استدعاء قارئ جديد من عمر مغاير وتأمل مختلف

«المعنى والصدى» لجمال حيدر

استدعاء قارئ جديد من عمر مغاير وتأمل مختلف
TT

استدعاء قارئ جديد من عمر مغاير وتأمل مختلف

استدعاء قارئ جديد من عمر مغاير وتأمل مختلف

في مقدمة كتابه «المعنى والصدى.. في الأدب والفنون والمعرفة» الصادر مؤخراً عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر في القاهرة، يقول الكاتب جمال حيدر إن «ثمة أكثر من مقالة دوّنها خصيصاً للكتاب، في محاولة لمتابعة الأحداث بمسارها الثقافي والمعرفي، كذلك لمنح الكتاب دفقاً معاصراً قادراً على التعايش مع مسارات متجددة‫»، بينما يتألف الجزء الثاني من كتابين، صدر الأول بعنوان‫:‬ «المعنى والظل» العام الماضي‫، ويمكن‬ اعتباره سجلاً لأحداث ثقافية نشر أغلبها في الصحافة العربية ضمن ملفاتها الثقافية، وتم انتقاؤها من أرشيف كبير جمعه الكاتب خلال مساره المهني الطويل‫.‬
مواد الكتاب، كما يقول المؤلف في المقدمة، «اختزنت طوال عقود من مغامرة الكتابة، ونفض الغبار عنها اليوم بفعل متجدد يمثل بالنسبة لي، على الأقل، تأويلاً متواصلاً لقراءات ماضية ورؤية مغايرة لاكتشاف ما تركته كل تلك الأعوام على ماهية المعنى التي تفاعلت معها في لحظة الكتابة، لهذا حافظت على هيئة المقالات من دون المساس بجوهرها، برغم تجدد عوالمي وتغير رؤيتي وتعدد طبقات مخيلتي وذاكرتي. إنها ولادة جديدة لنصوص مستلة من زمنها ودفعها إلى واجهة قراءة متفاعلة (ربما) تستدعي قارئاً جديداً من عمر مغاير ووعي ومعرفة وتأمل مختلف تماماً عن تاريخ كتابتها الأولى، كذلك لردم الهوة بين ماضينا وما تبقى من أعمارنا، باعتبار أن من دون قراءة ثانية للمعنى ستدفع بها إلى النسيان.. والإهمال تالياً».
وتعددت مقالات الكتاب بين نصوص، وقراءة، وأسفار،‫ «للولوج في رحلة متعددة الأبعاد وقراءة بدلالة متقاطعة مرة ومتوازية مرات أخرى لملامسة حواف المعنى‫.. على اعتبار استحالة الوصول إلى جوهر المعنى المكتمل».‬
من عناوين محور «نصوص»: أتر‫ك أبي وحيداً في عزلته الموحشة، تفصيل من حوار طويل، بهجة مطرزة بالكتمان، 10 صور في وجدان انتفاضة آذار، لماذا لم يأت؟.‬
وفي محور «‫معرفة‬»‫ نقرأ: جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة، رواية أميركا اللاتينية.. صانعة النهضة والثورة، ثقافة الهيبيز.. المعرفة المضادة.‬
محور «‫قراءة‬»‫ توزعت فيه الكثير من المواد، لعل من أهمها: الصوت النسوي في الرواية الأفريقية، روزا لوكسمبورغ.. ما يعنيه لنا ذلك الغياب المبكر حاضراً، صموئيل بيكيت.. الوجه الخفي من الانتظار المرير.‬
وتوزعت في محور «‫أمكنة‬»‫ وهو الأخير، المواد التالية: في سماء كل مدينة ثمة نجمة تدلني على دروبها، بغداد.. العودة إلى المكان الأول، لندن.. المكان الثاني، عاصمة التناقضات. ‬
يقع الكتاب في 248 صفحة من القطع الوسط‫.‬


مقالات ذات صلة

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

ثقافة وفنون الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

في رواية «احتياج خاص» للكاتب الروائي المصري عمار علي حسن تبدو الأحلام بؤرة مركزية للسرد، بمفهومها المباشر كمرادف للمنام وما يراه النائم في منامه.

