«التنوير الراديكالي» الذي أخفق

مقاربات جوناثان إسرائيل للموضوع استغرقت 20 عاماً وجاءت في 3 مجلدات

جوناثان إسرائيل
جوناثان إسرائيل
TT

«التنوير الراديكالي» الذي أخفق

جوناثان إسرائيل
جوناثان إسرائيل

قضى البروفسور البريطاني جوناثان إسرائيل، أستاذ التاريخ الأوروبي في فترة الحداثة الأولى والمدرّس بجامعة برينستون بالولايات المتحدة نحو الـ20 عاماً الأخيرة، وهو يعيد صياغة تاريخ التنوير الأوروبي في مقاربة جديدة مثيرة احتلت أكثر من 3 آلاف صفحة نشرها تباعاً ضمن 3 مجلدات. ويأتي النّص الجديد الذي صدر مؤخراً (بالإنجليزيّة) عن مطبعة جامعة أكسفورد، ليضيف خلاصة لتلك الصياغة في ألف صفحة إضافيّة، عنونها «التنوير الذي أخفق: الأفكار، والثّورة، وهزيمة الديمقراطيّة 1748 - 1830».
قدّم البروفسور إسرائيل في هذا المعمار الفكري الهائل قراءة واثقة مدعّمة بآلاف التفاصيل والإشارات لفترة التنوير الأوروبي التي لا يختلف اثنان على مفصليتها لأي محاولة جادة لتسجيل تاريخ الغرب الحديث، وبناء تصوّر نظري - تاريخي عمّا انتهى إليه العالم اليوم في اللّحظة المعاصرة. وعن ذلك يذهب إلى الزّعم بأنه علينا التحدث عن تنويرين أوروبيين اثنين، لا عن تنوير واحد: أولهما التنوير الأوروبي - شائع الذكر - وهو يتمحور حول التجربة الفكريّة الفرنسيّة - بمساعدة من مفكرين اسكوتلنديين - التي قادها في ثلاثينات وأربعينات القرن الثامن عشر فلاسفة مثل فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسّو. ويصف المؤلف هذه التجربة بما سماه مأساة الثورة الفرنسيّة، ومرحلة العنف الثوري أيّام ماكسيلميان روبسبير، لتفسح المجال بداية من صعود دولة نابليون بونابرت لـ«تنوير» آخر معتدل مخفف، - أو حتى تنوير مضاد - لا يجرؤ على الابتعاد عن ضفّة الأرستقراطيّة الرجعيّة، ورفيقتها المقرّبة - مؤسسة الكنيسة.
وجهة نظر البروفسور إسرائيل تذهب إلى وصف التنوير الراديكالي بمجموعة من المواقف الفلسفيّة ضمن اتجاه فكري متعاظم نحا تجاه كسر الخرافات المتوارثة، والمفاهيم اللاعقلانيّة، وسعى إلى إطلاق سراح العقل للتشكيك بكل المسلمات، وترجم في عالم السياسة رفضاً للامتيازات الأرستقراطية وحكم النخبة لمصلحة الديمقراطيّة التمثيليّة والجمهوريّات، وعداء عاتياً للمؤسسة الدينية الرسميّة، وما سماه بارون دي هولباخ - المفكّر الألماني الفرنسي (1723 - 1789) وأحد روّاد التنوير الراديكالي - بـ«الخرافات السياسيّة» والموروثات البالية.
يعيد البروفسور إسرائيل جذور التنوير الراديكالي إلى مجموعة مثقفين تجمعوا حول الفيلسوف الهولندي الشهير باروخ سبينوزا (1632: 1677) واستكشفوا نقد السلطة - الدينية، والسياسيّة والاجتماعية - في مرحلة الجمهوريّة الهولنديّة، حيث كانت الانقسامات المجتمعيّة قد أفرزت ميلاً إلى التوحّد في إطار منظومة ديمقراطيّة - بعكس معاصريهم في قلب أوروبا، الذين استكانوا للحكم الأرستقراطي. ويبدو أن هذه الأفكار تسرّبت مع مرور الوقت إلى مثقفي وسط أوروبا عبر كتابات نخبوية متداولة على نطاق محدود بداية، ولاحقاً عبر كتب واسعة الانتشار. وقد وظّفها هؤلاء في نقدهم للكنيسة والدّولة، وما لبثت أن تبلورت تياراً يدعو للعلمنة، والأممية، وحريّة التعبير والحقوق المتساوية، في موازاة قطيعة صريحة وجريئة مع المفاهيم التقليديّة المشغولة من الخزعبلات التراثيّة. في أجواء هذا التيّار نمت بذور الثورة الفرنسيّة، قبل أن يأتي اليعاقبة الذين صعدوا على أكتاف الثورة - وفق البروفسور إسرائيل دائماً - وأقاموا ديكتاتوريّة شعبويّة ديدنها العنف المفرط والقمع، قضت على كل الأصوات المعارضة، وأبعدت المفكرين والعقلاء لفائدة الدهماء بنهاية التجربة برمتها.
يفرد البروفسور إسرائيل مساحة واسعة من كتابه لاستعراض تلك الحلقة الدمويّة من التاريخ الفرنسي التي وصفها الفيلسوف أنطون ديستو دي تراسي (1754: 1836) بأنها «ثورة عمياء، بلا عقل، ضد العقلانيّة ذاتها»، وتسببت في تقبل الجمهور للحكم الديكتاتوري الملطّف لنابليون بعد أن نجحت سنوات الإرهاب القاسية في زعزعة النبض الديمقراطي الذي أطلقه الهولنديّون. ورغم محاولات متكررة لاستعادة التنوير الراديكالي مجدداً بعد الانقلاب الذي أطاح بروبسبير ورفاقه (1794)، فإن الجهات المحافظة لم توفّر الفرصة لوصم الثورة بالإرهاب، وبذلت غاية جهدها لدفنها نهائياً على نحو يمكن معه القول إن «التنوير الراديكالي» في أوروبا انتهى بلا رجعة منذ عام 1820 تقريباً.
بالطبع فثقافة التنوير وإن خسرت معركتها السياسيّة بسبب اليعاقبة، فقد بقيت أفكارها النبيلة ولم تضمحل كليّة، لكنها انتقلت لملكيّة الثورة المضادة التي استعادت معها الدّين مجدداً إلى الحياة العامّة، والتراتبات الاجتماعية المتمحورة حول هيمنة الطبقة الأرستقراطيّة والعائلات الملكيّة، لينشأ من هذا الخليط ميل إلى التغيير المتدّرج نقيض للثورات الجذريّة، ما لبث أن تمظهر في تيارات السياسة المحافظة التي نجحت عدّة مرّات وفي غير بلد أوروبي (بداية من بريطانيا عام 1815) في استيعاب غضب الفئات الشعبيّة عبر التنازلات الشكليّة دون المساس بأساسيات النّظام الجديد.
وترافقت هذه التمظهرات مع صعود شخصيّات فكريّة مهادنة من أمثال ديفيد هيوم ومونتسكيو التي تجنّبت النقد المباشر للدين، وحرصت على التفاوض مع الموروثات بدل القطيعة التامّة معها. ويلحظ المؤلف هنا أيضاً أن الكنيسة رغم إعادة الاعتبار لها في إطار منظومة الثورة المضادة، فإنها لم تتعافَ قط نتيجة مصادرة معظم أملاكها إبّان الثورة، وتفشي الأفكار التقدميّة للتنوير الراديكالي على نطاق واسع بين الجماهير.
ويتهم البروفسور إسرائيل التيارات الثوريّة الاشتراكيّة في القرن التاسع عشر بخيانة شعلة التنوير الراديكالي رغم انتسابها النظري له. فكارل ماركس وتلامذته انتحوا عن أفكار التنوير الراديكالي الديمقراطيّة الطابع إلى إشعال حروب طبقيّة، وإلى أولويّة لجهات على حساب أخرى في إطار صراع دائم على المصالح الاقتصادية بين أطراف المجتمع الواحد.
بالطبع فإن مشروعاً فكرياً ضخماً في أكثر من 4000 صفحة يدّعي تقديم تصور شمولي لمرحلة تاريخيّة حاسمة كان لها تأثير عميق في تشكيل لحظتنا المعاصرة لا بدّ وأن يتلقى كثير نقد. ومنه محاولة غير مقنعة للمؤلف بربط الثورة الأميركيّة بالثورة الفرنسيّة مستنداً إلى أفكار شخصيّات متنورة (تنويراً راديكاليّاً) مثل بنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون، مع أن أفكار التيار المحافظ والمتدين كانت غالبة على صياغة الدستور الأميركيّ، فيما اضمحلت ثقافة التنوير الراديكالي بعد موت توماس بين في 1809. كذلك انتقده آخرون - لا سيّما داخل فرنسا - لإعطائه وزناً غير مبرر للكتابات النظريّة ومقالات المطبوعات الثوريّة خلال فترة الثورة الفرنسيّة في إطار صياغة استنتاجاته عن المجتمعات، وعلى حساب العوامل الأخرى الممكنة بطبيعة الحال.
ومع ذلك، فإن مهمّة صياغة تصوّر كلي عن مرحلة شديدة التعقيد مثل عصر التنوير لن تسلم من الجدل، لا سيما أن إسرائيل يضع قائمة متخمة بأسماء الشخصيات التاريخيّة، بعضها ليس معروفاً على نطاق واسع، بوصفها شريكة في أحد التنْويرَينِ دون الآخر مع أن مواقف تلك الشخصيات - وفق المصادر التاريخيّة عن المرحلة - قد لا تكون بالضرورة واضحة المعالم على نحو يكفي لتعليب أحدها في ضفّة دون أخرى. وقد اتهمه آخرون أيضاً بأنّه يمنح سبينوزا - على أهميته بالطبع - حجماً أكثر من حقيقة مساهمته الفعليّة في صياغة التنوير.
وفق المؤلف، فإننا اليوم بشكل أو آخر نعيش مرحلة أقرب لنكون فيها عيالاً لديفيد هيوم، الذي انتصر رمزيّاً على سيّد التنوير الراديكالي باروخ سبينوزا. وهي دون شكّ حالة تاريخيّة ستؤدي إلى وقت ضائع كثير للبشريّة في محاولتها التعايش مع التقاليد المتوارثة الجامدة، ومزجها بغرائبيّات ما بعد الحداثة الفاسدة - على حد تعبيره. لقد أُجهض التنوير الراديكالي، وانتصر التنوير المضاد، وهذا الأخير لا يبدو في أي مزاج للانصراف في وقت قريب.



بنيس يكتب عن «الشعر والشر في الشعرية العربية»

بنيس يكتب عن «الشعر والشر في الشعرية العربية»
TT

بنيس يكتب عن «الشعر والشر في الشعرية العربية»

بنيس يكتب عن «الشعر والشر في الشعرية العربية»

صدر حديثاً عن «دار توبقال للنشر»، في الدار البيضاء، كتاب «الشعر والشرّ في الشعرية العربية» لمحمد بنيس، ويقع في 230 صفحة من القَطع المتوسط.

يتناول هذا الكتاب، كما جاء في تقديمه، «مسألة الشعر والشرّ، لصلتها المباشرة بالشعرية العربية، التي تقاطعت، عبر تاريخها الطويل، مع موقف الإسلام من الشعر والشعراء. ويعود طرح هذه المسألة إلى بدايات البناء النظري لنقد الشعر عند العرب، في القرن الثاني للهجرة، حيث ربط الأصمعي بينهما في قولةٍ له يعرِّف بها الشعر عند العرب بأنه نكدٌ بابه الشر، ويرصد المكانة العالية لحسان بن ثابت في الجاهلية، عندما كان يوافق شعر الفحول، ثم سقوط هذه المكانة بعد دخوله الإسلام، عندما أصبح يسلك طريق الخير في شعره الذي يمدح به النبي، ويدافع فيه عن الدين الجديد. وقولة الأصمعي، الجريئة بانتصارها للشعر، مسكوت عنها في الثقافة العربية؛ لأنها تهدم مرجعية الخير التي تتعارض مع الإبداعية الشعرية.

