«التنوير الراديكالي» الذي أخفق

مقاربات جوناثان إسرائيل للموضوع استغرقت 20 عاماً وجاءت في 3 مجلدات

جوناثان إسرائيل
جوناثان إسرائيل
TT

«التنوير الراديكالي» الذي أخفق

جوناثان إسرائيل
جوناثان إسرائيل

قضى البروفسور البريطاني جوناثان إسرائيل، أستاذ التاريخ الأوروبي في فترة الحداثة الأولى والمدرّس بجامعة برينستون بالولايات المتحدة نحو الـ20 عاماً الأخيرة، وهو يعيد صياغة تاريخ التنوير الأوروبي في مقاربة جديدة مثيرة احتلت أكثر من 3 آلاف صفحة نشرها تباعاً ضمن 3 مجلدات. ويأتي النّص الجديد الذي صدر مؤخراً (بالإنجليزيّة) عن مطبعة جامعة أكسفورد، ليضيف خلاصة لتلك الصياغة في ألف صفحة إضافيّة، عنونها «التنوير الذي أخفق: الأفكار، والثّورة، وهزيمة الديمقراطيّة 1748 - 1830».
قدّم البروفسور إسرائيل في هذا المعمار الفكري الهائل قراءة واثقة مدعّمة بآلاف التفاصيل والإشارات لفترة التنوير الأوروبي التي لا يختلف اثنان على مفصليتها لأي محاولة جادة لتسجيل تاريخ الغرب الحديث، وبناء تصوّر نظري - تاريخي عمّا انتهى إليه العالم اليوم في اللّحظة المعاصرة. وعن ذلك يذهب إلى الزّعم بأنه علينا التحدث عن تنويرين أوروبيين اثنين، لا عن تنوير واحد: أولهما التنوير الأوروبي - شائع الذكر - وهو يتمحور حول التجربة الفكريّة الفرنسيّة - بمساعدة من مفكرين اسكوتلنديين - التي قادها في ثلاثينات وأربعينات القرن الثامن عشر فلاسفة مثل فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسّو. ويصف المؤلف هذه التجربة بما سماه مأساة الثورة الفرنسيّة، ومرحلة العنف الثوري أيّام ماكسيلميان روبسبير، لتفسح المجال بداية من صعود دولة نابليون بونابرت لـ«تنوير» آخر معتدل مخفف، - أو حتى تنوير مضاد - لا يجرؤ على الابتعاد عن ضفّة الأرستقراطيّة الرجعيّة، ورفيقتها المقرّبة - مؤسسة الكنيسة.
وجهة نظر البروفسور إسرائيل تذهب إلى وصف التنوير الراديكالي بمجموعة من المواقف الفلسفيّة ضمن اتجاه فكري متعاظم نحا تجاه كسر الخرافات المتوارثة، والمفاهيم اللاعقلانيّة، وسعى إلى إطلاق سراح العقل للتشكيك بكل المسلمات، وترجم في عالم السياسة رفضاً للامتيازات الأرستقراطية وحكم النخبة لمصلحة الديمقراطيّة التمثيليّة والجمهوريّات، وعداء عاتياً للمؤسسة الدينية الرسميّة، وما سماه بارون دي هولباخ - المفكّر الألماني الفرنسي (1723 - 1789) وأحد روّاد التنوير الراديكالي - بـ«الخرافات السياسيّة» والموروثات البالية.
يعيد البروفسور إسرائيل جذور التنوير الراديكالي إلى مجموعة مثقفين تجمعوا حول الفيلسوف الهولندي الشهير باروخ سبينوزا (1632: 1677) واستكشفوا نقد السلطة - الدينية، والسياسيّة والاجتماعية - في مرحلة الجمهوريّة الهولنديّة، حيث كانت الانقسامات المجتمعيّة قد أفرزت ميلاً إلى التوحّد في إطار منظومة ديمقراطيّة - بعكس معاصريهم في قلب أوروبا، الذين استكانوا للحكم الأرستقراطي. ويبدو أن هذه الأفكار تسرّبت مع مرور الوقت إلى مثقفي وسط أوروبا عبر كتابات نخبوية متداولة على نطاق محدود بداية، ولاحقاً عبر كتب واسعة الانتشار. وقد وظّفها هؤلاء في نقدهم للكنيسة والدّولة، وما لبثت أن تبلورت تياراً يدعو للعلمنة، والأممية، وحريّة التعبير والحقوق المتساوية، في موازاة قطيعة صريحة وجريئة مع المفاهيم التقليديّة المشغولة من الخزعبلات التراثيّة. في أجواء هذا التيّار نمت بذور الثورة الفرنسيّة، قبل أن يأتي اليعاقبة الذين صعدوا على أكتاف الثورة - وفق البروفسور إسرائيل دائماً - وأقاموا ديكتاتوريّة شعبويّة ديدنها العنف المفرط والقمع، قضت على كل الأصوات المعارضة، وأبعدت المفكرين والعقلاء لفائدة الدهماء بنهاية التجربة برمتها.
