المشروع الأوروبي مهدد بتباين استجابة دوله للوباء

إسبانيا والنمسا تميلان للنموذج الإيطالي مع تضاعف الوفيات والإصابات

البابا فرانسيس يتجول في شوارع روما الخالية أمس (رويترز)
البابا فرانسيس يتجول في شوارع روما الخالية أمس (رويترز)
TT

المشروع الأوروبي مهدد بتباين استجابة دوله للوباء

البابا فرانسيس يتجول في شوارع روما الخالية أمس (رويترز)
البابا فرانسيس يتجول في شوارع روما الخالية أمس (رويترز)

بعد 24 يوماً على ظهور الإصابة الأولى بفيروس «كوفيد-19» في إيطاليا، وبعد أن كان الخبراء يميلون إلى الاعتقاد بأن انتشار هذا الوباء سيبقى محصوراً في الصين، حيث كانت نقطة انطلاقه، لم يعد أحد يشكّ اليوم بأن العالم بأسره يواجه أزمة صحّية واقتصادية غير مسبوقة، لا أحد يملك القرائن أو المعطيات الكافية للتكهّن بتطوراتها وفداحة الخسائر التي قد تخلفها.
العقول الراجحة في الاتحاد الأوروبي تنادي منذ أيّام بالإسراع في اعتماد استراتيجية أوروبية موحّدة لمواجهة الأزمة الصحّية التي بات من الواضح أنها تخرج عن قدرة الدول على التصدّي لها منفردة، والاتفاق على حزمة من المساعدات المالية الكافية لمنع الخراب الاقتصادي الذي بدأ طيفه يلوح في الأفق.
وتفيد معلومات بأن المفوضيّة الأوروبية تناقش منذ صباح السبت خطة لإغلاق جميع المنافذ البرّية والجويّة والبحرية لدول الاتحاد، وإخضاعها لمراقبة مشدّدة. وتنكبّ على إعداد برنامج ضخم من المساعدات والتسهيلات المالية للحكومات، بعد أن تيقّنت من أن «كوفيد-19» قد يدفع القارة الأوروبية إلى هاوية اقتصادية لم تشهدها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

لكن الماكينة الأوروبية ما زالت بطيئة في التحرّك أمام الصدمات، رغم التحذيرات التي أطلقها كثيرون في السنوات الماضية من أنها غير مجهّزة لمواجهة الشدائد في الأيام العصيبة، وعليها الإسراع في اعتماد ما يلزم من إصلاحات لمعالجة هذه الثغرة الإجرائية التي تصبح بالغة الخطورة في الأزمات الصعبة، وتكشف الخاصرة الرخوة للمشروع الأوروبي الذي يترنح تحت وطأة الصدمات منذ سنوات.
إيطاليا، البلد الأوروبي الأقرب إلى بوّابة الخروج من الاتحاد، الذي يدفع الجزية الأكبر حتى الآن لانتشار الفيروس، يستغيث بجيرانه منذ بداية الأزمة، ويكاد يتسوّل مساعدتها. لكن الردّ يأتي، إذا أتى، متأخراً غير كافٍ، ناهيك من العراقيل التي وضعتها معظم الدول في وجه الإيطاليين الذين يشعرون بأنّهم يعاملون كمنبوذين في محيطهم.

رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، إنريكو ليتّا، قال إن «هذه الأزمة أخطر بكثير من كل سابقاتها، وسيتوقّف عليها مستقبل إيطاليا في الاتحاد الأوروبي»، ودعا إلى تشكيل حلف أوروبي تنضمّ إليه مجموعة الدول الصناعية السبع لمواجهة هذه «الحرب العالمية ضد الفيروس»، وحذّر من أن عدم التحرّك بشكل سريع منسّق سيؤدي إلى كارثة.
الأرقام الأخيرة عن انتشار الفيروس في إيطاليا سجّلت ارتفاعاً في عدد حالات الشفاء التام داخل المناطق التي تمّ عزلها في بداية الأزمة، رغم الارتفاع في الإصابات التي بلغت أمس 24700، وأعلى حصيلة يومية للوفيات، بلغت 1809. وأصبحت معظم مستشفيات الشمال على وشك إعلان عدم قدرتها على استقبال مزيد من المرضى. وفي ميلانو، يجري العمل على قدم وساق لإنشاء مستشفى ميداني ينتظر أن يكون جاهزاً نهاية هذه الأسبوع.

