً عن الآخر.
من ذلك الحين، بدأت المهرجانات بالتوقف وإعلان تأجيل مواعيدها أو إلغاء دوراتها المقررة: ثيسالونيكي للأفلام التسجيلية (اليونان)، سان فرانسيسكو (كاليفورنيا)، ترايبيكا (نيويورك)، مهرجان البحر الأحمر (السعودية)، مهرجان أفلام السعودية، مهرجان «هوت دوكس» (كندا)، إسطنبول (تركيا)، بلفاست (آيرلندا)، وسواها والحبل على الجرار.
شهران قبل حلول مهرجان «كان» وهو لا يزال يحاول ألا يتوقف. «فينيسيا» قد يضطر إلى التأجيل أو إلغاء الدورة، رغم أنه يقع في نهاية أغسطس (آب)، كذلك الحال بالنسبة لـ«تورونتو» الذي ينطلق في الشهر التالي بعده.
لكن المسألة ليست مسألة مهرجانات فقط. هناك البشر أولاً، واستديوهات وشركات الإنتاج وشركات التوزيع ثانياً، ثم صالات السينما ثالثاً. هي تداعيات متوالية تشبه أمواج البحر التي ترتفع لترتطم بالصخور ثم تعود إليها من دون توقف. بدأت التداعيات في هوليوود صارمة وفي واجهة روّادها مباشرة.
انتشرت إصابات بين أهل المهنة. توم هانكس وجه بشوش وممثل محبوب ولديه معجبون كُثُر. ثم تبعه إدريس إلبا، راتشل ماثيوز (إحدى ممثلات فيلم Frozen 2) أولغا كورلينكو («الرجل الذي قتل دون كيشوت»، «مارا»، «الغرفة» إلخ...). والحال أن العديد من الممثلين والسينمائيين عموماً التزموا منازلهم خوفاً من الهواء حامل الجرثومة الفتاكة.
خلال ذلك بدأت الشركات تتخلص من عبء أفلامها الكبيرة بإرجاء عروضها المبرمجة خلال هذا الشهر والأشهر المقبلة.
أحد الأفلام التي كان من المنتظر لها أن تبدأ عروضها هذا الأسبوع هو «مكان هادئ 2»، التكملة (أو الجزء الثاني من) فيلم الرعب الذي حققه جون كرازينسكي من بطولة زوجته إميلي بْلَنْت، وحقق به نجاحاً تجارياً (ونقدياً إلى حد كبير) قبل عامين. الفيلم من إنتاج باراماونت.
في الفيلم السابق أطبقت مخلوقات غامضة على سطح الأرض تفتك بكل من يصدر صوتاً في تلك الغابة التي لجأت إليها عائلة هاربة من الموت. في الفيلم الذي تم تأجيل عروضه كنا سنجد المخلوقات وقد احتلت الولايات المتحدة أو معظمها.
في «بيرد بوكس» (إخراج سوزان باير وبطولة ساندرا بولوك) العدو أكثر غموضاً، لكنه لا يتحرك بالسمع، بل بالنظر. على بطلة الفيلم وابنتها (روزا سالازار) إبقاء عيونهما مغمضة تحت أي ظرف والهرب من ملجأهما في بيت ريفي إلى النهر القريب، حيث القارب الذي سيقلهما إلى منطقة أمان إذا ما أبقيا عيونهما مغلقة.
أيضاً من الأفلام التي أجّلت، المغامرة 26 من سلسلة أفلام جيمس بوند «لا وقت للموت». شركة مترو - غولدوين - ماير لم تجد بداً من إعادة برمجة الفيلم من مطلع يونيو (حزيران) المقبل إلى نوفمبر (تشرين الثاني) قبيل نهاية هذه السنة. مع ميزانية تقترب من 250 مليون دولار لا يوجد مهرب من تأخير العرض حتى لا تقع كارثة لا يستطيع حتى جيمس بوند حلّـها.
«ديزني» أجلت فيلمها الكبير «مولان» الذي أنتجته بطاقم من الفنانين والفنيين الصينيين لتكسب السوق الصينية كما لم تفعل من قبل. الفيلم كان بُرمج للعرض في السابع والعشرين من هذا الشهر في كل بقعة من العالم، لكن الشركة سحبت لموعد لم يتم تحديده.
وقبل يوم واحد أعلنت ديزني أيضاً عن سحب فيلمها المقبل «بلاك ويدو» (عن شخصيات مارڤل الشهيرة) من العروض المتوقعة في الأول من مايو (أيار) إلى مستقبل غير محدد. الفيلم من بطولة راتشل وايز وسكارلت جوهانسن مع ظهور لروبرت داوني جونيور.
على منواله من أفلام الكوميكس «المتحولون الجدد» (The New Mutants) الذي كانت «فوكس» على وشك عرضه في الثالث من الشهر المقبل. والشركة ذاتها استبعدت عرض فيلمها الصيفي الآخر «امرأة في النافذة» (مع آمي أدامز في البطولة) الذي كانت ستوزعه عن طريق ديزني. الموعد الجديد غير معروف.
هذه الأفلام من بين أخرى عدّة سُحبت من البرمجة إما قبل أو من بعد إعلان معظم صالات السينما إقفال أبوابها على أساس العودة إلى «العمل كالمعتاد» حال يندثر الوباء وتعود الحياة إلى طبيعتها.
الوجهة الجديدة لهوليوود هي عرض الأفلام مباشرة. ليس معروفاً ما هي الأفلام التي ستغير وجهتها لتناسب هذا التوجه، لكن هناك عدداً من الأفلام التي تطرح حالياً على أسطوانات قبل شهرين أو ثلاثة من مواعيدها، ومن بينها Birds of Prey الذي لم يختتم بعد شهره الأول من العروض السينمائية. هذا كله بجانب الأفلام والبرامج التلفزيونية التي توقف تصويرها من «أفاتار 2» وما دون.
أما السؤال الأكبر: انتهت أزمة «كورونا»، فهل سيعود الجمهور الكبير إلى صالات السينما؟ مجرد طرح هذا السؤال يسبب القلق، لكن المؤكد أن السينما تتغلب دائماً على أزماتها، وستتغلب على هذه الأزمة ولو بعد حين.