وقد تم تناول هذا الموضوع، الذي ينطوي على حساسية شديدة، برؤية نقدية تفصل بين الشعر والأخلاق، في ضوء مفهوم الشعرية العربية المفتوحة؛ رؤية تعتمد على اللغة العربية وثقافتها، عبر تاريخها الطويل، وعبر خطابات مختلفة تجمع بين الشعر والقرآن والحديث وفقه اللغة والنقد والبلاغة وعلوم القرآن، وما كان لها من صلات مع الفلسفة والتصوف، وهي بذلك رؤية ترصد للقراءة إمكانيتها الخاصة في بناء معرفة حديثة بالشعرية العربية».

وُلد محمد عام 1948 في مدينة فاس، حيث تابع دراسته الجامعية في كلية الآداب، ثم دراسته العليا في كلية الآداب بالرباط التي حصل فيها على دكتوراه الدولة في الشعر العربي الحديث. نشر قصائده الأولى عام 1968، وأصدر ديوانه الأول «ما قبل الكلام» عام 1969.

أسَّس في عام 1974 مجلة «الثقافة الجديدة»، التي لعبت دوراً حيوياً في تحديث الثقافة المغربية، كما أسهم في تأسيس «دار توبقال للنشر» عام 1985، التي وضعت أسس تحديث الكتاب المغربي، وانفتاح النشر المغربي على الصعيدين العربي والدولي، وكان في 1996 من مؤسسي «بيت الشعر في المغرب»، الذي أصبح رئيساً له لثلاث فترات حتى 2003.


طه حسين... مؤسسة ثقافية تمشي على قدميها

طه حسين... مؤسسة ثقافية تمشي على قدميها
TT

طه حسين... مؤسسة ثقافية تمشي على قدميها

طه حسين... مؤسسة ثقافية تمشي على قدميها

بعد رحيله، اعتقدت سوزان رفيقة طه حسين أنه كان ينظر إليها من عليائه، ومثلها اعتقد محبوه من كبار الأدباء؛ لأنهم تصوروه خالداً لا يموت، فماذا لو رآنا اليوم في العام الخمسين بعد رحيله؟

كان من المفترض أن تتواصل الاحتفالات هذا العام في مصر كما تفعل الدول في احتفائها بأعلام ثقافتها، بمشاركة كل المؤسسات بحيث تصدر الكتب وتقام المؤتمرات وتصدر طوابع البريد تحمل صور المحتفى به وغير ذلك، لكن عام طه حسين بدأ بتهديد مقبرته بالهدم ككثير من مقابر الكبار في الثقافة المصرية بسبب إنشاء الجسور التي تخترق جبانات القاهرة. لكن العميد أكثر حظاً من الجبرتي وابن خلدون ويحيى حقي، فقد انتهى الأمر بمرور من فوق مقبرته دون إزالتها!

رحل طه حسين في أكتوبر (تشرين الأول) 1973 فلم يرَ اكتمال الغدر بوصيته الكبرى «التعليم» الذي تآكلت مجانيته ولم يعد حقاً طبيعيّاً للبشر كالماء والهواء. ولو لم يتم الغدر بوصيته فما كان لعظامه أو عظام غيره من الكبار أن تتعرض للخطر. ولكان من الطبيعي أن يُخصص العام للاحتفال بذكراه كما تفعل الأمم المتعلمة.

لكن أبناء وأحفاد طه حسين من الكتاب أقاموا احتفالاتهم الخاصة في شكل وفرة من الكتب يتوالى صدورها في القاهرة وغيرها من العواصم العربية، من بينها كتاب الباحث والروائي الدكتور عمَّار علي حسن، الذي صدر مؤخراً كتابه «بصيرة حاضرة... طه حسين من ست زوايا» عن مركز أبوظبي للغة العربية. الكتاب الذي يقع في 504 صفحات لديه طموح أن يكون مرجعاً شاملاً عن طه حسين، يحجز لنفسه موقعاً وسط وفرة التأليف عن عميد الأدب العربي، حيث يستند عمَّار إلى عدد كبير من المراجع مع نفس سردي يعيد بناء سردية متماسكة عن الرجل.

طه حسين

لا يستطيع باحث أن يقاوم ذكريات نشأته التعليمية الأولى وموقع طه حسين منها. هكذا يحكي عمَّار كيف تلقى سيرة العميد «الأيام» التي كانت مقررة على طلاب المدارس، وكيف كان معلموه يجتهدون في النطق ليكون مكافئاً لبلاغة العميد.

ويعتبر عمَّار علي حسن العميد مؤسسة كاملة كانت تمشي على قدمين، ويعتبر أن البحث في منجزه ليس بحثاً في الماضي، بل في الآني؛ نظراً لأن نصه وأسلوبه وسلوكه الثقافي لا يزال قادراً على إفادتنا فيما يواجهنا اليوم. داعياً إلى إعادة درسه بكل جدية بما في ذلك دراسة إخفاقاته بعيداً عن كتابات المغامرين وهواة السجال الذين وقع تراث العميد ضحية لهم.

وكما اختط طه حسين لنفسه منهجاً في دراسة غيره؛ يضع عمَّار لنفسه خطة لدراسة العميد من ست زوايا: المنهج، النص، الذات، الصورة، الموقف، والأفق.

لماذا وكيف؟

المنهج عصب أي علم، ورغم أن طه حسين بدأ حياته في مسار ينشغل بالرواية قبل الدراية، إلا أنه أدرك منذ وقت مبكر بفضيلة المساءلة، وأبرز سؤالين لديه هما: لماذا وكيف؟ ويرى علي أن انشغال طه حسين بالمنهج فاق كل شيء، وفي الوقت نفسه يبدو المنهج بارزاً إلى جانب عطائه المعرفي في كل كتاب. على سبيل المثال، فالمهم في «الشعر الجاهلي» هو ثورة المنهج، وليس ما جاء بالكتاب حول الشعر بذاته.

ورغم ارتباط طه حسين في الذاكرة الثقافية بمنهج الشك الديكارتي، فإن هناك من المصريين والمستشرقين من أثروا فيه أكثر من رينيه ديكارت وبينهم ثلاثة يحملون اسم المرصفي، هم حسين، وسيد علي، ومحمد حسن نائل المرصفي، وهناك حفني ناصف وإسماعيل رأفت مع مستشرقين مثل جويدي ونالينو.

هناك ركائز ومسارات متعددة قادت طه حسين إلى «الشك من أجل التحقق»، أهمها تكوينه التراثي؛ فقد استفاد من دراسته للفقه الإسلامي، وهو العلم الذي يدرس الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، كما ساهمت في شكه ضرورة التثبت التي يشدد عليها القرآن الكريم، بالإضافة إلى علم الجرح والتعديل أو «علم الرجال» الذي تفردت به الأمة الإسلامية وقام عليه عماد رواية الأحاديث النبوية.

اختبار النص

الركيزة الثانية لحضور طه حسين - فيما يرى عمار علي حسن - هي نصه الذي مر باختبار الزمن ولم يزل حيّاً من بعده. وأولى خصائص نصه أنه ابن الإملاء، لا ينشأ إلا في حضور المستمع؛ لهذا فكل ما بين أيدينا هو «حديث طه حسين لا كتابته» وهذه مسألة جوهرية من النظر إلى نصوصه، وقد عبّر طه حسين عن هذه المسألة «أنا لا أكتب وإنما أُملي. وقد لاحظ البعض ذلك وخصوصاً فيما يتعلق بمقالاتي. فإذا أمليت في بيتي، مشيت وأنا أُملي. إذا أمليت في الصحيفة فإنني أجلس إلى مكتبي ساكناً بلا حراك كأنني تمثال... (كتابات من الشاطئ الآخر)، جمع وترجمة عبد الرشيد الصادق المحمودي».

على الأرجح يكون المتكلم أقوى شعوراً بذاته من الكاتب المنفرد بنفسه ولديه فرصة لينساها. يحمل «الأيام» طرفاً من مشافهة طه حسين، ومن ثباته بينما يُملي نصاً لصيقاً بحياته إلى هذا الحد، ويبين في الوقت ذاته مدى قدراته السردية التي تبدت في هذا النص بأكثر مما ظهرت في نصوصه السردية الأخرى. وهناك شهادات من تلاميذه في الجامعة تقول إن أسلوبه في إلقاء محاضراته كان يشبه أسلوبه في إملاء ما يكتب، وينقل عمَّار عن عبد المنعم شميس قوله «كان في محاضراته يشبه الشيخ محمد رفعت في ترتيله للقرآن».

ولأنه لم يكن يعيد التنقيح؛ فنصه بِكر فكر فيه طه حسين طويلاً قبل أن يمليه، لم يكن يطلب من المدون أن يعيد قراءته ولم يكن يعرض نصوصه على أحد من أصدقائه قبل النشر كعادة بعض الكتاب، ويتفق عمار مع المحمودي في اعتبار طه حسين هو سيد النثر العربي الحديث، منزلته كمنزلة الجاحظ من النثر القديم إجادة وتنوعاً. له بصمته التي لا يخطئها قارئ بعد أسطر عدة، بما يتميز به من إيقاعية وحس قصصي واحتفاء بالمألوف من الكلمات وتكرارية للتوكيد وصيغ أفعل التفضيل. لكن لغة طه حسين لم تكن وليدة عن تصور نظري منطقي لبنية اللغة، بل كانت لغة وظيفية تلتزم المعنى بصرامة.

الوعي بالذات

في تناقض مع منهجه في التمحيص رفع البعض طه حسين إلى أعلى مراتب السمو ورماه البعض الآخر بكل ما يهبط به ويذري بمكانته، فماذا عن صورته في مرآة ذاته؟

في «الأيام» لم يشأ أن يعبّر عن ذاته بالضمير الأول، بل أشار إلى نفسه بوصفه «الفتى» ولكنه تحدث بصيغة «الأنا» في مواقف متفرقة في ندوات وحوارات تكشف عن تصوره لنفسه. عد طه حسين الكتابة فعل حرية، وكان في هذا معجباً بسقراط الذي كانت حريته قرينة وجوده. وقد وضع الحرية قبل العدل في سلم القيم لديه، معتبراً أنها الطريق إلى الفضائل، فالشعور بالعدل يقوى ويشتد كلما قويت الحرية واشتدت. هذا الإيمان المطلق بالحرية يضع طه حسين على مسافة من أصحاب نظرية الالتزام الذين يمكنهم التخلي عن الحرية ولو جزئيّاً في سبيل تحقيق أهداف كبرى.

صور العميد

تتسيد صورة قاهر الظلام غيرها من صور طه حسين لدى الغالبية العظمى من الناس، هي نقطة النور المبهر التي تجذب الجميع. وقد حوَّل عميد الأدب العربي إعاقته إلى ميزة؛ إذ مدته بأشياء لا غنى عنها للكاتب الجاد، منها العزلة ومنها انطلاق الخيال لرسم عالم لا يراه، وتعزيز البصيرة والذاكرة اللاقطة، وقد تعرضت ذاكرته القريبة للضعف بعد الثمانين، فسرعان ما كان ينسى زواره بعد انصرافهم.

وهو المثل بالنسبة لكل من عانوا وسوف يعانون من هذه الإعاقة، فانتصار طه حسين انتصار لهم، وها هو الأديب الكويتي عبد الرازق البصير يقول عن تأثير طه حسين عليه: «لم أكد أمضي في قراءة كتاب (الأيام) حتى انفتح لي باب الأمل في الحياة» وها هو الشاعر اليمني عبد الله البردوني يرفض تعلم الكتابة بطريقة «برايل» لأن طه حسين حقق ما حقق دون أن يتعلمها.