يفرد البروفسور إسرائيل مساحة واسعة من كتابه لاستعراض تلك الحلقة الدمويّة من التاريخ الفرنسي التي وصفها الفيلسوف أنطون ديستو دي تراسي (1754: 1836) بأنها «ثورة عمياء، بلا عقل، ضد العقلانيّة ذاتها»، وتسببت في تقبل الجمهور للحكم الديكتاتوري الملطّف لنابليون بعد أن نجحت سنوات الإرهاب القاسية في زعزعة النبض الديمقراطي الذي أطلقه الهولنديّون. ورغم محاولات متكررة لاستعادة التنوير الراديكالي مجدداً بعد الانقلاب الذي أطاح بروبسبير ورفاقه (1794)، فإن الجهات المحافظة لم توفّر الفرصة لوصم الثورة بالإرهاب، وبذلت غاية جهدها لدفنها نهائياً على نحو يمكن معه القول إن «التنوير الراديكالي» في أوروبا انتهى بلا رجعة منذ عام 1820 تقريباً.
بالطبع فثقافة التنوير وإن خسرت معركتها السياسيّة بسبب اليعاقبة، فقد بقيت أفكارها النبيلة ولم تضمحل كليّة، لكنها انتقلت لملكيّة الثورة المضادة التي استعادت معها الدّين مجدداً إلى الحياة العامّة، والتراتبات الاجتماعية المتمحورة حول هيمنة الطبقة الأرستقراطيّة والعائلات الملكيّة، لينشأ من هذا الخليط ميل إلى التغيير المتدّرج نقيض للثورات الجذريّة، ما لبث أن تمظهر في تيارات السياسة المحافظة التي نجحت عدّة مرّات وفي غير بلد أوروبي (بداية من بريطانيا عام 1815) في استيعاب غضب الفئات الشعبيّة عبر التنازلات الشكليّة دون المساس بأساسيات النّظام الجديد.
وترافقت هذه التمظهرات مع صعود شخصيّات فكريّة مهادنة من أمثال ديفيد هيوم ومونتسكيو التي تجنّبت النقد المباشر للدين، وحرصت على التفاوض مع الموروثات بدل القطيعة التامّة معها. ويلحظ المؤلف هنا أيضاً أن الكنيسة رغم إعادة الاعتبار لها في إطار منظومة الثورة المضادة، فإنها لم تتعافَ قط نتيجة مصادرة معظم أملاكها إبّان الثورة، وتفشي الأفكار التقدميّة للتنوير الراديكالي على نطاق واسع بين الجماهير.
ويتهم البروفسور إسرائيل التيارات الثوريّة الاشتراكيّة في القرن التاسع عشر بخيانة شعلة التنوير الراديكالي رغم انتسابها النظري له. فكارل ماركس وتلامذته انتحوا عن أفكار التنوير الراديكالي الديمقراطيّة الطابع إلى إشعال حروب طبقيّة، وإلى أولويّة لجهات على حساب أخرى في إطار صراع دائم على المصالح الاقتصادية بين أطراف المجتمع الواحد.
بالطبع فإن مشروعاً فكرياً ضخماً في أكثر من 4000 صفحة يدّعي تقديم تصور شمولي لمرحلة تاريخيّة حاسمة كان لها تأثير عميق في تشكيل لحظتنا المعاصرة لا بدّ وأن يتلقى كثير نقد. ومنه محاولة غير مقنعة للمؤلف بربط الثورة الأميركيّة بالثورة الفرنسيّة مستنداً إلى أفكار شخصيّات متنورة (تنويراً راديكاليّاً) مثل بنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون، مع أن أفكار التيار المحافظ والمتدين كانت غالبة على صياغة الدستور الأميركيّ، فيما اضمحلت ثقافة التنوير الراديكالي بعد موت توماس بين في 1809. كذلك انتقده آخرون - لا سيّما داخل فرنسا - لإعطائه وزناً غير مبرر للكتابات النظريّة ومقالات المطبوعات الثوريّة خلال فترة الثورة الفرنسيّة في إطار صياغة استنتاجاته عن المجتمعات، وعلى حساب العوامل الأخرى الممكنة بطبيعة الحال.
ومع ذلك، فإن مهمّة صياغة تصوّر كلي عن مرحلة شديدة التعقيد مثل عصر التنوير لن تسلم من الجدل، لا سيما أن إسرائيل يضع قائمة متخمة بأسماء الشخصيات التاريخيّة، بعضها ليس معروفاً على نطاق واسع، بوصفها شريكة في أحد التنْويرَينِ دون الآخر مع أن مواقف تلك الشخصيات - وفق المصادر التاريخيّة عن المرحلة - قد لا تكون بالضرورة واضحة المعالم على نحو يكفي لتعليب أحدها في ضفّة دون أخرى. وقد اتهمه آخرون أيضاً بأنّه يمنح سبينوزا - على أهميته بالطبع - حجماً أكثر من حقيقة مساهمته الفعليّة في صياغة التنوير.
وفق المؤلف، فإننا اليوم بشكل أو آخر نعيش مرحلة أقرب لنكون فيها عيالاً لديفيد هيوم، الذي انتصر رمزيّاً على سيّد التنوير الراديكالي باروخ سبينوزا. وهي دون شكّ حالة تاريخيّة ستؤدي إلى وقت ضائع كثير للبشريّة في محاولتها التعايش مع التقاليد المتوارثة الجامدة، ومزجها بغرائبيّات ما بعد الحداثة الفاسدة - على حد تعبيره. لقد أُجهض التنوير الراديكالي، وانتصر التنوير المضاد، وهذا الأخير لا يبدو في أي مزاج للانصراف في وقت قريب.