منى أبو النصر (القاهرة)
يوميات الشرق من حفل افتتاح الدورة الـ28 من المعرض (حساب وزير الشباب والثقافة والتواصل محمد المهدي بنسعيد)

الرباط: المعرض الدولي للنشر والكتاب يفتح أبوابه باستضافة 51 بلداً

انطلقت في الرباط فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته الـ28 التي تتميز بمشاركة 737 عارضاً.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
كتب بنيس يكتب عن «الشعر والشر في الشعرية العربية»

بنيس يكتب عن «الشعر والشر في الشعرية العربية»

صدر حديثاً عن «دار توبقال للنشر»، في الدار البيضاء، كتاب «الشعر والشرّ في الشعرية العربية» لمحمد بنيس، ويقع في 230 صفحة من القَطع المتوسط.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
يوميات الشرق استعرض اللقاء الأفكار التي تسهم في رفع جودة تنظيم معارض الكتاب (واس)

مختصون يناقشون تطوير معارض الكتاب في السعودية

استعرض مختصون وناشرون سبل تطوير معارض الكتاب في السعودية، وأبرز التحديات والحلول، والأفكار التي تسهم في رفع جودة تنظيمها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب «طواحين الهوى»... كتاب لـ15 سيدة من أهالي المفقودين في لبنان

«طواحين الهوى»... كتاب لـ15 سيدة من أهالي المفقودين في لبنان

«طواحين الهوى» يصدر في وقت واحد باللغة العربية، كما بالفرنسية والإنجليزية، متضمنا عصارة آلام تجربة 15 امرأة.

سوسن الأبطح (بيروت)

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً
TT

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

في رواية «احتياج خاص» للكاتب الروائي المصري عمار علي حسن تبدو الأحلام بؤرة مركزية للسرد، بمفهومها المباشر كمرادف للمنام وما يراه النائم في منامه، ومفهومها الأبعد والأكثر شِعرية وهو ما يحلم الإنسان بتحقيقه، وغالباً ما يكون صعب المنال.

ويتناول الكاتب في روايته الصادرة حديثاً، عن «الدار المصرية اللبنانية»، ثيمة الأحلام من خلال قصة صداقة ذات ظروف استثنائية تربط بين بطليه (سمير عبيد) مدرس اللغة العربية، و(ممدوح علم الدين) الموظف في إدارة لتوزيع السلع الغذائية، وعلى الرغم من أن عمر تلك الصداقة لا يتجاوز أياماً معدودة، فإنها كانت قادرة على تغيير حياة مدرس اللغة العربية، مع اتساع فضوله للاقتراب من عالم ذلك الموظف البسيط حد الهوس بما يدور فيه، لا سيما تلك الأحلام التي يراها في منامه، التي تنفتح على عالم موازٍ للحياة «تكلم عن أحلامه، ليس على أنها مجرد منامات ليل تغيب أو تغيم أو تتشظى، أو تُلقى في غياهب النسيان فور صحوه، إنما على أنها حياة كاملة، فيها أكثر مما تمناه في طفولته، وفي صباه حين طاله الوعي».

يجتمع البطلان في لقائهما الأول في يوم من أيام ثورة يناير بميدان التحرير وسط العاصمة المصرية، يلتفت مدرس اللغة العربية إلى ممدوح علم الدين، الرجل النحيل الذي يسير بين الناس يحكي عن حُلم يراوده يراه في منامه كل ليلة، مجذوباً بحلمه حد لفت النظر، فيجد سمير عبيد لديه ما يستحق الإصغاء على هامش ما يحيط بهم من صخب وشعارات «كان يحكي حلمه للعابرين. بعضهم كان يهشه كذبابة، وبعضهم كان يستمع إليه قليلاً، ثم يمصمص شفتيه، ويتركه يكمل حكايته للأرصفة، وجدران البنايات. قلة تعجبت مما يقول، وظنت أنه وليّ».

يسعى عبيد لتوطيد علاقته بهذا الرجل الذي يحكي له عن حلمه المتتابع الذي ينتهي كل ليلة مع صحوه، ليتابعه الليلة التالية من حيث انتهى، حيث يعيش فيه حياة بديلة يلتقي، بحبيبة تبادله المحبة، ويعيش معها حياة رغيدة موازية يكون فيها أستاذاً جامعياً مرموقاً يُدرّس علم النفس.