غير قاهر الظلام، للعميد صور متعددة؛ فهو التلميذ النجيب الذي يجلّ أساتذته مثل لطفي السيد ومحمد عبده وماسنيون ويجد في نفسه الشجاعة ليختلف معهم ويعبّر عن اختلافه، وهو الأستاذ البارع والأب الذي يقبل اختلافات أبنائه دون أن ينكروه أو ينكرهم، وهو المدافع عن كرامتهم وعن استقلال الجامعة.

لكن ذلك لم يمنع طه حسين من اكتساب صورة الشخص الأسطورة بعد رحيله، فها هو يوسف إدريس يزور مكتبه مع آخرين بعد وفاته، ويقول إننا وقفنا ننتظر أن يطل علينا بقامته المديدة، فقد كان في نظرنا خالداً لا يموت».

الرجل الموقف

قد يشبعنا نص جميل وترضينا فكرة شجاعة، لكن بمجرد أن نكتشف أن الكلمات لم تمسس قلب كاتبها أو أن سلوكه ومواقفه تختلف عما يدعو إليه سرعان ما يفقد الكاتب مكانته. لهذا يجعل عمَّار علي حسن مواقف العميد السياسية والثقافية ميزاناً يزن به رصيده الهائل من الكلمات. الحرية هي القيمة العليا التي دافع عنها في كل شيء، واعتبرها أم الفضائل.

وكان العدل الاجتماعي وتهيئة الفرص المتساوية من أهم أولويات طه حسين، وعمل لتحقيق ذلك من خلال جهوده لإصلاح التعليم الذي عدَّه كالماء والهواء، يجب أن يكون حقاً للجميع مؤمناً بديمقراطية لا رأسمالية التعليم. وخاض في سبيل ذلك معارك في مناصبه المختلفة وفي الصحافة ضد خصوم شرسين بينهم العقاد الذي وقف ضد المجانية؛ إذ كان مهووساً بالعداء للاشتراكيين والثوريين.

وفي غمار السياسة أسفر عن مثقف عضوي منخرط في كل شئون البلاد، تفاعل بوعي مع تطورات الواقع، ملتزماً خط النهضة منفتحاً على كل التيارات، ويتوقف عمَّار ملياً أمام صلة طه حسين بضباط يوليو (تموز)، وهذه صفحة يحلو للبعض أن يزايد فيها على العميد، لكنه كان ثائراً من قبلهم، والتقى معهم في أشياء دون أن يتطابق مع سياساتهم، وهم أكبروه - ولو في البدايات - ولم يتطابق معهم أو يعبثوا برأسه، وإن حاول حماية نفسه بستار من المجاملات الشكلية لم تخف الخلاف. وقد نبّه إلى خطورة غياب الحرية في محاضرة ألقاها في نادي الضباط بعد نحو ستة أشهر من قيام الثورة.

وأخيرا، يتساءل عمار علي حسن عن أسباب بقاء طه حسين حيّاً إلى اليوم، هل هو جمال نصه؟ لقد جايله آخرون بنصوص جميلة، وتجاوزت المدارس الفكرية الكثير من أفكاره، فهل يعيش لأننا لم نزل نتعثر في أسئلة زمنه؟ ويخلص إلى أن سره في تحوله إلى أمثولة ومثلاً أعلى لتحرر الفرد بسبب المسافة بين ما كان ينتظره كأعمى ريفي وبين ما حققه من مكانة فكرية عالية.


«طواحين الهوى»... كتاب لـ15 سيدة من أهالي المفقودين في لبنان

ملصق لمعرض أقيم قبل سنوات للتذكير بقضية المخطوفين والمفقودين جاب مدناً لبنانية عدة
ملصق لمعرض أقيم قبل سنوات للتذكير بقضية المخطوفين والمفقودين جاب مدناً لبنانية عدة
TT

«طواحين الهوى»... كتاب لـ15 سيدة من أهالي المفقودين في لبنان

ملصق لمعرض أقيم قبل سنوات للتذكير بقضية المخطوفين والمفقودين جاب مدناً لبنانية عدة
ملصق لمعرض أقيم قبل سنوات للتذكير بقضية المخطوفين والمفقودين جاب مدناً لبنانية عدة

الكتابة هي فعل نضال أحياناً، ووسيلة فضلى لمصارحة الذات وفكفكة مفاصل آلام الروح، في أحيان أخرى. والكتابة هي هذا كله وأكثر، في كتاب «طواحين الهوى»، الذي يصدر عن «دار نلسون» في بيروت، بعد أيام، ويضم مجموعة من القصص كُتبت بقلم 15 امرأة، من أهالي المفقودين والمخفيّين قسراً، خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990، ولا يزال مصيرهم مجهولاً. هؤلاء النسوة تظاهرن واحتججن حتى باتت حكاياتهن في كل بيت لبناني، وما زلن يناضلن، من أجل استعادة أحبابهن دون جدوى، وقد لجأ عدد منهن إلى الكتابة وسرد قصصهن باعتبار ذلك سلاحاً أخيراً بعد أن فشلت كل السبل.

يأتي إطلاق هذا الكتاب بعد شهر ونصف الشهر تقريباً من الذكرى الثامنة والأربعين للحرب الأهلية اللبنانية، التي اندلعت في 13 أبريل 1975، وحصدت 100 ألف قتيل، وبقي ما يقارب 17 ألف شخص مفقود، ولم يُعرَف إلى اليوم مصيرهم.

و«طواحين الهوى» يصدر في وقت واحد باللغة العربية، كما باللغتين الفرنسية والإنجليزية. النسخة العربية تضم حوالي 160 صفحة، فيه عصارة آلام تجربة 15 امرأة، ذاقت كل منهن مرارة اختفاء زوج أو أخ أو أب، وهي عيّنة من بين عشرات آلاف القصص التي لم تُدفن بعدُ، ولا يزال أصحابها يلاحقون آثار مفقوديهم.

وكما هو واضح، فإن العنوان مستعار من «طواحين الهواء» لسيرفنتس، التي يصارع فيها بطله المصاعب دون جدوى، وهي كتلك الحكايات التي كُتبت في القرن السابع عشر، متشابكة، وفي الوقت نفسه قصص مستقلة، كلٌّ بذاتها، على طريقة سرد ألف ليلة وليلة.

وبطبيعة الحال، فإن النساء اللاتي يناضلن منذ أربعين عاماً، لسن، على أية حال، أديبات ولا كاتبات أو مبدعات محترفات، لكنهن قررن الكتابة والتعبير عن مواجعهن. ومن أجل تحقيق غايتهن، خضعن لسلسلة من ورش عمل للكتابة الإبداعية على يد الكاتبة فاطمة شرف الدين، نظّمها لهن «المركز الدولي للعدالة الانتقالية»، بالتعاون مع «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان»، خلال السنة الماضية.

وسيجري إطلاق «طواحين الهوى»، في الأول من شهر يونيو (حزيران) المقبل، بين الساعتين الرابعة والسابعة، بحفل توقيع في «دار الوردية» بمنطقة الحمرا في بيروت، ويتخلل الحفل قراءات لمقتطفات من الكتاب، ومعرض صور، مع تحية غنائية موسيقية تقدمها الفنانة أميمة الخليل، والمؤلف الموسيقي هاني سبليني.

لم تتوقّف هؤلاء السيدات، طوالَ عقودٍ من الزّمن، عن البحث عن أحبائهنّ، ولم يضيّعن أية فرصة للمطالبة بمعرفة الحقيقة وتحقيق العدالة. وجاءَ ذلكَ هذه المرة، من خلال «طواحين الهوى»، حيثُ استعملن الكتابة لسرد قصصهنّ.

تقول نور البجاني، مديرة البرامج في «المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة» في لبنان واليمن: «أمام مماطلة الدولة وتلكُّئها عن تحمّل مسؤوليّاتها، شعرتُ وكامل فريق المركز بالحاجة المُلحّة إلى إيجاد قوّة دفع شعبيّة تُبقي القضيّة حيّةً، وتردع أصحاب الشأن عن رميها في أدراج الإهمال والنسيان». وحصل أن تزامنت تلك الرغبة مع اقتراح تقدمت به وداد حلواني، رئيسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين»، يقضي بتدوين قصص الأهالي ومعاناتهم؛ كي تُحفظ في الذاكرة الجماعيّة، وتضمن تناقلَ الأجيال هذه القضيّة الوطنيّة.

ورشة كتابة

لكن كيف يمكن لنساء عاديات لا يمتلكن مهارات أدبية أن يدونَّ معاناتهن؟ أقدمت الكاتبة اللبنانية فاطمة شرف الدين على تدريب النساء الراغبات في الكتابة، وقد سكنتها مهابة من صعوبة المهمة، فقد أشرفت على عشرات ورش الكتابة سابقاً، لكن «هذه المرّة، هناك قضيّة عمرها أربعون عاماً، أبناء وآباء وأخوات وإخوة وأمّهات وأزواج وزوجات خُطفوا وفُقدوا خلال الحرب». بعد الكتابة ستشعر الأمهات والزوجات بأن قضيّة مفقودي ومخطوفي الحرب اللبنانيّة لن تُمحى من الذاكرة الجماعيّة؛ ذلك لأن الكتابة تستحضر الأحداث وتصبح القصص موَثّقةً ومحفوظة، ولا خوف من نسيانها أو طمسها عمداً.

كتبت الأديبة فاطمة شرف الدين، في مقدمة «طواحين الهوى»: «كانت تلك من أغنى الورش التي قدّمتُها في حياتي. تثبّتت لديّ فكرة أنّ في الكتابة علاجنا النفسيّ، واكتشافنا لذواتنا؛ فهي توضح لنا المشاعر التي نقمعها أو نخبّئها عن أنفسنا. وباعتراف المشارِكات، كانت الكتابة، بالنسبة إليهنّ، أداةً للتنفيس عن الضغوطات التي يمررنَ بها، وللتخفيف من عبء المشاعر المؤلمة الذي يحملنه منذ عشرات السنين. كانت هناك ثقة بين المشارِكات، وحرّيّة في التعبير عن أيّ أمرٍ كان، وصراحة في إظهار المشاعر والمخاوف والأحزان، ومشاركة أسرار صغيرة؛ مع العلم بأنّ لقاءاتنا لم تخلُ من الروح الفكاهيّة والأخبار الطريفة».

تعتبر سعاد أبو نكد، التي فُقد شقيقها عام 1983، أنها وهي تكتب قصتها، إنما كانت تذكّر الناس بوجع العائلات، وعذابات الأهل وما عانوه طوال سنين، أما سوسن كعوش، التي كتبت قصة «خطوات وأثر» عن فقدها شقيقها عام 1980، فتتحدث عن اكتشافها مخاوفها الدفينة، وأنها تمكنت، لأول مرة، من مواجهتها والتعامل معها بفضل الكتابة. وكتبت سهاد كرم قصة «اسألني»، معتبرة أنها للمرة الأولى تتطبب من اختفاء زوجها، لكن دون دفع مقابل. أما وداد حلواني، التي اختفى زوجها منذ عام 1982، فكتبت: «شاناي: من فسحة حب إلى ساحة حرب»، منادية بضرورة نبش ملفات الحرب وكشف الحقائق.

الفضل في أن يبصر الكتاب النور، يعود إلى ثلاث نساء هن: نور البجّاني، مديرة البرامج في «المركز الدوليّ للعدالة الانتقاليّة في لبنان واليمن»، ووداد حلواني، مؤسِّسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين»، التي خُطف زوجها في ثمانينات القرن الماضي ولم يعد، ولا تزال تبحث عنه، والفنانة اللبنانية تانيا رضوان، التي صمّمت الكتاب وعكست القصص برسومات مميّزة. ورضوان استطاعت العبورَ إلى دواخلِ الكاتبات الناشئات من خلال حكاياتهنّ، وتظهير ما التقطتْه برسوماتٍ مميّزةٍ بالشكل والمضمون، فأخرجتْ نتاجهنّ في هذا الكتاب الأنيق.