ويقول حاكم إقليم لومبارديا إن 10 في المائة من المصابين يحتاجون لعلاج في وحدات العناية الفائقة لفترة لا تقلّ عن 10 أيام بسبب الالتهاب الحاد في القصبات الهوائية، لكن عدد الأسرة في هذه الوحدات لا يتجاوز 950 أوشكت على النفاد، بعد الارتفاع الأخير في عدد الإصابات.
الفريق الطبي الصيني الذي رافق طائرة المساعدات التي قدّمتها بكّين إلى إيطاليا امتدح الإجراءات المعتمدة ضمن خطة الاحتواء الإيطالية، لكنه دعا إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات الصارمة للعزل ومنع التنقّل، وعدم الاكتفاء بدعوة المواطنين إلى التقيّد بها.
وما زالت السلطات الإيطالية تواجه صعوبات في فرض احترام إجراءات العزل وعدم التجوّل في المناطق الجنوبية، حيث يُخشـى ارتفاع عدد الإصابات في الأيام المقبلة. وكانت الحكومة قد ناشدت مواطني الجنوب الذين يعيشون في الشمال عدم السفر للالتحاق بعائلاتهم، بعد أن شهدت الأيام الماضية نزوحاً كثيفاً نحو بعض المدن الجنوبية.

الدولة الأوروبية الثانية من حيث عدد الإصابات، المرشّحة لموجة سريعة واسعة من الانتشار، هي إسبانيا التي أعلنت مساء السبت حالة الطوارئ العامة، وقرّرت عزل البلاد بشكل كلي لفترة 15 يوماً.
وكان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانتشيز قد خاطب مواطنيه، بعد جلسة استثنائية للحكومة دامت أكثر من 7 ساعات، وضعت خلالها خطة شاملة للمساعدات المالية والاقتصادية، وحدّدت تدابير العزل وإجراءات الطوارئ التي تضع جميع الأجهزة الأمنية، بما فيها المحلية والإقليمية، تحت سلطة الدولة المركزية، الأمر الذي أثار استياء الحكومتين الإقليميتين في كاتالونيا وبلاد الباسك، اللتين رغم ذلك أعلنتا عن استعدادهما للتعاون التام مع الحكومة المركزية.

وفي حين اقترب عدد الإصابات في إسبانيا من 8 آلاف، وتضاعف عدد الوفّيات في يوم واحد ليصل إلى 396، انتشرت دوريّات للجيش في المدن الرئيسية والمناطق التي توجد فيها بؤر للوباء، بهدف إنفاذ إجراءات الحجر وحظر التجوّل. وفي مدريد التي أقفرّت شوارعها بشكل تام، تقوم الشرطة بمراقبة الحركة المسموحة لأغراض التسوّق بالمواد الغذائية والأدوية، بعد أن استخدمت الطائرات المسيّرة لتنبيه المواطنين وتذكيرهم بالتدابير الواجب تطبيقها. وينصّ مرسوم إعلان حالة الطوارئ على عقوبات عند المخالفة تصل إلى السجن سنة، في حال تعريض حياة الآخرين للخطر.
وكانت جميع الصحف الإسبانية التي صدرت أمس (الأحد) قد حملت عنواناً واحداً كبيراً، هو «هذا الفيروس... سنوقفه متّحدين»، بينما أعلنت رئاسة الحكومة أن زوجة رئيس الوزراء مصابة بالفيروس، وأنها تخضع وزوجها لإجراءات الحجر الصحي المفروضة. ويذكر أن اثنين من أعضاء الحكومة، هما وزيرة المساواة ووزيرة الإدارة الإقليمية، مصابتان بالفيروس. وكان الديوان الملكي قد أعلن أن الملك فيليبي السادس وزوجته الملكة صوفيّا قد خضعا لاختبار الإصابة بالفيروس، بعد أن كانت الملكة قد التقت بإحدى الوزيرتين المصابتين، لكن لم يُكشف بعد عن نتيجة الاختبار.

