«مونوس»... درة تاج أفلام أميركا اللاتينية

زاباتا لـ«الشرق الأوسط»: عملنا في غابة من دون كهرباء وإنترنت

الفيلم متاح الآن عبر المنصات الرقمية
الفيلم متاح الآن عبر المنصات الرقمية
TT

«مونوس»... درة تاج أفلام أميركا اللاتينية

الفيلم متاح الآن عبر المنصات الرقمية
الفيلم متاح الآن عبر المنصات الرقمية

فوجئ المشاهدون والقائمون على صناعة السينما العالمية والخبراء بروعة الفيلم المكسيكي «روما» الذي فاز بـ«جوائز الأكاديمية البريطانية للأفلام»، وحصد جوائز الأوسكار إلى جانب تكريمات من قبل العديد من المهرجانات السينمائية الدولية الأخرى، نظراً لجمالياته ولبساطة أسلوب سرده التاريخي.
يروي فيلم «روما»، الذي أخرجه المخرج المكسيكي الشهير ألفونسو كوارون، الحياة اليومية لعائلة مكسيكية، لكن الأهم أنه يفسح المجال للتعبير لشخصية غير متوقعة، هي مديرة منزل من السكان الأصليين لهذه البلاد من خلال سردها لتاريخ بلدها الواقع في أميركا اللاتينية.
تسببت الغبطة العارمة التي أوجدها الفيلم في فتح المزيد من الأبواب أمام أفلام أميركا اللاتينية، لكن المنعطف الآن يسير بنا للفيلم الكولومبي «مونوس» الذي يعرض ببطء شديد أحداثاً حزينة من التاريخ الكولومبي، التي طالما شهدتها تلك هذه البلاد، مثل اختطاف مجموعة مسلحة غير شرعية لمواطن أجنبي، لكن الفيلم يتعرض لما هو أبعد من ذلك: تعقيدات الإنسان.
كان «مونوس» هو الفيلم الكولومبي الذي اختير لجوائز «أوسكار»، وجرى عرضه في عواصم العالم الكبرى وفاز حتى الآن بـ29 جائزة، ونال العديد من الترشيحات من المسابقات الكبرى لتك الصناعة، لكن سحره وانعكاساته اللاحقة لا تزال قائمة في أبرز مهرجانات الأفلام، ليجبر الجمهور والنقاد على النظر بشكل مختلف إلى السينما اللاتينية.
في حديث لـ«الشرق الأوسط»، تحدث منتج «مونوس»، سانتياغو زاباتا، عن الانعكاسات التاريخية للفيلم والتصوير الذي جرى في مناظر طبيعية فريدة ومدهشة، لكنها في أماكن في غاية الصعوبة. الفيلم متاح الآن عبر المنصات الرقمية ويمكن متابعته من خلال «monosfilm».
> اختير فيلم «مونوس» درة التاج من قبل العديد من المهرجانات والنقاد الدوليين. ما هو السبب في ذلك من وجهة نظرك؟
- لفيلم «مونوس» جذور يونانية تنبغ مما يعرف بـ«الذات الفريدة»، حيث يرتكز جوهر القصة على الخلاف القائم بين فكرتي الفرد والقطيع، حيث مساحة التعايش بين الرغبة في المشاركة والمحبة وأيضاً الطموح والتعطش للسلطة. تطغى هذه السمات على حياتنا بدرجة كبيرة، تحديداً خلال فترة المراهقة، حيث نتطلع لأن نكون جزءاً من شيء ما، ولكن في الوقت نفسه نريد أن نعبر عن فرديتنا، حيث التغيير والازدواجية تتزايد يوماً بعد يوم.
> ثمة مرحلة من مراحل الصراع الكولومبي في الفيلم، أياً من المراحل يا ترى؟
- يدور فيلم «مونوس» بالتأكيد عن حالة إنسانية ينظر إليها من خلال إطار حرب وهمي. فعلى الرغم من أننا لم نذكر المكان أو الزمان الذي تدور فيه الأحداث، وخلال الأحداث نتطرق إلى العديد من الصراعات في مختلف أنحاء العالم (مثل حركة «التمرد الراستافارية»، والتوغل الروسي في شبه جزيرة القرم، والصراعات الدائرة في سوريا وفيتنام وغيرها). ولأنه فيلم كولومبي الروح والقلب، فإن الصراع الكولومبي هو أحد مصادر الإلهام.
> لكن من شاهدوا الفيلم يرون فيلماً مختلفاً تماماً. ما القصة التي تريد أن تحكيها؟
- انصبت محاولاتنا على رفض أي تصور ثنائي للحياة، رفض مفاهيم ما يعنيه كسب أو خسارة الحرب، من هو الضحية ومن هو الجلاد، هل هو رجل أم امرأة، هل هو من أنصار آيديولوجية اليمين أو اليسار، أو الجنة أو النار؟ الغرض من ذلك هو التخلي عن انحيازنا عندما نواجه التاريخ ونلتقي بالجانب الإنساني للشخصيات. إن معالجة فيلم «مونوس» لا تتم عن طريق العقل، فهو فيلم يعيش في داخلك، ويستجوبك بصدق.
> هل «مونوس» حدث أم انعكاس أم قصة حقيقية؟
- في حقيقة الأمر، هو مزيج من الثلاثة، حيث يمكن فهمه كظرف للحظة التي يعيشها العالم، وهو مستوحى بكل تأكيد من تجارب حقيقية لا حصر لها أثرت على رؤية المؤلف للمخرج أليخاندرو لانديس. لكن في النهاية، فإن الهدف هو السؤال والتأمل، خصوصاً في مجتمع لطالما شهد فيه تاريخ الصراعات استقطاباً كاملاً. ولم تكن الفروق الدقيقة والتعقيدات جزءاً من المحادثة مطلقاً.
> لكني لاحظت نية عدم إعطاء تفاصيل عن أي شيء، ما الهدف من ذلك؟
- الغرض من ذلك هو تجريد المشاهد من أسلحة الأفكار المسبقة، وربطه بالطبيعة البشرية للشخصيات التي يراها على الشاشة. «مونوس» هو فيلم سياسي، لكنه ليس آيديولوجياً. لا توجد تواريخ ولا أماكن، ولا توجد أحزاب سياسية أو أسماء عائلة.
> كيف كان الإنتاج؟ أين جرى التصوير؟
- مثل الفيلم واحدة من أكبر التحديات الجسدية والعاطفية والنفسية التي مررنا بها، حيث كنا جميعاً جزءاً من هذه التجربة. جرى التصوير في مواقع قاسية للغاية، ظروف لم نمر بها من قبل في صناعة الأفلام بسبب صعوبة الوصول والطقس السيئ والتحديات اللوجستية. في الوقت ذاته، كانت أماكن التصوير الطبيعية مذهلة لدرجة أنها كانت البطل الحقيقي للفيلم. كان أول موقع لنا هو منطقة شينغزا بارامو في كونديناماركا بكولومبيا على ارتفاع 4000 متر فوق مستوى سطح البحر، وكان الموقع الثاني في نروت ريفير كانيون في كولومبيا.
كان علينا الانتقال إلى غابة كثيفة، والبقاء فيها طيلة أربعة أسابيع في الخيام من دون كهرباء أو هواتف محمولة أو إنترنت. وكنا نتلقى المساعدة فقط من عائلتين من حفاري الذهب المحترفين الذين باتوا جزءاً من الفريق لمساعدتنا في التغلب على تحديات هذا المكان الرائع والعدواني في آن.
> هل كان للممثلين خبرة العمل في أفلام سابقة؟
- من بين أبطالنا التسعة لم يكن يقف سبعة منهم أمام الكاميرا من قبل. كانت ديناميكية مثيرة للغاية، لأن لدينا سبعة أولاد وبنات من مناطق مختلفة في كولومبيا يؤدون مشاهد مع اثنين من أبطالنا ذوي الخبرة الواسعة. جوليان نيكولسون، على سبيل المثال، شارك في أفلام كبيرة مع ممثلين مثل جوني ديب، وميريل ستريب، وجوليا روبرتس، وويليام ديفو، ومويس أرياس، وأصبحت معروفة في صناعة السينما باعتبارها واحدة من الشخصيات الرئيسية في حلقات «هانا مونتانا» التي أنتجتها «ديزني».
> ما هي الرسالة التي يريد فيلم «مونوس» إيصالها؟
- أعتقد أن الرسالة ذاتية للمشاهد. فأنا شخصياً أشعر أن الحياة هي ازدواجية مستمرة بين الفرد والجماعة. في أعماقنا جميعنا، نعيش وحيدين، لكننا نعيش مع العالم. فيلم «مونوس» يدفعنا إلى مواجهة هذه الازدواجية، فهو يجعلنا نتساءل عن مكاننا على هذا الكوكب، وماذا نفعل بشأن موقعنا في ذلك المكان.