وقد أمكنَ تحقيق هذا المشروع بفضلِ الدّعم السّخي من وزارة الشؤون الخارجية لمملكة هولندا، كما سيعود مردود الكتاب لدعم «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين»، ونضالها المستمر منذ عقود.

بطء ولا مبالاة

وتسير قضية المخطوفين والمفقودين ببطء شديد، نتيجة لا مبالاة المسؤولين وتقاذف المسؤوليات، لكن الأهالي تمكنوا قبل ما يقارب 4 سنوات من انتزاع قانون يعترف بحق كل عائلة في معرفة مصير الغائب الذي يخصها. وتردد العائلات أن سلاحها الحق والأمل الذي لا يموت، وهوايتها نزع فتيل الحرب ونشر السلام، بعد كل ما أصابها من آلام.

تفول البجاني: «أملُنا أن تسهمَ هذه الحكايات النابعة من القلوبِ في التخفيفِ من حرقتِها وثقلِ ما فيها، وأن تشكّلَ هذه الصفحات الممهورة بختم أهل هذه القضيّة، مرجعاً وقيمةً إضافيّةً وضروريّةً لكتابةِ تاريخ حرب الـ15 سنة التي عاشها لبنان، حتّى تنذكر تما تنعاد».

 


28 كتاباً في أولى دفعات مبادرة «مئة كتاب» السعودية

شملت الدفعة الأولى من المبادرة 28 كتاباً في مجالات متنوعة (مؤسسة أدب)
شملت الدفعة الأولى من المبادرة 28 كتاباً في مجالات متنوعة (مؤسسة أدب)
TT

28 كتاباً في أولى دفعات مبادرة «مئة كتاب» السعودية

شملت الدفعة الأولى من المبادرة 28 كتاباً في مجالات متنوعة (مؤسسة أدب)
شملت الدفعة الأولى من المبادرة 28 كتاباً في مجالات متنوعة (مؤسسة أدب)

اختارت «مؤسسة أدب» 28 كتاباً ضمن أول دفعة من مبادرة «مئة كتاب» التي تهدف لتمكين المؤلفين السعوديين من تقديم إسهامات تثري المحتوى الأدبي، حيث شملت مجالات متنوعة كالنقد والفلسفة، والشعر، واللغة والعلوم، والاجتماع والسياسة، والنثر والرواية، والتاريخ والثقافة، وذلك بدعم من الصندوق الثقافي.

وتأتي المبادرة التي تدعم تأليف 100 كتاب، في إطار جهود تعظيم المحتوى الثقافي السعودي والعربي بما يتوافق مع مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للثقافة و«رؤية المملكة 2030»، وتطلعاتها. وسيعلن عن بقية الكتب خلال الدفعات القادمة.

تهدف المبادرة إلى دعم تأليف 100 كتاب لتعظيم المحتوى الثقافي السعودي والعربي (مؤسسة أدب)

ويتضمن الدعم توفير خط إنتاج مستمر ومستدام لهم، بدءاً من التعاون معهم في اختيار المادة ثم تطويرها ومراجعتها وتنفيذها، وانتهاءً بطباعتها ونشرها وتسويقها عبر منصات «أدب»، والمتاجر الإلكترونية، ومعارض الكتاب الدولية. وتعد المبادرة أحد المشاريع النوعية التي يدعمها الصندوق لإثراء المحتوى السعودي والعربي، وتوفير بيئة داعمة للمؤلفين، وضمان استدامة الحراك في مجالات التأليف والنشر، والارتقاء بجودة مخرجات قطاع النشر في السعودية ليسهم بدوره في تمكين القطاع الثقافي، وتعزيز حضوره ضمن المنظومة الثقافية.


التلصص... عتبة روائية

التلصص... عتبة روائية
TT

التلصص... عتبة روائية

التلصص... عتبة روائية

يلعب التلصص دوراً مهماً في تنويع مسارات السرد في رواية «في الليل على فراشي» للكاتبة إنجي همام، الصادرة أخيراً عن دار «بدائل» بالقاهرة، حتى يكاد يكون أحد أبطالها، فالذات الساردة تتكئ عليه كعتبة للنص، وتتخذه معولاً للكشف والتأمل في مفارقات عالمها البسيط المغوي، واللعب مع المكان والنبش في ذاكرته وتضاريسه.

يبدأ فعل التلصص في الرواية من شقة «آديل» الأرملة الفرنسية صديقة البطلة، التي تقطن إحدى البنايات العريقة بشارع شريف بوسط القاهرة، وهو الشارع نفسه الذي تهديه الكاتبة الرواية قائلة: «إلى شارع شريف (المدابغ سابقاً)، إلى دراويشه ومريديه، الصعاليك والفقراء والحالمين، إلى زحامه النهاري وهدأته الليلية، إلى نوره الذي لا ينطفئ وعتمتهِ المسكونة بالأسرار، إلى السحر الساكن فيه».

يشكل هذه الإهداء البسيط مفتاحاً للنص، ويشي بأن مغامرة التلصص ستبدأ من هنا، من رحم الحركة والسكون. حيث تتحول حافة نافذة بشقة «آديل» وبالمصادفة إلى «برج للمراقبة». تستند البطلة على حافة النافذة لاستنشاق نسمات الهواء، في ليلة عيد ميلاد صديقتها وتضطر للمبيت عندها. لكنها تفاجأ بمشهد لزمرة من الرجال يتراوح عددهم ما بين 8 أو 10، يقودهم رجل طويل القامة يبدو كأنه زعيمهم. بعد منتصف الليل وبإشارة منه يصطفون في هدوء كجنود حراسة على رصيف مبنى عتيق مهمل مغلق منذ سنوات، كان مقراً لبنك الإسكندرية، يقع في مواجهة نافذة المراقبة، ثم يتسللون إلى داخل المبنى، بعد أن يفك زعيمهم أقفال بابه السميكة، ومع غبشة الفجر يخرجون، ويتفرقون في شوارع وسط البلد، ويلحق بهم زعيمهم بعد أن يغلق الأقفال.

في البداية، يمر المشهد في عين البطلة كحلم، لكن مع تكراره بالطقس نفسه يصبح واقعاً وسرّاً من أسرار المكان، تنشغل به وتعدّه اكتشافاً خاصاً، بل قضية وجودية معلقة ما بين قوسي الشك واليقين، وهو ما تعبر عنه في (ص 13): «أبقى قرب النافذة، في انتظار هبوط العالم الآخر لشارع شريف، ليلات ثلاث، في انتظار تجلي زمرة البنك مرة أخرى. في الصباح أحدق في البناية العتيقة، أسألها بكل عنف صموت، هل أتاكِ بشرٌ بعد منتصف ليلة صيفية طويلة، هل دخل البعض هنا، وأغلقوا خلفهم باباً عتيقاً ثقيلاً على أسرار يدفعني الجنون إلى اكتشافها؟».

يساعد على ذلك ولع البطلة بشوارع وسط القاهرة على نحو خاص والحنو عليها، والتجوال فيها وممارسة التلصص، بخاصة على البنايات القديمة ذات الطرز المعمارية الجميلة المبهجة، حتى إنها أحياناً تضطر إلى اصطناع التلصص لإشباع رغبتها المسالمة، وكأنها لعبة هاربة من مرآة الطفولة، تنتحل من أجلها الأسباب للولوج إلى بناية ما، بحجة البحث عن شقة خالية للإيجار، مدفوعة بحكمة استقتها من هذا الولع بالمكان، حيث «كل ما لا يرى بالعين لا يشرح بالكلام»، كما تقول (ص 28).

وهكذا، بغواية التلصص مشّرَباً بكذبة بيضاء، تفك البطلة شفرة سرِّها، بعد أن توهم صديقتها بالسفر مبكراً في رحلة ترفيهية قصيرة من رحلات اليوم الواحد، تخرج مع غبشة الفجر، تتبع الرجال العشرة وهم يخرجون من المبنى العتيق، ثم يتفرقون في الشوارع، مركزة على زعيمهم، فتطارده كظله، وما أن يدخل إلى أحد معامل التحاليل الطبية، تلاحقه، وتتصنَّع حاجتها لإجراء تحليل طبي شائع، فتكتشف أنه الطبيب الذي أجراه لها. حينئذ تتحول دفة التلصص إلى حالة لاهثة من الاكتشاف لهذا الرجل طويل القامة الصموت، زعيم «زمرة الرجال العشرة» في رحلتهم الليلية. يشفق الطبيب عليها بعد أن أصابها دوار جراء التحليل المفاجئ، ويعرض عليها أن يوصلها بسيارته إلى البيت. طيلة الطريق لم ينطق سوى ببعض الإيماءات والهمهمات المبهمة، ومع ذلك أحست بأن شيئاً ما بداخلها يشدها إليه، وأنها سوف تقع في غرامه، وتتمنى أن تتسع دائرة التلصص وتعرفه أكثر.

تقول الكاتبة على لسان بطلتها الساردة مجسدة هذه الربكة المفاجئة (ص 4): «الصمت كاد يخنقني أكثر من قلة الهواء، لم يكن خوفاً ذلك الشعور القائم الذي خايل روحي طيلة الطريق، كان ضجراً أفضى إلى صدمة أو ما يشابهها، أوخز الصمت الطويل بكلمات شكر متناثرة من حين لحين، فيرد بإيماءات صغيرة، لم تكن الحلقةَ الكبرى في المغامرة العجيبة، ولكنها الأشد سخفاً حتى اللحظة، لماذا وافقت على مرافقته لي، لماذا عرض هو، لم يكن وضعي خطيراً، ولم يبدو مطلقاً أنه من تلك النوعية من الرجال، النوعية التي سمعت عنها أكثر من غيرها، أكان مغناطيس الكشف هو من ألصقني به، ليعود هو بي لبيتي بدلاً من أن أتبعه، أم هو جذب من نوع آخر، ترى ماذا قال هو عني؟».

يكشف هذا المشهد المتشكك الحائر عن طبيعة التلصص وحِيله على مدار فصول الرواية الثلاثين، وصفحاتها التي تتجاوز المائة والخمسين صفحة، ففي البداية يراوغ التلصص ما بين الثقل والخفّة، كما يتحول إلى لعبة مشرّبة بمسحة درامية، وأحياناً يشكل طوق نجاة وملاذاً للذات، ومن ثم، يبدو صمتُ «رشيد» وكأنه تلصص داخلي، يصفو من خلاله إلى نفسه، هارباً من ضجر العالم وكوابيسه التي تغلف فضاء الواقع في النص.

من هذه الزاوية تحديداً تتكشف شخصية «رشيد» زعيم زمرة البنك، بطبقاتها المركبة وأطيافها المربكة، بخاصة بعد أن تتوطد علاقته ببطلة الرواية الساردة الأساسية، التي تترك الكاتبة اسمها مفتوحاً على تأويلات شتى. فلا يخاطبها رشيد به، حتى بعد أن تأنس إليه وتعجب باسمه وعالمه الغريب وواقعيته الإنسانية الفريدة وعطائه الوافر بلا حدود. مع ذلك يبدو هذا العالم جوانياً، فهو لا يكترث كثيراً بما يدور حوله، وإنما بما يصنعه هو، تعلَّم من خبرته الطويلة بالبشر والحياة فن الحذف والإضافة، بل الإزاحة لكل ما يعوق خطوته حتى لو كان عاطفياً يمس زوجته. كل همه العطاء في صمت لمن يستحق، ويجد ضالته في دراويش ومشردي الشوارع، يكوِّن منهم ثلة، ويأخذهم في نزهات ليلية، يأكلون ويشربون ويمرحون في ونسة استثنائية مسروقة من جعبة الزمن، يضخون من خلالها البهجة في الأماكن العتيقة المهجورة.