تبدأ محنة هذا البطل مع بدء تلاشي هذا الحلم المتتابع، الذي يكف عن زيارته، فيفشل رغم محاولاته الضنينة القبض على أي بصيص لاستدعائه من جديد، ومع تلاشي هذا الحلم، يتلاشى ممدوح علم الدين من أرض الواقع ويختفي، فلا يجد له أحد أثراً، ويفشل صديقه سمير عبيد معلم اللغة العربية في العثور عليه من جديد.

وفي محض بحثه عن صديقه المختفي، يجد عبيد نفسه وقد استجمع ما لديه من بلاغة وطاقة سردية كامنة وراء وظيفته التقليدية معلماً للغة العربية بمدرسة ثانوية، ويبدأ في كتابة حكاية صاحبه «الغائب» التي صار ممتلئاً بها، وراح يفيض بها على الورق، في تجربة كتابة روائية هي الأولى له، يؤرقه كيفية بناء حكاية متماسكة عن حياة صديقه الغائب المتشظية ما بين كابوس هو حياته اليومية نفسها، ومنامات تُهديه حياةً بديلة، فيضع خطة للكتابة، راعى فيها أن يعرض العالمين المنفصلين تماماً لبطله «أحدهما أبيض في سواد الليل، والثاني أسود في بياض النهار».

وهكذا بدأ في الكتابة نصف للصحو ونصف للمنام، ثم يقرر أن يُطوّر سرده ويُقسمه إلى فصول متتالية على أوقات أو حالات خمس هي (ما قبل النوم ـ غشاوة ـ نوم ـ صحو ـ ما بعد الصحو) وتكون مرحلة الـ«غشاوة» هي تلك الحالة السرمدية ما بين المنام واليقظة، تلك التي يتخيّل فيها بطله وهو يغادر عالماً ليتسلمه عالم آخر بكل تناقضاتهما الجنونية، منذ أن يُخرجه خيط نور الصباح الذي يتفاداه خشية الاستيقاظ على كابوس صراخ ووعيد أهل البيت، وأهل الشارع، والعمل، الذين يتبارون في إشعاره بالدونية، ثم يحمل له الليل والنعاس أمل العودة لحياة تتبدل فيها ملابسه الرثة إلى ملابس نظيفة، وتتسع جدران شقته الصغيرة لتصير بيتاً فسيحاً يطل على أحواض الورود، لا شيء مشتركاً بين العالمين سوى اسمه، فهو الشخص نفسه، النحيل والممتلئ، الفقير حد الإعدام، والمستور حتى الثراء والرفاه، فزوجته المتسلطة في يومه وحبيبته الغيداء في حلمه تناديانه بالاسم نفسه (ممدوح علم الدين) «ويعود من حياته الأخرى، ليجد نفسه في الحياة الراهنة، الشخص الراقد في مخدعه لا يفصل بين شخصين يعيش فيهما سوى غمضة عين وانتباهتها، لحظة تنقله من موت صغير إلى حياته القاسية التي اعتادها».

وتواجهه خلال كتابته تلك الرواية عدة عثرات، أولها سد الفجوات التي لا يعرفها عن حياة بطله وصديقه الغائب التي لا يُحيط بكثير من أسرارها، فيتنقل بحثاً عن معلومات يستوفي بها المزيد عن حياة صديقه، التي يستخدمها في رسم شخصيته، لا سيما حول تاريخه الشخصي والأسري وسنوات شبابه الجامعي وصولاً لجلوسه خلف مكتب صدئ في وزارة التموين متمسكاً بنزاهته رغم عُسر حاله المادي، وصولاً لمعرفة ما إذا كان صاحبه مريضاً بالفصام وإذا كان هذا الحُلم أحد أعراض مرض يُعاني منه.

أما العقبة الأخرى في كتابة روايته كانت في التداخل بين العالمين، والعبور من حلقة إلى أخرى لإحكام تخييله المستوحى من سيرة صاحبه مُوزعاً بين صحوه ومنامه «كانت الخواطر التي راحت تنهمر في نفسي، والأفكار التي تدفقت على رأسي، جعلتني متحيراً بعد أن اختلط الحلم بالصحو، وتقاربت المسافات بينهما إلى درجة جعلتني مدركاً الصعوبة التي سأواجهها في الفصل بين الحالتين».