«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر
TT

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

هي رواية تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، تحمل اسم «عورة في الجوار»، وسوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر والتوزيع، وتقع في 140 صفحة.

عن عوالمها وفضائها السردي، يقول تاج السرّ لـ«الشرق الأوسط»: «تروي هذه الرواية التحولات الاجتماعية، وحياة الريف المكتنز بالقصص والأساطير، وانتقال البلد إلى (العصرنة) والانفتاح ورصد التأثيرات الثقافيّة التي تهبّ من المدن إلى الأرياف، لكنها ترصد أيضاً تأثير الأوضاع السياسية المضطربة في السودان على حياة الناس العاديين وما تسببه الانقلابات العسكرية من معاناة على السكان المحليين، خاصة في الأرياف... إلى جانب اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية للناس، في سرد مليء بالفكاهة السوداء».

حمل غلاف الرواية صورة الكلب، في رمزية مغوية إلى بطل الرواية، الذي كان الناس يطلقون عليه لقب «كلب الحرّ» كتعبير عن الشخص كثير التنقلّ الذي لا يستقرّ في مكان. كان كثير التنقّل حيث يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع بين الريف والعاصمة وبقية المدن، والزمان هو عام 1980، وفي هذا الوقت يلتقي هذا السائق، وكان في العشرينات من عمره بامرأة جميلة (متزوجة) كانت تتبضع في متجر صغير في البلدة التي ينحدرُ منها، فيهيمُ فيها عشقاً حتى إنه ينقطع عن عمله لمتابعتها، وتشمم رائحتها، وكأنها حلم من أحلام الخلود.

وعن الريف السوداني الذي توليه الرواية اهتماماً خاصاً، ليس كرحم مكاني فحسب، إنما كعلاقة ممتدة في جسد الزمان والحياة، مفتوحة دائماً على قوسي البدايات والنهايات. يتابع تاج السر قائلاً: «الريف السوداني يلقي بحمولته المكتنزة بالقصص والأساطير حتى الفانتازيا في أرجاء الرواية، حيث ترصد الرواية ملامح وعادات الحياة الاجتماعيّة... لتنتقل منها إلى عالم السياسة، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية، حيث تسجل صراعاً قبلياً بين قبيلتَين خاضتا صراعاً دموياً على قطعة أرض زراعية، لا يتجاوز حجمها فداناً واحداً، لكنّ هذه الصراعات المحلية تقود الكاتب إلى صراعات أكبر حيث يتناول أحداثاً تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزي أيّام المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة ما يعرف بـ(سنة ستّة) التي وقعت عام 1888، حيث تعرض السودان عامي 1889 – 1890 إلى واحدة من أسوأ المجاعات تدميراً».

وعلى الصعيد الاجتماعي، ترصد الرواية الغزو الثقافي القادم من المدن إلى الأرياف، وكيف استقبله الناس، خاصة مع وصول فرق الموسيقى الغربية، وظهور موضة «الهيبيز»، وصولاً إلى تحرر المرأة.

رواية جديدة تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، سوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر.

يشار إلى أن أمير تاج السر روائي سوداني ولد في السودان عام 1960، يعمل طبيباً للأمراض الباطنية في قطر. كتب الشعر مبكراً، ثم اتجه إلى كتابة الرواية في أواخر الثمانينات. صدر له 24 كتاباً في الرواية والسيرة والشعر. من أعماله: «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي» (التي صدرت كلها عام 2009)، و«زحف النمل» (2010)، و«صائد اليرقات» (2010)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011، تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة.

نال جائزة «كتارا» للرواية في دورتها الأولى عام 2015 عن روايته «366»، ووصلتْ بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة في جوائز أدبيّة عربيّة، مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسي»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»)، ووصلت روايته «منتجع الساحرات» إلى القائمة الطويلة لجائزة عام 2017.

صدر له عن دار «نوفل»: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التي وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 – 2020)، «سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، «غضب وكنداكات» (2020)، «حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته إلى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربية.