الثقافة الأنثوية المحدثة

مظاهرة نسائية في المكسيك
مظاهرة نسائية في المكسيك
TT

الثقافة الأنثوية المحدثة

مظاهرة نسائية في المكسيك
مظاهرة نسائية في المكسيك

قرب احتفال العالم باليوم العالمي للمرأة، اتهمت إحدى مرشحات الرئاسة الأميركية المرشح الديمقراطي المخضرم بيرني ساندرز بأنه معادٍ للمرأة لأنه نُسبت إليه مقولة إن الولايات المتحدة لا يجب أن تقودها امرأة، فسعى الرجل لتفادي الرد عليها حتى لا تنهال عليه لعنات التيار النسائي الأميركي والعالمي، فيفقد فرص الفوز لأنه لن يستطيع الوقوف أمام هذا التيار القوى الذي أصبح يمثل ثقافة دولية عامة لها مقوماتها الفكرية، بل والفلسفية أيضاً.
وترجع جذور التيار النسائي العالمي -أو بالأدق الأنثوي (Feminism)- إلى القرن التاسع عشر الذي ارتبط بالحركات النسائية التي انطلقت لتطوير دور ومساهمات المرأة في مجتمعاتها في الغرب في شتى المجالات، أسوة بالرجل. وكان هدف هذا التيار الأساسي هو منح المرأة حق التصويت، مستندين لوجود تمييز عظيم ضدهم على أساس «النوع أو الجنس». فبدأت في الولايات المتحدة أول حركة نسائية عقدت أول مؤتمر لها في 1848، وسرعان ما تبعتها بريطانيا. وقد ربط كثيرون الحركة النسائية آنذاك بالديمقراطية، على اعتبار أنها خرجت من طبيعة الحكم السائد في هاتين الدولتين. ولكن فشلت أولى محاولات استصدار قانون في البرلمان البريطاني عام 1867 لمنح المرأة حق التصويت. غير أنه سرعان ما انتشرت الحركات إلى أن مُنحت المرأة الحق في التصويت في المملكة المتحدة عام 1918، وفي الولايات المتحدة في 1920، وهو الحق الذي انتشر دولياً بعد ذلك.
وبدأت الموجة الثانية من التيار النسائي في ستينات القرن الماضي لمساواة المرأة بالرجل، وهنا بدأ التيار الأنثوي يتحول تدريجياً لآيديولوجية فكرية، بإدخال قضية «النوع» في المناحي السياسية في المجتمعات، وليس مجرد التفرقة على أساس الجنس. فاستندت الآيديولوجية على أساسيات فكرية، أهمها مساهمة إدارة الدولة ذاتها في كسر الموروثات الاجتماعية المُحجمة لدور المرأة، وعلى رأسها أن مكان المرأة الطبيعي في المنزل، وهو ما لن يتغير إلا بإدخال الدولة ذاتها طرفاً لتقديم برامج دعم الأسرة، وتوفير رعاية أطفال للأمهات الحاضنات حتى يمكن لهن الانخراط في العمل الخاص والعام. كذلك بدأت الآيديولوجية تهاجم مفهوم «المجتمعات الأبوية» (Patriarchal)، وعلى رأسه ولاية الرجل، فالتسيد النوعي للذكور في المجتمعات هو بيت الداء بالنسبة لهذه الحركات. لذا ذهبت كثير من التيارات الفكرية لوضعه على قدم المساواة مع نظرية صراع الطبقات في الفكر اليساري، وأن أي محاولة لمنح المرأة حقوقها لن يتم إلا على جثة هذا الموروث الاجتماعي والثقافي. وترى هذه التيارات أن أساس ذلك الفكر مرتبط بفرية أن الطبيعة هي التي فرضت مثل هذه الأدوار على المرأة، فالفرق البيولوجي بين الرجل والمرأة أمر طبيعي، ولكن سياسات التفرقة النوعية المترتبة على هذا التفسير هي موروث ثقافي واجتماعي.
ومع مطلع ثمانينات القرن الماضي دخلت الآيديولوجية النسائية لمراحل جديدة من التنوع، فنرى أن التيار الليبرالي استشعر قدراً من النجاح بعد منح المرأة حق المساواة والتوظيف مع الرجل، ولكن التيار الاشتراكي النسائي ظل على قناعة بأن الأمر أعقد من ذلك لأن «العلاقة النوعية» داخل المجتمعات تحتاج لثورة اجتماعية - ثقافية على طراز الثورة ضد الطبقة البورجوازية المتسيدة، أو الرجل، فاستند هذا التيار لبعض أفكار الكاتب «إنجلز»، شريك «كارل ماركس» في كتاباته، الذي ربط بين التسيد المقارن للبرجوازية والتفرقة النوعية ضد المرأة.
وحقيقة الأمر أن الحركة النسائية اليوم تواجه بعض المشكلات، رغم تحقيقها لنجاحات عظيمة، خاصة على مستوى الأمم المتحدة والعمل الدولي المشترك. فرغم اشتراكهن في وضع بعض الأهداف الداعمة لدور المرأة المجتمعي والسياسي، فإن هناك اختلافاً داخلياً واضحاً حول كيفية التحقيق الكامل لهذه الأهداف، بل إن هناك مشكلات واسعة في تحديد الأهداف ذاتها لدى التيارات النسائية المختلفة. فلا خلاف على أن كثيراً من المجتمعات قد حققت للمرأة مكاسب واضحة، مثل المساواة في الفرص والوظائف العامة، والتحرر الجنسي، وصولاً إلى التمييز الإيجابي لمنح المرأة فرصاً إضافية كنوع من التوازن... إلخ. ولا تزال المعركة النسائية مستمرة، ومعها تطور الثقافة الأنثوية الدولية، رغم عدم التجانس الكامل داخل هذا التيار.
وكأي آيديولوجية فكرية، فقد ضل بعضها، ممثلاً فيما عُرف بالتيار الراديكالي الأنثوي، عن صواب الوسطية، بعبور خط التطرف الفكري، بالإصرار على حقوق إضافية تضرب في جذور وأسس المجتمعات ذاتها، فربط قضايا التحرير والمساواة بقضايا حساسة تمس الوجود المجتمعي، مثل الحق المطلق في الإجهاض، والتحرر الجنسي الكامل، وزواج المثليين، وغيرها من الأهداف الحساسة أو المرفوضة اجتماعياً، وهو ما قاد لحركة معاكسة ضد تطرفها، في الغرب قبل الشرق، خاصة بعدما بلغ التطرف مداه بعبارات مفكري هذا التيار، مثل: «إن المرأة تم إخصاؤها اجتماعياً لصالح الرجل»، وأخرى تقول: «إن الرجل أصبح الآن هو العدو»!
وأمام هذا التيار الراديكالي المتهور الممزوج بلوثة الانتقام، ليس أمامنا إلا التضرع للمولي -عز وجل- لإفشال مخططه، داعين لهن بالهداية. وفي حالة فشل ذلك -لا قدر الله- يمكننا (معشر الرجال) أن نردد باستعطاف الآية الكريمة: «وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَٰناً فَلَا يُسْرِف في ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً».



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.