إن الكتابة عن صديق «غائب» ليست فقط استدعاءً لحضوره الخاص، إنما «احتياج» لمواصلة حُلم تسرّب بين صحو حياة ومناماتها، واقتفاء لوصيّة صاحبه الأخيرة التي أطلقها في لقائهما الأخير قبل اختفائه: «امضِ خلف حلمك مبصراً، ولا تسأل أحداً». تبدأ محنة

بطل الرواية مع بدء تلاشي حلمه الذي يكف عن زيارته


ما هي الفلسفة التي نحتاجها في المدارس؟

فيثاغورس
فيثاغورس
TT

ما هي الفلسفة التي نحتاجها في المدارس؟

فيثاغورس
فيثاغورس

 

والجهل حظك إن أخذت العلم من غير العليم

ولرب تعليم سرى بالنشء كالمرض المُنيم

 

هذه الأبيات من قصيدة أحمد شوقي الموسومة بـ«أرسطاطاليس» وترجمانه (التي كتبها تهنئة لترجمة الفيلسوف والسياسي والمفكر المصري الكبير أحمد لطفي السيد لكتاب «الأخلاق» لأرسطو). وكأن أمير الشعراء في استخدامه لصيغة المبالغة «عليم» أعطى رسالة مباشرة لأحمد لطفي السيد بأن يتولى المتمكنون من المعرفة فقط تدريس الطلبة بطريقة أرسطو عند تعلمه وتعليمه الفلسفة والمنطق، وإلا تحول الطلبة لجهلة أو نسخ جامدة من الكتب! فيخاطب أمير الشعراء المفكر والمسؤول أحمد لطفي بلغة المفكرين الحاذقين العالية. كيف لا وأحمد لطفي السيد من أهم مفكري مصر الحديثة، وهو الذي تولى وزارة المعارف ثم الخارجية في مصر، وأحد مؤسسي جامعة القاهرة، ومجمع اللغة العربية، والذي يقول عنه العقاد: إنه أفلاطون الأدب العربي.

دعونا نجاري الغرب في نظرته الاستعلائية في ادعائه أن بداية الفلسفة بشكل عام، والعلمية بشكل خاص، كانت على يد اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، مدخلاً لنا لفهم الطريقة التي ميزت اليونانيين في نهجهم العلمي الذي فاقوا به الأمم السالفة. وحتى نجد لنا عذراً في مجاملة استعلاء الفكر الغربي - لفهم منطلق حكمه - نأخذ مثالاً بسيطاً لتوضيح الفكرة. فمثلاً صحيح أن البابليين قد سبقوا اليونانيين في إثبات أن مربع العدد الصحيح «س»، مضافاً له مربع العدد الصحيح «ص»، يساوي مربع العدد الصحيح «ع» في حالات محددة من الأعداد الطبيعية الصحيحة، وهي نظرية متطابقة مع نظرية مربع طول الوتر في المثلث القائم الزاوية لفيثاغورث الذي جاء بعد ذلك. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي جعل علماء الرياضيات ينسبون هذه النظرية لفيثاغورث اليوناني ويكيلون له المديح على هذه النظرية العبقرية التي تقوم عليها معظم البراهين الرياضية منذ ألفين وثلاثمائة سنة تقريباً، ويتجاهلون عمل البابليين السابق؟ وقس على ذلك تجاهلهم لما قدمه المصريون والسومريون والآشوريون والكنعانيون والفنيقيون والصينيون من نظريات كثيرة قبل ظهور أول فلاسفة اليونان الطبيعيين طاليس (غير أرسطاطاليس موضوع القصيدة) قبل ألفين وستمائة سنة تقريباً.

ما قبل سقراط وبعده

الفلسفة اليونانية تاريخياً تقسم إلى مرحلتين: ما قبل سقراط وما بعد سقراط، حيث تتميز الفترة الأولى بأنها طبيعية ورياضية، ثم تفرعت لفروع علمية وغير علمية في أواخر هذه المرحلة، مع ظهور تحديات سقراط للمسلمات الذهنية في حواراته مع مناظريه، لينتهي به الحال للحكم عليه بالإعدام من قبل أصحاب العقول الأقل شأناً. وهذه المرحلة الأولى من تأريخ الفلسفة هي التي تعنينا في هذا المقال بعيداً عن مثل أفلاطون ومنطق أرسطو في مرحلة ما بعد سقراط. اليونانيون في هذه المرحلة سلكوا مسلك الإثبات العلمي والنقد العلمي في نظرتهم لأي افتراضات علمية، وتدوين العلوم في كتب تحفظها ويدرسها المتمكنون للطلبة الأذكياء دون جعل النظريات العلمية حتمية بل ظنية قابلة للنقد إلا في حالات نادرة. أقليدس - مثلاً - لم يكتف بتدوين النظريات الرياضية في كتابه «الأصول» فقط، بل برهن على صحتها أو نقل براهين صحتها. كما أن اليونان لم يكتفوا فقط بمنهج البرهان والدليل المنطقي والإثبات العلمي والتدوين، بل أضافوا إليه البناء التراكمي للعلوم وتطورها من مرحلة لأخرى وانفتاحهم على علوم الحضارات الأخرى، كما فعل فيثاغورث نفسه الذي هام عدة عقود في طلب المعرفة منتقلاً بين مراكز الحضارات الشرقية في مصر وبلاد ما بين النهرين.

ومن أهم إسهامات اليونان إشاعة العلم وجعله متاحاً للجميع على عكس الحضارات السابقة التي تعاملت مع العلوم كأسرار في أيدي الكهنة، كما فعلت الكنيسة تماماً بالدولتين الرومانيتين الشرقية والغربية حين أغلقت آخر المدارس الفلسفية بحجة نشر الهرطقة ومحاربة الدين في القرن الخامس الميلادي، وحصرت العلوم كلها في أيدي القساوسة والكرادلة خلف أسوار الأديرة المحصنة، وفسرت الظواهر الطبيعية طبقاً لفهم الكنيسة للكتاب المقدس المحرف، فأدخلت أوروبا في ظلام دامس لألف عام.

الابتعاد عن المنهج العلمي الرصين والمنطقي والجري التائه خلف الترف الفكري والميتافيزيقيا الخيالية وهدر المواهب في لغو العقول يسقط أي حضارة، فضلاً على أن يبني حضارة على أسس علمية راسخة. هذا المنهج العلمي النقدي والمنطقي الذي ميز النصف الأول في القرن العشرين في مشهد استثنائي من تأريخ الحضارة البشرية أخرج فيها العقل البشري أعظم ما وهبه الله له.

طرق تعليمية عقيمة

إن الطريقة التي تقوم على أسلوب حفظ المعرفة العلمية فقط أو خلطها بالشوائب غير العلمية تبقى طريقاً عقيمة أمام تطور المعرفة بصورتها الشاملة. فكلما كانت النظرية العلمية أو المنطق العلمي قابلين للشك والتجربة والنقد، ويخضعان لمنهج التصحيح الذاتي، فتحا آفاقاً جديدة من أبواب العلم، وتجاوزا حدوده الآنية إلى حدود ودرجات أرفع. وهذا هو سر حضارة اليونان العلمية الطبيعية العميقة والعظيمة التي لا تزال آثارها إلى اليوم في بطون نظريات وقوانين ومنطق المعرفة. ذلك هو المطلب الأساس في منهج تعليم فلسفة العلوم (الرياضيات والفيزياء والكيمياء بشكل رئيس) لدينا ليصبح المعلم العليم شجاع العقل - كما وصفه شوقي - هو من يفَهم طلبتنا قيمة عقولهم.


تحديات عبور النصّ الغرامشي في «دفاتر السجن»

غرامشي
غرامشي
TT

تحديات عبور النصّ الغرامشي في «دفاتر السجن»

غرامشي
غرامشي

في مايو (أيار) 1930 - وفي رواية أخرى فبراير (شباط) 1929 - خطّ الزعيم الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 - 1937) أولى كلماته فيما أصبح يُعرَف بـ«دفاتر السجن»، وهي 33 كراسة سمحت إدارة السجن الفاشستي له باستخدامها لتدوين ملاحظاته وأفكاره، عندما كان يقضي فترة محكوميته التي تسببت في النهاية بموته المبكّر عام 1937.