يعزز ذلك بنية المصائر المتشابهة في الرواية، التي تصل أحياناً إلى حد التطابق، ما يجعل عالمها أشبه بتاريخ مشترك متناثر بين أبطالها، يتقلب ما بين المرئي المحسوس، والمتحفي المضمر في طبقات السرد، وما وراء العناصر والأشياء. أيضاً استخدام الكاتبة بمهارة وخفة لضمير المتكلم على مدار أغلب فصول الرواية، وباستثناءات خاطفة تكاد لا ترى، ما يجعل الراوي حاضراً دائماً داخل عالمه، يطل عليه من نافذته هو، وليس من نافذة الآخر. المخاطب أو الغائب.

تمس النوستاليجا أغلب أبطال الرواية، وتضعنا أمام ما يمكن تسميته أيضا «ضفيرة المصائر المتشابهة»، بداية من البطلة التي تعيش في كنف خالها، منذ أن كانت طفلة صغيرة لم تتجاوز السنوات الثلاث، ولا تعرف عن والديها شيئاً، سوى أنهما تزوجا كرهاً وانفصلا في ظروف أشد قسوة ومأساوية، وذهب كل منهما إلى طريق آخر. كذلك الأمر بالنسبة للخال «أديب» و«آديل» وزوجها المتوفي أكرم، و«رشيد» وابنته «ليل». كلهم يعانون من فقد ما لشخص مهم، تحول فقده إلى فجوة حياة يصعب ردمها، فقط التعايش معها بقليل من قطرات الأسى والمحبة.

تنعكس ظلال هذه الضفيرة على قصص مشردي الشوارع ومآلاتهم المصيرية، فهم ضحايا أقدار عجيبة، ترقى إلى أجواء الخرافة والأسطورة، ما يجعل الرواية تقترب من مناخات «ألف ليلة وليلة» العجائبية.

يبقى من الأشياء الجميلة في هذه الرواية بساطة اللغة وسلاسة الحكي، وبناء عالم روائي شيق يتحول فيه الحلم إلى واقع بقوة التلصص وحيوية الولع بالمكان، ما يجعل لعبة السرد لصيقة بالمعرفة الإنسانية، في نشدانها الأعمق للجمال والحرية.


«الطريق إلى السينما الكونية»... شاقٌّ ووعر أم مفروش بالورود؟

غلاف الكتاب (الشرق الأوسط)
غلاف الكتاب (الشرق الأوسط)
TT

«الطريق إلى السينما الكونية»... شاقٌّ ووعر أم مفروش بالورود؟

غلاف الكتاب (الشرق الأوسط)
غلاف الكتاب (الشرق الأوسط)

يقول المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي: «السينما ليست صناعة، وليست فناً، إنها أكبر من ذلك، هي طريقة جديدة للنظر إلى العالم»... ومن هذا المنطلق يتشعب كتاب «الطريق إلى السينما الكونية» للكاتب السعودي حسن الحجيلي، الصادر حديثاً عن دار «جسور الثقافة للنشر والتوزيع»، ويمكن القول إن هذا الإصدار هو الكتاب العربي الأول من نوعه الذي يتناول هذا المصطلح السينمائي بإسهاب شديد.

يأتي الكتاب في 207 صفحات، مقسمةً على ثلاثة فصول، تتضمن أقوال الأساسيين في الإخراج السينمائي، أمثال: «أيزنشتاين، وأوسون ويلز، وروبرت بريسون، ولويس بونويل، وتاركوفسكي»، ومن الفن التشكيلي بيكاسو. حيث يستفتح الفصل الأول بالمعنى والمفهوم، ثم ينتقل الفصل الثاني إلى قراءة تجربة طويلة وعميقة لأحد أبرز مخرجي السينما الكونية؛ باختيار المخرج الإسباني لويس بونويل، المشهور بسرياليته وبحضور الأحلام في أفلامه. في حين يفرد الفصل الثالث مساحة واسعة لرثاء المخرج الفرنسي غودار.

 

استهلال اصطلاحي

ومنعاً للبس الذي قد يقع فيه الكثيرون، يوضح الحجيلي الاختلاف بين مصطلحي «السينما الكونية» و«الأفلام العالمية» التي تحقق انتشاراً واسعاً، لأن هذه الأفلام تُعد نموذجاً من السينما العالمية لا السينما الكونية، مبيناً أنها «تُصنع بدوافع تجارية واستهلاكية، تفهم السوق ومتطلباته وسلوك الجمهور وتعدد هويات الشعوب وتعدد الثقافات واللغات والإثنيّات».

وتأتي أفلام «ديزني» أنموذجاً لذلك، بوصف أكثرها يعتمد على هذه العناصر لتقديم أفلام يسهل وصولها أولاً ثم يسهل مشاهدتها ثانياً. أما اللغة الكونيّة، فأبان الحجيلي أنها «شيء يدخل في جوهر الفن السينمائي، ولا تتطلب صناعتها مبالغ ضخمة لأغراض استهلاكية، بل حاجة داخلية في نفس الفنان، يُعبر عنها بالوسيط السينمائي، ولا يقدمها إلا أشخاص لديهم إدراك عميق بالوسيط الفني»

غلاف الكتاب (الشرق الأوسط)

 

تجربة لويس بونويل

يرى الكاتب أن جوهر السينما الكونيّة يعتمد على المعاني بصفتها القيمة الكليّة للمضمون، ولا يقلل ذلك من أهمية الشكل والطريقة الفنية التي تُنفذ بها الأفلام، فلا بد من أن يمتلك المخرج قدرة مهنية عالية تجعله يستطيع أن يُوظّف الشكل لخدمة الموضوع. وهنا يأتي المخرج لويس بونويل باعتبار تجربته الأساس في هذا الكتاب، وعنه يقول الحجيلي: «هو أحد أعمدة السينما، ومن الجيل الذي اشتغل على صناعة الأفلام عندما كانت السينما صامتة في عشرينات القرن العشرين، وظل عطاؤه مستمراً حتى السبعينات».

أدرج الكاتب قائمة مختارة لبعض أفلام المخرج لويس بونويل التي قسمها لثلاثة أقسام: الشخصية الرئيسية، وعبارات ملهمة، وجمل ذات طابع كوميدي. مستفتحاً قائمة الأفلام بالفيلم القصير الأشهر لبونويل «كلب أندلسي»، تلته قائمة تشمل: «أرض من دون خبز»، و«سيمون الصحراء». ومن الأفلام الطويلة «العصر الذهبي»، ومن المرحلة المكسيكية - الإسبانية «المنسيون»، و«هذا الشغف غريب»، و«الملاك المدمّر» وغيرها.

 

رثاء غودار

ولأن الفصل الأخير جاء بعنوان «في رثاء غودار»، برر الكاتب ذلك بأن رحيله هو «رحيل حالة سينمائية كونية، ونهاية أهم مرحلة سينمائية على الإطلاق، وهي: الموجة الفرنسية الجديدة، التي ظلت جديدة حتى يوم موت جان لوك غودار الموافق 13 سبتمبر 2022». مشيراً إلى أن المفتاح الذي استخدمه غودار هو الجرأة الفنيّة على ممارسة الهدم وإعادة البناء، ولولا هذه القدرة لظلت السينما حبيسة الحدود السينمائية البدائية، والقواعد السردية الأولى، حسب توصيف الكاتب.

جدير بالذكر أن حسن الحجيلي نشر ثلاثة كتب سابقة تناولت عوالم السينما: الأول «السينما الجديدة: تأملات في موت السينما بعد سيطرة الثورة الرقمية»، تلاه كتابه الثاني «عين الآلة: استنطاقات هادئة حول النسويّة ورقمنة الإنسان والشاشات من منظور السينما»، ثم كتابه الثالث بعنوان «السينما اختراع بلا مستقبل».

ومن الحري بالقول إن كتابه «الطريق إلى السينما الكونية» جاء ضمن أحدث إصدارات الدورة التاسعة لمهرجان أفلام السعودية، التي أُقيمت مطلع شهر مايو (أيار) الحالي، حيث تبنى المهرجان برنامجاً دورياً لإنتاج الكتب، بُغية إخراج الصناعة السينمائية من دائرة الكتابة غير الاحترافية، إلى مستوى المهنية وعمق الاختصاص، ولتجاوز شُحّ الكتب العربية المتخصصة في المجال السينمائي.


العوامل الثقافية وراء تقدُّم دول وتخلُّف أخرى.

العوامل الثقافية وراء تقدُّم دول وتخلُّف أخرى.
TT

العوامل الثقافية وراء تقدُّم دول وتخلُّف أخرى.

العوامل الثقافية وراء تقدُّم دول وتخلُّف أخرى.

يتضمن كتاب «هل تصنع الثقافة السياسة؟» الصادر حديثاً عن دار العين المصرية مختارات من أبحاث نُشرت في كتاب «الثقافة مهمة»، الذي أشرف على تحريره وإصداره المفكران الأمريكيان لورانس هاريسون وصامويل هنتنغتون، ضمن فعاليات ندوة مُوسَّعة بعنوان «القيَم الثقافيَّة والتقدُّم الإنسانيّ»، نظمتها أكاديمية جامعة هارفارد للدراسات الدولية ودراسات المناطق في أبريل (نيسان) 1999، وشارك فيها كُتَّاب ومُفكِّرون من شتى مناطق العالم.

النسخة العربية المنقحة قدمتها المترجمة المصرية الدكتورة سهير صبري، التي قامت بانتخاب 6 دراسات رأت أنها قريبة الصلة من الواقع العربي والأفريقي، وهي «الأنماط الثقافية والتنمية الاقتصادية» وقدّمها عالم الاجتماع الأرجنتيني ماريانو جروندونا، و«الثقافة وسلوك النُّخَب في أميركا اللاتينيَّة» للمحلل والكاتب السياسي الكوبي كارلوس ألبرتو مونتانير، و«هل تحتاج إفريقيا إلى برنامج تكيف ثقافي؟» لعالم الاقتصاد الكاميروني دانيال إتونجا مونجيل، و«رأس المال الاجتماعي» للمفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، و«الخرائط الأخلاقية: غرور العالم الأول والإنجيليُّون الجُدُد» للباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم النفس الثقافي الأمريكي ريتشارد أ. شويدر، بالإضافة إلى بحث أخير جاء بعنوان «تعزيز التغيير الثقافي التقدُّمي» لـلورانس هاريسون.

يأتي الكتاب في سياق جدل دائماً ما يخوضه مفكرون ينتمون إلى مجالات ثقافية وفكرية مختلفة بهدف تفسير وبحث ومعرفة أسباب تقدُّم دول وتخلُّف أخرى، وشهدت فترة الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، ازدهار التيار الذي يؤكِّد أهميةً الثقافة، وكان هو التيار الرئيسي في العلوم الاجتماعية، بعدها تقلص الاهتمام به، ثم عاد ليزدهر مجدداً في مرحلة الثمانينات. ويرفض أصحاب هذا الاتجاه، ربط أسباب التخلُّف بعوامل المناخ، والتفسير العنصري، والاستعمار والتبعية.

المفكر الأميركي صامويل هنتنغتون

وفي أعقاب الأدبيات التي أنتجها علماء الاجتماع خلال مرحلتي الأربعينات والخمسينات، تقلَّص الاهتمام بالأبحاث الثقافية بشكل ملحوظ في الدوائر الأكاديمية في الستينات والسبعينات، ثم بدأ الاهتمام بها يزدهر في الثمانينات بوصفها متغيراً تفسيريّاً، وتحوَّل علماء الاجتماع أكثر إلى العوامل الثقافية لتفسير التحديث ومواكبة العصر، والتحوُّل الديمقراطي السياسي، والاستراتيجيات العسكرية، وسلوك الأقليَّات العِرْقيَّة، والتحالفات والعداوات بين البلدان.

ومن بين الأسئلة التي يطرحها الباحثون المشاركون في الكتاب، ما تمحور حول قدرة السياسة على إصلاح الثقافة والقيام بدور حاسم في إنقاذها هي والمجتمع من نفسيهما، كما سعى الباحثون لتبيان إلى أي مدى تُشكّل العوامل الثقافيَّة النمو الاقتصاديَّ والسياسيّ؟ وكيف يمكن إزالة المُعوِّقات الثقافية أمامه لتسهيل التقدم؟

في دراسته التي حملت عنوان «الثقافات مهمة» يؤكد صامويل هنتنغتون على دور الثقافة بعد مقارنة أجراها بين الواقع الآني في كل من غانا وكوريا الجنوبية اللتين كانتا متماثلين في بياناتهما الاقتصادية بداية فترة الستينات، وذكر أن هناك عوامل عدة لعبت دوراً فيما آلت إليه الأمور في كل منهما، ومن بينها الثقافة التي رأى أنها يجب أن تكون عنصراً مؤثراً في تفسير ذلك التطور.

لكن على الجانب الآخر، ظهرت، بحسب هنتنغتون، هناك حركة مضادَّة قللت من أهمية التفسيرات الثقافية لتقدم وتطور المجتمعات، وانعكست في النقد الشديد الذي شكك في أعمال كل من فرانسيس فوكوياما، ولورانس هاريسون، وروبرت كابلان، وآخرين، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل التحق بالمعركة في عالم الدراسات العلمية كل من يرون الثقافة عنصراً رئيسياً، يؤثر ضمن عناصر أخرى على السلوك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

ويستكشف الكتاب كيفية تأثير الثقافة في التقدُّم والتنمية الاقتصادية والتحوُّل الديمقراطي السياسي وأساليب تحقيق ذلك، وتركز الدراسات التي تضمنها على الثقافة بوصفها مُتغيراً مُستقلاً، وتسعى لتوضيح ما إذا كانت العوامل الثقافية تؤثر حقّاً في التقدم الإنساني، أم تعرقله.

ويشير الباحث الأرجنتيني ماريانو جروندونا إلى أن ما أحرزته بلاده من تقدم في اتجاه الإصلاح الاقتصادي، والاستقرار الاقتصادي، والتحوُّل الديمقراطي السياسي في منتصف التسعينات. ويذكر أن البلاد التي لديها منظومة قيَم جوهرية وأداتية مواتية هي القادرة فقط على التنمية السريعة المستدامة، حيث تشجع الرخاء، والحرية، أو الأمان، وتتعامل التنمية بوصفها ظاهرة أخلاقية، دافعة عملية التراكم إلى الأمام بلا توقف، ومركزة على الفرد بوصفه المحرِّك الأساسي بعمله وإبداعه.

وفي دراسته «الثقافة وسلوك النُّخَب في أميركا اللاتينية» لفت الباحث السياسي الكوبي كارلوس ألبرتو مونتانير إلى معاناة دول أميركا اللاتينية منذ فترة طويلة من دورات من «الهَوَس الاكتئابي»؛ ونتيجة لذلك يبدأ رأس المال الأجنبي في الهروب. ويتحوَّل الاكتئاب إلى يأس، واستسلام، مشيراً في هذا السياق إلى الجدل المستمر حول أسباب فشل أميركا اللاتينية مقارنةً بنجاح كندا والولايات المتحدة هما موضع تساؤل متكرِّر من مُثقَّفي أميركا اللاتينية،

من جهته يسعى الباحث الكاميروني دانيال إتوجا مونجيل إلى الإجابة عن أسئلة مثل «هل تحتاج إفريقيا إلى برنامج تكيف ثقافي؟»، وما مدى توافقها مع المُتطلَّبات التي يواجهها الأفراد والأمم في بداية القرن الحادي والعشرين؟ ومدى احتياجها إلى برنامج تكيُّف ثقافي؟

وهو يرى أن الثقافة الإفريقية هي واحدة من أكثر الثقافات إنسانية، ولكن يجب تجديدها من خلال عملية تأتي بمبادرة من الداخل تسمح للأفارقة أن يحافظوا على ثقافاتهم، و«أن يكونوا في زمانهم في الوقت نفسه». ويشير إلى أن وجود مؤسسات إفريقية أكثر كفاءة وعدالة يتوقف على «إجراء تعديلات ثقافاتهم»، والقيام بثورات ثقافية سلمية في قطاعات التعليم، والسياسة، والاقتصاد، والحياة الاجتماعية.

المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما

وفي بحثه «رأس المال الاجتماعي»، يركز المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما على القيَم والمعايير غير الرسمية المشتركة بين أعضاءِ أية جماعة، تتيح لهم التعاون فيما بينهم، و«الوفاء بالالتزامات، والمعاملة بالمثل». وذكر أن كل المجتمعات لديها مخزونٌ من رأس المال الاجتماعي؛ لكن الفروق الحقيقية بينها تتعلق بالمعايير التعاونية المنتشرة فيها، والتي تواجه مشكلة أنها لا يمكن مشاركتها إلا بين جماعات محدودة من الناس.

ومن الممكن، حسب فوكوياما، أن تتشكَّل جماعات ناجحة في غياب رأس المال الاجتماعي، وذلك باستخدام أشكال متنوعة من آليَّات التنسيق الرسمية مثل العقود، والتدرُّجات الوظيفية، والدساتير، والنُّظُم القانونيَّة، لكن المعايير غير الرسمية تُقلِّل بشكلٍ كبيرٍ ما يطلق عليه الاقتصاديون تكاليف المعاملات، كما يمكن لرأس المال الاجتماعي أيضاً تسهيل درجة أعلى من الابتكار والتكيُّف الجماعي، ذلك أنه جوهري لخلق مجتمع مدني صحي، يلعب دوراً حاسماً في نجاح الديمقراطية، ويتيح للجماعات المختلفة أن تتَّحد معاً للدفاع عن مصالحها حتى لا تتجاهلها الدول القوية.


رواية «المرقّش» للسعودي صالح اليامي توّظف الذكاء الصناعي

رواية «المرقّش» للسعودي صالح اليامي توّظف الذكاء الصناعي
TT

رواية «المرقّش» للسعودي صالح اليامي توّظف الذكاء الصناعي

رواية «المرقّش» للسعودي صالح اليامي توّظف الذكاء الصناعي

نجح الباحث والروائي السعودي صالح بن عايض اليامي، في توظيف إحدى أعظم قصص العشق والحبّ العذري بنهايتها المأساوية وفصولها الممتلئة بالدراما والحزن والتأسي على الذات، بشكل روائي، مع إعادة توظيف خوارزميات الذكاء الصناعي لتكوين أقرب صورة للحقيقة من خلال سيرة «المرقّش» أحد أبرز شعراء الجاهلية وأحد أبطال حرب البسوس.

حملت الرواية عنوان «المرقّش»، وصدرت قبل أيام عن دار «نينوى» للدراسات والنشر، وهي هذه الرواية الثامنة لليامي وسبقتها: «أرملة مهندس»، و«شآبيب»، و«الغياف»، و«كفانا حزناً»، و«قيادة الأفكار تعلمك القيادة»، و«رقصة الهرداء»، و«مذهب الأمل 2022».

ومن المعروف، أنه اختلطت في سيرة «المرقّش» البطولة والعشق والشعر بعد أن حرمه عمه عوف من حبيبته أسماء، وتزويجها من رجل من مراد (قرن الغزال) في غيابه، والادعاء بأنها ماتت. وبعد أن اكتشف الحقيقة رحل إلى نجران، مثلما يقول حفيده طرفة بن العبد:

فَلَمّا رَأى أَن لا قَرارَ يُقِرُّهُ

وَأَنَّ هَوى أَسماءَ لا بُدَّ قاتِلُه

تَرَحَّلَ مِن أَرضِ العِراقِ مُرَقِّشٌ

عَلى طَرَبٍ تَهوي سِراعاً رَواحِلُ

إِلى السَروِ أَرضٌ ساقَهُ نَحوَها الهَوى

وَلَم يَدرِ أَنَّ المَوتَ بِالسَروِ غائِلُه

وكانت نهايته من خلال خيانة رفقائه، وقبل أن يداهمه الموت طلب إرسال خاتمه في وعاء من حليب مع الراعي إلى حبيبته أسماء، فعرفت أنه المرقش، الذي مات ضحية للحب والوفاء وخلد حقبة من الزمان إلى الأبد.

قصة «المرقّش» تثري الخيال مع تقاطع العديد من الشخصيات في تلك الحقبة، فالمرقش يقع في أسر المهلهل، وابن شقيقه عمرو بن قميئة، وكذلك عمرو بن سعد المرقش الأصغر صاحب بنت المنذر، وكذلك طرفة بن العبد، وامرؤ القيس، الذي أخذ عمرو بن قميئة في رحلته إلى بيزنطة.

أعاد صالح اليامي في «المرقّش» سرد التاريخ من خلال توظيف خوارزميات الذكاء الصناعي، كما ذكرنا، للوصول إلى أقرب صورة للحقيقة في عهد ما قبل الإسلام، ومحاولة تصحيح سير الشخصيات وترابطها الزمني في ذلك الزمن. إنها رواية تسرد التاريخ من منظور شامل تكاملي، وكأنها تقول إن الحقائق ليست مكتملة إلا بتفكيكها وإعادة بنائها بكل تجرد، والحق لا يمكنه أن يجادل الباطل، ولا توجد بينهما جدلية مشتركة، والحب جسر ممتد لا يمكن لأحد هدمه ولكنه قائم على التضحية العظمى.

ضمت الرواية شخصيات عدة، منها «مسعد» الذي يقوده الفضول للسقوط في حفرة التاريخ، فغاص في أعماقها حد الثمالة، كأنما «ضرب على مسامعه»، فلم يفق من نومه رغم كافة محاولات المستشفى والأطباء وبكاء شقيقه على رأسه أشهراً. كان في سكرة العشق العذري. لقد أسكره المرقش بعشقه لأسماء، أثناء بحثه عن سر عشقه لمدينه نجران، فوجد أن هناك من سبقوه، (أحببت حب الخير)، مما جعل «سعيد» يأخذ على عاتقه البحث عن حل، بمساعدة صديقه «سالم»، المتخصص في قراءة الدماغ البشري بتقنية الرنين المغناطيسي، وبتوجه من رأس الحكمة والمعرفة «أبو صالح».

هؤلاء قاموا ببناء آلة مدعومة بالذكاء الصناعي تعيد سرد أحداث التاريخ والحروب، وتقوم بتهيئة وتوظيف كافة المعلومات في الإنترنت لتستلهم الماضي وتعيد بناءه، وكانت الشخصية الرئيسية هي المرقش عمرو بن سعد البكري، الذي كان موضوع بحث مسعد قبل غيبوبته، والغاية كانت لأجل معرفة السبب وراء غيبوبة مسعد الذي لا يريد الإفاقة.

وبناء على نصيحة أبو صالح، فإن الآلة إذا اكتشفت الفكرة التي يفكر فيها ربما يتم التواصل معه.

كانت حقبة المرقش صفيحاً ساخناً في عالم العرب: قباذ والمزدكية، المنذر بن ماء السماء وحروبه مع الغساسنة ومطاردته ملوك كندة، أوج الخلافات المسيحية والاختلاف على طبيعة المسيح، النساطرة واليعاقبة، توافق شمعون الأرشمي والمرقش في مجلس المنذر أثناء وصول وفد ملك حمير ذو نواس ليخبرهم بمحرقة نجران وقصة الأخدود، جدلية الخلافات ومن يقف وراءها، الشعر وقيادته للفكر ودور يهود طبرية في تأجيج الفتن والسيطرة على إنشاد الشعر في الحانات ونشره لبث الفرقة وتأجيج الفتن، ودور يهود طبرية في محرقة نجران وحادثة الأخدود، والحوار الخالد بين ذو نواس والقديس الحارث بن كعب.