وكانت فرنسا، التي اقترحت على المفوضية الأوروبية إقفال الحدود الخارجية للاتحاد، قد استمرّت في إجراء الانتخابات البلدية يوم أمس، رغم تحذيرات كثيرة من مخاطر هذه الخطوة التي أثارت انتقادات شديدة في الأوساط المحلية والأوروبية. وفي حين يُخشى أن تكون فرنسا تتجّه نحو اعتماد استراتيجية شبيهة بتلك التي اعتمدتها الحكومة البريطانية، أي التخلّي عن هدف احتواء الوباء لاعتباره مهمة مستحيلة، والاكتفاء بتأخير انتشاره، ليحصل خلال فترة طويلة تسمح للمنظومة الصحّية بمواجهته ضمن قدرته الاستيعابية، أعرب اختصاصيون أوروبيون عن مخاوفهم من نتائج هذه الاستراتيجية، في حال خروج الانتشار عن السيطرة. وكان وزير التربية الفرنسي قد صرّح بأنه لا يستبعد أن يتعرّض نصف السكّان للإصابة بالفيروس.

وفي حين تستعدّ فرنسا للحد من حركة المواصلات الداخلية البعيدة اعتباراً من مطلع هذا الأسبوع، بما يتيح لجميع المواطنين الراغبين العودة إلى منازلهم، قبل الانتقال إلى المرحلة التالية، كشفت مصادر صحافية بريطانية أن حكومة بوريس جونسون، التي جعلت حظر التجمعات الكبيرة مقصوراً على المسنّين في مرحلة أولى، تستعدّ لفرض حجر إلزامي على من تجاوزوا السبعين لفترة 4 أشهر، حتى في حال عدم إصابتهم بالفيروس. ويقول خبراء إن في ذلك مجازفة كبيرة، وإن خطوة كهذه من شأنها أن تؤثر على الدول الأوروبية الأخرى التي تعتمد خططاً مختلفة كلـياً. وكانت الملكة إليزابيت وزوجه الأمير فيليب قد غادرا قصر باكنغهام إلى قصر وندسور خارج العاصمة البريطانية.
أما النمسا، التي كانت أولى الدول التي فرضت إجراءات شديدة على دخول أراضيها من إيطاليا، فقد قررت أخيراً هي أيضاً اعتماد النموذج الإيطالي، وأعلن المستشار سيباستيان كورتز الإغلاق التام للحدود البرّية والجوّية، واستدعى جنود الاحتياط الذين أدّوا الخدمة العسكرية في السنوات الخمس المنصرمة للانضمام إلى أجهزة الأمن لتطبيق خطة الطوارئ المقررة حتى منتصف الشهر المقبل.

وفي برلين، كشفت صحيفة «بيلد» الواسعة الانتشار، مساء أمس (الأحد)، أن الحكومة الألمانية تدرس إقفال الحدود مع فرنسا وسويسرا والنمسا، بعد أن كانت المستشارة أنجيلا ميركل قد أعلنت عن خطة لا سابقة لها لمواجهة التداعيات الاقتصادية المرتقبة لأزمة «كوفيد-19». وكانت ميركل قد وعدت بتقديم مساعدات مالية بلا حدود للشركات الألمانية، لتمكينها من الصمود أمام الكارثة المعلنة. ويقدّر الخبراء هذه المساعدات بنحو 550 مليار يورو.


مقالات ذات صلة

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

آسيا أحد أفراد الطاقم الطبي يعتني بمريض مصاب بفيروس كورونا المستجد في قسم كوفيد-19 في مستشفى في بيرغامو في 3 أبريل 2020 (أ.ف.ب)

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

قالت منظمة الصحة العالمية إن زيادة حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي الشائعة في الصين وأماكن أخرى متوقعة

«الشرق الأوسط» (لندن )
صحتك جائحة «كورونا» لن تكون الأخيرة (رويترز)

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

تساءلت صحيفة «غارديان» البريطانية عن جاهزية دول العالم للتصدي لجائحة جديدة بعد التعرض لجائحة «كوفيد» منذ سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