مقالات ذات صلة

فيلم «لاف أكتشلي» من أجواء عيد الميلاد أول عمل لريتشارد كيرتس

لقطة من فيلم «عيد الميلاد» (أ.ب)

فيلم «لاف أكتشلي» من أجواء عيد الميلاد أول عمل لريتشارد كيرتس

بعد عقدين على النجاح العالمي الذي حققه الفيلم الكوميدي الرومانسي «لاف أكتشلي» المتمحور حول عيد الميلاد، يحاول المخرج البريطاني ريتشارد كورتس تكرار هذا الإنجاز.

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

عد أكثر من سنة على عرضه في مهرجاني «ڤينيسيا» و«تورونتو»، وصل فيلم المخرجة البولندية أغنييشكا هولاند «حدود خضراء» إلى عروض خاصّة في متحف (MoMA) في نيويورك.

محمد رُضا (نيويورك)
يوميات الشرق من كواليس فيلم «المستريحة» (إنستغرام ليلى علوي)

أفلام مصرية جديدة تراهن على موسم «رأس السنة»

تُراهن أفلام مصرية جديدة على موسم «رأس السنة»، من خلال بدء طرحها في دور العرض قبيل نهاية العام الحالي (2024)، وأبرزها «الهنا اللي أنا فيه»، و«الحريفة 2».

داليا ماهر (القاهرة)
يوميات الشرق أحمد حلمي مع زينة عبد الباقي ووالدها وأبطال فيلمها (الشركة المنتجة للفيلم)

نجوم مصريون يدعمون ابنة أشرف عبد الباقي في تجربتها الإخراجية الأولى

حرص عدد كبير من نجوم الفن المصريين على دعم المخرجة الشابة زينة عبد الباقي ابنة الفنان أشرف عبد الباقي خلال العرض الخاص لفيلمها الروائي الطويل الأول «مين يصدق»

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق الفنان أمير المصري في «مهرجان القاهرة السينمائي» (صفحته على «إنستغرام»)

أمير المصري لـ«الشرق الأوسط»: خضت تدريبات شاقة من أجل «العملاق»

أكد الفنان المصري - البريطاني أمير المصري أنه يترقب عرض فيلمين جديدين له خلال عام 2025، هما الفيلم المصري «صيف 67» والبريطاني «العملاق».

انتصار دردير (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)