ولم يفق إلا بعد قرع كلمات المرقش في أرجاء نجران يرددها شقيقه سعيد، حيث أخذ سعيد يردد الشعر دون وعي منه، وكان الأكثر تأثيراً على نفسه وأسلسلها وأقربها للنفس:

أغالبك القلب اللجوج صبابة

وشوقاً إلى أسماء أم أنت غالبه

يهيم ولا يعيّا بأسماء قلبه

كذاك الهوى إمراره وعواقبه

وسرى الرعب في أوصال «سعيد» وهو يسمع «مسعد» يكمل القصيدة:

وأسماء هم النفس إن كنت عالماً

وبادي أحاديث الفؤاد وغائبه

من أجواء الرواية، نقرأ هذه المقاطع المؤثرة:

«كانت الرحى ينبعث منها صوت مبحوح حزين كأنما هي أم تئن على جوع أبنائها وموتهم الواحد تلو الآخر ولا حيلة لها، إلا الصبر، لم تكن لتركع أو تتوانى أمام أهوال هذه الدنيا.

تنبع رائحة القمح المهشم على الصخر لتنثر رائحة عطرية مزيجاً من الشهوة والحياة.

هل تعلم أسماء إلى أي مكانة أرفعها؟

إن الزهر يتنفسها، إن همساتها كامنة في نشيد الرعاة،

من شدة شوقي إليها يتجسد منها طيف في الهواء، فتنبع النسائم الباردة على الوجه العطشى، كأنما خلقت تزين الكون وأنا أتألم ليشفق علي الحجر فيوحي إلى من حوله بأن أنشدوه له قصيدة تعالج جراحه المثخنة لعله يسلى قليلاً فينبثق من روحه مجد للكلمات.

إن المعذب هو أم كل مجد للكلمات، كلما كان الصمود والصبر كلما كان الجذب للخلد أشد.

إنني وإن كنت عاشقاً

إلا أن الحياة أوسع من كائن

لا يمكننا رؤيتها إلا به

ولكن الرؤية ليست كل شيء

الصورة تنبت في الروح العامرة

لتلد كوناً أفسح

وحياة عطافتها أجمح

لكنني قد ألفت أن توقد ناري أسماء

ومع الزمن آمنت بها كآلهة لناري

وتعد هذه الرواية الثامنة ضمن مؤلفات صالح اليامي وسبقتها: «أرملة مهندس»، و«شآبيب»، و«الغياف»، و«كفانا حزناً»، و«قيادة الأفكار تعلمك القيادة»، و«رقصة الهرداء»، و«مذهب الأمل 2022».


الفيلسوف لوك فيري يتساءل: أين هو الانحطاط الفرنسي؟

الفيلسوف لوك فيري يتساءل: أين هو الانحطاط الفرنسي؟
TT

الفيلسوف لوك فيري يتساءل: أين هو الانحطاط الفرنسي؟

الفيلسوف لوك فيري يتساءل: أين هو الانحطاط الفرنسي؟

لم يعد لوك فيري بحاجة إلى تعريف. فهو أحد أهم فلاسفة فرنسا المعدودين حالياً. كان من آخر ما نشره كتاب ضخم بعنوان «قاموس عاشق للفلسفة» (1500 صفحة فقط!). ومن لا يعشق الفلسفة؟ من لا يهيم بها؟ عمَّ يتحدث هذا الكتاب الذي يتجاوز 400 صفحة من القطع الكبير؟ باختصار شديد... عن وضع العالم حاضراً ومستقبلاً. فالمستقبل قد يكون حكيماً عاقلاً سعيداً، وقد يكون متهوراً مجنوناً. كل شيء يتوقف على كيفية تحضيرنا واستعدادنا له منذ الوقت الحاضر. الكتاب موجه ضد فلاسفة التشاؤم في الساحة الباريسية من أمثال ميشيل أونفري وآلان فنكيلكروت وآخرين.

يطرح الكتاب الذي بين أيدينا اليوم تساؤلات من نوع؛ لماذا يغرق كثير من المثقفين الباريسيين في نزعة التشاؤم السوداء هذه الأيام؟ لماذا يستمتعون بذلك كل الاستمتاع؟ ألا يرون إلى حجم التقدم الهائل الذي حققته أوروبا الغربية قياساً إلى الماضي البعيد، وقياساً إلى بقية النطاقات الجغرافية والحضارية الأخرى؟ هل يعلمون أنه حتى القرن التاسع عشر كان الإنسان الفرنسي أو الأوروبي يموت في الأربعين أو الخامسة والأربعين على أحسن تقدير؟ هكذا كان متوسط العمر آنذاك. أما الآن فأصبح متوسط العمر 82 سنة. يقول المؤلف: «بمعنى أننا ربحنا 40 سنة قياساً إلى أجدادنا أو أجداد أجدادنا. هل هذا قليل؟ هل يعلمون أن الإنسان عندما كان يعاني من وجع الأضراس مثلاً كان مضطراً لتحمل هول ذلك والابتهال إلى الله عز وجل لكي يخفف عنه هذا الألم الذي لا يحتمل ولا يطاق.

أما الآن فيكفي أن يذهب الإنسان الفرنسي أو الإنجليزي إلى أقرب طبيب أسنان في حيه أو شارعه لكي يحل له مشكلته خلال ساعة زمان! هل هذا قليل يا جماعة؟ ولكن هذا الوجع المضني للأسنان لا يزال يصيب الناس في البلدان الفقيرة، أو قل يصيب شرائح واسعة غير قادرة على التداوي ودفع أجور الطبيب. لاحظوا أسنان الفقراء في بلدان الجنوب؛ والله شيء يوجع القلب! بدءاً من الثلاثين تكون أسنانهم قد اصفرت وتدهورت وخربت لأنهم لم يضعوا قدمهم عند طبيب أسنان واحد في حياتهم كلها. ولا يستطيعون ذلك أصلاً. وبالتالي فقارنوا بلدان العالم الثالث ببلدان أوروبا قبل قرنين أو 3 قرون، وليس ببلدان أوروبا الحالية. مستحيل. والدليل على ذلك أن البلدان الأوروبية المتقدمة تؤمن لجميع سكانها الضمان الصحي والضمان الاجتماعي، في حين أن ذلك معدوم في بلدان الجنوب الفقيرة (ما عدا البلدان العربية الغنية في الخليج). لا يوجد فرنسي أو ألماني أو هولندي أو إنجليزي... إلخ إلا وهو يتمتع بالضمان الصحي الذي يؤمن له المعالجة والاستشفاء مجاناً في أفضل المشافي والعيادات الطبية. فلماذا يتشاكى إذن مثقفو فرنسا ويتباكون على أحوالهم ويتحدثون عن الانحطاط الداهم أو القريب العاجل للغرب، ألا يستحيون على أنفسهم؟ ألا يخجلون؟ بأي حق يحق لهم ذلك، وسكان بلدان الجنوب يتضورون فقراً وجوعاً وحرماناً؟ والله عيب! العمى وصلنا إلى آخر الزمن؛ أصبح الغني المرفه هو الذي يتشاكى ويتباكى ويندب حظه، وليس الفقير المدقع! لقد انقلبت الدنيا عاليها سافلها. أين نحن؟ قليلاً من الخجل أيها المثقفون الفرنسيون! في القرن التاسع عشر ما كان الفرنسي كما قلنا يعيش في المتوسط أكثر من 40 سنة، وبعد أن يكون قد دفن 4 أو 5 من أطفاله، وربما أصبح أرملاً أو امرأته هي التي أصبحت أرملة. وذلك لأن الطب ما كان متطوراً وما كان متوافراً للجميع».

الكفر بالتقدم

كان العلاج مقصوراً على الأغنياء فقط. وبالتالي فملايين الأطفال كانوا يموتون من أمراض عادية بسيطة بسبب عدم وجود علاجات. أما الآن فموت الأطفال في الدول المتقدمة أصبح نادراً، وربما معدوماً نتيجة تقدم الطب والعلاجات والعيادات المتخصصة والمستشفيات الحديثة المزودة بأفضل التجهيزات. وهل هناك أصعب من موت طفل؟ معظم الأمراض التي كان الناس يموتون منها قبل قرن أو قرنين بسبب عدم وجود أي علاج لها أصبحت الآن عبارة عن مزحة بسيطة. أليس هذا تقدماً؟ فلماذا تكفرون بالتقدم إذن يا فلاسفة فرنسا؟ لماذا تحنون إلى الزمن الماضي؛ زمن آبائكم وأجدادكم؟ لماذا تتحسرون عليه؟ من قال بأن التقدم ليس له معنى؟ لم تعد هناك مجاعات في الغرب، في حين أنها كان تحصد الناس بالملايين في القرون الوسطى، حتى القرن السابع عشر في عهد لويس الرابع عشر. ولكنها لا تزال تحصد الناس بالملايين في بلدان أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وعموم العالم الفقير. العامل البسيط الآن يعيش بشكل مرفه أكثر من ملك فرنسا في القرن السابع عشر! من يصدق ذلك؟ ثم يضيف الفيلسوف الفرنسي الشهير قائلاً:

«لم يعد هناك شخص واحد في أوروبا يخشى على نفسه لأسباب دينية أو طائفية. لم يعد يخجل من حاله أو على حاله إذا لم يكن ينتمي إلى طائفة الأغلبية أو الأكثرية الكاثوليكية. في الماضي، كان الكاثوليكي الأكثري يحتقر الأقلي البروتستانتي ويكفره بل يدعو إلى ذبحه واستئصاله باعتباره رجساً من عمل الشيطان. انظروا إلى المجازر الطائفية في فرنسا قبل أن تستنير وينتصر فولتير على الظلامية الدينية. أليس هذا تقدماً تحسدنا عليه البلدان التي لا تزال غارقة في بحر من الحزازات المذهبية والمجازر الطائفية؟».

لا أستطيع الدخول في كل تفاصيل هذا الكتاب الضخم، وإلا كنت قد دبجت عشرات الصفحات. يقول لنا الفيلسوف لوك فيري: «لقد سافرت إلى كثير من دول العالم وحاضرت في معظم جامعاتها ولكني لم أجد أفضل من قارتنا العجوز (أوروبا). فهي متقدمة على جميع القارات الأخرى من حيث تأمين الحريات والمساواة النسبية والمستوى العالي للمعيشة والحماية الصحية. وهذا الكلام ينطبق على فرنسا وعموم أوروبا الغربية التي تشكل بالفعل منارة البشرية منذ قرون كثيرة». ثم يردف قائلاً:

«على الرغم من الصعود الصاروخي للصين، وعلى الرغم من الهيمنة الأميركية الجبروتية، فإن أوروبا الغربية تبقى فضاء نادراً لا مثيل له من حيث الرفاهية الاقتصادية، والحريات الدينية، والحريات السياسية، والإبداع الأدبي والفني والعلمي والفلسفي. لا مثيل لأوروبا من هذه النواحي، حتى أميركا لا تستطيع أن تضاهيها. وذلك لأن حضارة أوروبا أكثر قدماً وعراقة من الحضارة الأميركية الحديثة العهد. إنها مركز الحضارة منذ 4 قرون وحتى اليوم، أي منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر حتى القرن العشرين. وإذا كانت أوروبا مهددة اليوم، فذلك لأن معنوياتها ضعفت، وثقتها بنفسها تلاشت، وما عادت متوجهة بأنظارها نحو المستقبل. فهل تعبت أوروبا وشاخت يا ترى؟ هل أصبحت عاجزة عن رؤية نفسها قوة حقيقية قادرة على التأثير على مجرى العالم؟ على أي حال، فإنها مهددة بأن تتحول إلى مستعمرة للصين أو لأميركا إذا لم ترتفع إلى مستوى التحدي».

لوك فيري

لوك فيري يدافع عن فوكوياما

على عكس ما يزعمه كثير من المثقفين الفرنسيين وغير الفرنسيين، فإن فوكوياما لم يقل بأن التاريخ توقف أو انتهى بعد انهيار الكتلة الشيوعية السوفياتية. لم يقل أبداً بأنه لن يحصل أي شيء بعد ذلك. لم يقل بأن التاريخ الحدثي الوقائعي انتهى نهائياً. هذا غباء، هذا مستحيل. لم يقل بأنه لن تحصل أزمات بعد اليوم، أي بعد أن انتهت الحرب الباردة وانهار جدار برلين والعالم الشيوعي بأكمله. لم يقل بأنه لن تحصل حروب في العالم بعد اليوم، أي بعد انتصار المعسكر الليبرالي الغربي على المعسكر الآخر. وإنما قال إن النظام الديمقراطي الغربي الأوروبي - الأميركي هو أفضل نظام ممكن للعالم. ولولا ذلك لما انتصر على النظام الشيوعي للحزب الواحد والحريات المخنوقة والديماغوجية الغوغائية المملة. علاوة على ذلك فينبغي العلم أن الحضارة الأوروبية هي وحدها التي انتصرت على الظلامية الأصولية وأمنت للبشرية حرية التعبير والتفكير والطبع والنشر، حتى في مجال الدين والمقدسات. وهذا أكبر تحرير يحصل للروح البشرية في التاريخ. وهذا ما قاله فيلسوف الأنوار الأكبر إيمانويل كانط في نصه الشهير: «ما هي الأنوار؟ أو ما معنى التنوير؟» لقد قال إن «التنوير يعني أن البشرية حققت أخيراً نضجها وعقلانيتها وانتقلت من مرحلة القصور العقلي إلى مرحلة سن الرشد. لقد تحررت من وصاية اللاهوت والكهنوت ورجال الدين. هذا هو التنوير. ينبغي أن تعانيه من الداخل. ينبغي أن يتمخض من أعماقك وإلا فلا معنى له. ينبغي أن تتوصل إليه بعد جهد جهيد. ينبغي أن تصارع التنين!». وهذا ما حققته الحداثة الغربية بعد موت كانط بقرن أو أكثر. لقد سُحقت الظلامية المسيحية على يد سبينوزا وبيير بايل وفولتير وديدرو وجان جاك روسو وكانط وفيخته وهيغل وغيرهم من عباقرة الأنوار الكبار. ولم تُسحق إلا بعد معارك طاحنة سجلتها كتب التاريخ بأحرف من نور. فأين هم المثقفون العرب الذين سيصارعون التنين «الإخواني الداعشي» مثلما صارعوا هم التنين الأصولي الكهنوتي ومحاكم التفتيش؟ (بين قوسين... هذا ما كنت قد شرحته مطولاً في كتابي الجديد الصادر عن «دار المدى»، بعنوان «من التنوير الأوروبي إلى التنوير العربي»).


مثقفون مصريون يحتفون بصدور النسخة العربية من «الاستشراق هيمنة مستمرة»

مثقفون مصريون يحتفون بصدور النسخة العربية من «الاستشراق هيمنة مستمرة»
TT

مثقفون مصريون يحتفون بصدور النسخة العربية من «الاستشراق هيمنة مستمرة»

مثقفون مصريون يحتفون بصدور النسخة العربية من «الاستشراق هيمنة مستمرة»

في لقاءين فكريين في المركز القومي للترجمة وبيت السناري بالقاهرة التابع لمكتبة الإسكندرية، وعلى مدى يومي الأربعاء والخميس الماضيين، ناقش لفيف من المثقفين والمفكرين والمؤرخين المصريين رؤية وأفكار المفكر الأمريكي بيتر جران التي طرحها في كتابه الأخير «الاستشراق هيمنة مستمرة»، الذي صدرت نسخته العربية حديثاً عن المركز القومي، بترجمة الكاتبة سحر توفيق ومراجعة الدكتور عاصم الدسوقي.

أدار اللقاء الأول الدكتور أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية، مشيراً إلى أن جران أحد القلائل الذين فهموا التاريخ المصري فهماً عميقاً، وقد رصد في كتابه، النظرة الاستشراقية الاستعلائية تجاه مصر، واستخدم هذا المنهج في مناقشة ما جاء من كتابات حول الفترات الاستعمارية، من خلال منهج جديد في النظر إلى التاريخ.

وقال زايد إن علماء الاجتماع لديهم رؤية واضحة لهذه العلاقة الاستعلائية من الغرب تجاه الشرق، وقد لمس ذلك حينما كان شاباً، كما أن لديهم فهماً مختلفاً لقضية الهوية.

ثم تحدث المؤلف عن القضية الأساسية التي يرصدها الكتاب حول طبيعة التاريخ الاستعماري، وخصوصاً ما صاحب الحملة الفرنسية، وتأثر مصر بها، والعلاقة بين مصر والمجتمع الغربي، والنظرة التي ما زالت تسيطر على خطاب معظم مفكريهم تجاه مصر والشرق الأوسط على حد سواء، وهي نظرة مستندة، حسب جران، إلى أسس ماضوية ما زالت مستمرة، ومفادها أن البلاد التي استعمروها لم تكن دولاً، ولكنها مجموعات متفرقة من البشر لا رابط بينهم، وهي وجهة نظر روج لها اللورد كرومر، بكتابه الذي جاء في جزأين بعنوان «مصر الحديثة»، ويعتبر من الكتابات الاستشراقية المؤسسة لنظرة الغرب تجاه المصريين.

وذكر جران أنه سعى لتحليل وتقصي أفكار كرومر، التي يتبناها مفكرو الغرب في كتاباتهم التاريخية المعاصرة، وترسّخ لفكرة أن مصر كانت تعيش في حالة من الجمود وتعتمد على الغرب، وتأخذ أفكارها منه.

ودعا جران التيارات النقدية في الغرب، التي تتناول مصر إلى التفريق بينها وبين غيرها من البلدان الأخرى، مشيراً إلى أن هناك مفكرين أمريكيين يرون أن مصر ليست بلداً، وعليها حال رغبت في التحديث والتنمية أن تتجه إلى النموذج الأمريكي، وهي النظرة نفسها، التي ورَّثها كرومر للأمريكان عن مصر، وتشير في أعماقها إلى أن هناك علاقة أصيلة بين الاستشراق والإمبريالية، لاحظها جران منذ بداية كتاباته، معتبراً أن المنهج السائد لدى الكثير من كتَّاب التاريخ الغربيين غير دقيق، وقد اكتشف ذلك من خلال حياته الفكرية التي تشكلت ما بين دراسته في مصر، وما تبعها من دراسات في أمريكا، فتحت الطريق أمامه لاكتشاف الأبعاد المختلفة التي تربط بين الاستشراق والإمبريالية، وهي فكرة واضحة في كتابه «الاستشراق هيمنة مستمرة».

وذكر جران أن الأمريكان ينظرون بشكل نمطي لمصر، وقد دفعه ذلك إلى محاولة فك الاشتباك بين وجهات نظرهم وما يحدث في الواقع المصري، وقد سعى من خلال فصول كتابه لرصد مراحل تطوره، وتتبع دور الكثير من الشخصيات الهامة التي تنتمي لأجيال مختلفة في التأثير فيه، مع تناول الحياة في مصر منذ أيام اللورد كرومر حتى الوقت الحالي، وفق ثلاث مراحل تبدأ من الكولونيالية، ثم الحرب الباردة وما بعد الكولونيالية.

وانتقد جران الأفكار الموجودة في الجزء الأول من كتاب «مصر الحديثة» للورد كرومر، الذي يقول فيه إن مصر كانت مجرد تجمع لمجموعات من البشر، وإنها لم تكن دولة منذ انتهاء عصر الفراعنة، مشيراً إلى أن نظرته لمصر تستند إلى تأويل ما جاء في «سفر الخروج»، وتم تفسيره بشكل يلائم الأفكار الأمريكية لتبرير عمليات قتل وإبادة الهنود الحمر، وقد ربطت بينها وبين ما تقوله التوراة وهي تتحدث عن تلك الحقبة من «أن الذي نجا في نهاية الصراع بين فرعون وموسى هم شعب الله المختار وأن جنود فرعون غرقوا في البحر، بأمر الله، ليصلوا لاستنتاج مفاده أن ما جرى من قتل للبشر في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية وغيرها يعبر عن إرادة الله أيضاً». وتحدث جران عن مسألة الهوية، مشيراً إلى أنها ليست جامدة لكنها متغيرة.

وفي مداخلة، على هامش اللقاء للدكتور محمد أبو الغار خالف فيها جران في نظرته عن الهوية المصرية، معتقداً أنها تكونت في الفترة التي سبقت ثورة 1919، لكن جران لم يعتد بها في كتاباته مع أن المصريين يعتبرونها حدثاً مهماً في تاريخهم.

من جهته، قال الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، إن جران عندما عاش في مصر واطلع عليها من خلال الصحافة، بدأت أفكاره تتغير ويخرج عن منهج الاستشراق الغربي، مشيراً إلى أن اللورد كرومر حاول زرع الفتنة في مصر بين المسلمين والمسيحيين إلا أن المثقفين المصريين تنبهوا لهذا، وأفشلوا محاولاته، لكن السعي من قبل بعض الاستشراقيين ما زال مستمراً، وبالاعتماد على المنهج نفسه في محاولة لنفي الهوية المصرية.

وفي اللقاء الذي أقامه المركز القومي للترجمة قالت الكاتبة والمترجمة سحر توفيق إن كتابات جران تحمل نظرية مختلفة عن تاريخ مصر مناقضة لنظرة الغرب. وذكرت أن جران أوضح أن قناعات المفكرين الأمريكيين هدفها واضح، وتبرر للأجيال الجديدة أن ما جرى من إبادة للهنود الحمر أمر إلهي، وهي مماثلة لما جرى عند مطاردة فرعون مصر وجيشه لموسى، وحسب رأي توفيق يتناول جران النظرة المركزية الأمريكية والمبنية على نظرية أن التاريخ يبدأ بظهور الحضارة الغربية، وهذه نظرة عنصرية، أوضحها في كتابه وهو يتحدث عن مصر.

وفي الكتاب المذكور، قدم جران بحثاً في الدراسات والكتب الأمريكية والإنجليزية والفرنسية، التي تتناول مفهوم الاستبداد الشرقي في أغلب الدراسات الغربية التي تتناول تاريخ مصر، مشيراً إلى أنها ورغم التقدم الذي حدث فيها ما زالت تتبنى فكرة الخروج والنظرة القدرية والحق الإلهي. وتوصل إلى أن الدراسات والأبحاث التاريخية المصرية بموضوعيتها بدأت تحدث تغييراً في بعض الدراسات الأكاديمية الغربية التي تتناول تاريخ مصر.

يذكر أن بيتر جران يعمل أستاذاً للتاريخ المصري الحديث بجامعة تمبل الأمريكية ويعد أحد أبرز مفكريها، وأكثرهم خبرة بالتاريخ المصري، وارتبط كثير من مؤلفاته بتاريخ الثقافة العربية والإسلامية، ومن أهمها مؤلفه «الجذور الإسلامية للرأسمالية: مصر 1760 - 1840» وكان موضوع رسالته للدكتوراه، وأحدث ضجة وجدالاً فكرياً عند صدوره في منتصف الثمانينيات، وترجمه للعربية محروس سليمان وراجعه الدكتور رؤوف عباس حامد.