ومن المعروف أن تلك الدفاتر، التي هرّبتها عن أعين رجال بينيتو موسوليني شقيقة عقيلة غرامشي الروسيّة إلى الاتحاد السوفياتي، بقيت طي الكتمان لِما بعد الحرب العالميّة الثانية، عندما أُعيدت إلى إيطاليا، ونشر ست منها بلغتها الأصلية، بعناية من جيوليو إينودي بين عامي 1948 و1951. لكن نشر بقية أغلب الدفاتر تأخّر حتى منتصف السبعينات، وتُرجم بعضها للإنجليزية والفرنسيّة، لكنّها لم تصل إلى قرّاء الإنجليزيّة عبر العالم بشكل فعلي قبل الثّمانينات، ولم يكتمل نشرها إلى اليوم، رغم صدور ترجمة للجزء الأهم منها إلى الإنجليزية في ثلاثة مجلدات عن مطبعة جامعة كولومبيا - 1992، والتي أصبحت تُعدّ بمثابة النسخة المعياريّة في العالم الأنجلوساكسونيّ. وتعتزم جمعيّة غرامشي الدّوليّة نشر أعماله الكاملة - بما فيها دفاتر السجن في وقت قريب - وفق ما أعلنت، بما في ذلك طبعة بالإنجليزية، إلى جانب النسخة الإيطاليّة.

ومع ذلك فإن دفاتر سجن غرامشي؛ من شدّة أصالة الفكر الذي حملته نصوصها، استقطبت، فور نشرها، اهتماماً واسعاً في أوساط الأكاديميين من خارج دائرة اليسار، ونشرت حول مختلف طروحاتها، في مجالات الاجتماع، والسياسة، والفلسفة، والأدب، والتاريخ، مئات الكتب، وآلاف المقالات المحكمّة، ولا سيّما بالإنجليزية والإسبانيّة، إلى جانب الإيطاليّة، وعُقدت بشأنها عشرات النّدوات والمؤتمرات في جامعات حول العالم، إلى جانب المساقات الدراسيّة عن فكر غرامشي التي تتوفر لطلبة الإنسانيّات، وكذلك رسائل الماجستير والدّكتوراه، حتى إن المؤرخ البريطاني المعروف إريك هوبسوم كتب يقول إن «غرامشي أصبح منذ الثمانينات أكثر مفكر إيطالي على الإطلاق يجري اقتباس أعماله في الدراسات الأكاديميّة المحكّمة في الإنسانيات والاجتماعيات».

في العربيّة تُرجمت بعض محتويات دفاتر السجن، في صيغ مختلفة من الفرنسيّة والإنجليزيّة، وهناك ترجمة جديدة لمختارات منها ستَصدر قريباً - عن منشورات الجمل بألمانيا - لكن لم تصدر إلى الآن ترجمة كاملة لها؛ لأسباب كثيرة.

على أن عبور نصوص غرامشي، وخصوصاً تلك التي تضمّنتها دفاتر السجن، تبدو مهمّة صعبة للقارئ غير المتخصص، حتى في لغتها الأم، ناهيك بالترجمات، أو الترجمات عن الترجمات - كما هي حال السواد الأعظم مما يتوفر عن غرامشي بالعربيّة. وهكذا ينتهي الكثيرون إلى قراءة مقتطفات منفصلة، أو تجميع جراحي لعدة مقاطع تحت عناوين أو «ثيمات» مختلفة، وهو ما يُفقد النص الغرامشيّ روحه الأصليّة الشديدة التباين عن نُظم التدوين المألوفة للأفكار.

مراجعات وتأملات

ولعلَّ أهم موانع العبور متأتية من طبيعة نصوص «دفاتر السجن» نفسها، فهي ليست فصولاً من كتاب بالمفهوم التقليدي، بل سجلات غير متتابعة زمنياً، دوَّن فيها غرامشي مقاطع متفاوتة الطول حول موضوعات كثيرة، بعضها مراجعات فكريّة، وحوارات مع نصوص قرأها، وبعضها الآخر تأملات في قضايا فلسفيّة وفكريّة وتاريخيّة وسياسيّة، وأيضاً ملاحظات حول قضايا كان يعتزم الكتابة فيها، وأحياناً إعادة صياغة لنصوص كتبها في وقت سابق. ورغم محاولة الكاتب السجين تنظيم تلك الدّفاتر عبر تخصيص بعضها لموضوعات محددة، مثل «النقد الأدبيّ»، أو «الصحافة»، أو «على هوامش التاريخ»، فإن معظم الدّفاتر احتوت نصوصاً من موضوعات مختلفة لا رابط بينها.

وفي الحقيقة، فإن غير العارفين بشؤون غرامشي ينتهون غالباً إلى اعتقاد أن «دفاتر السجن»، بكل ما فيها من أفكار ساطعة، تظل أقرب إلى عمل تحضيري، غير مكتمل، ولا ناضج، ونتاج عقل أسير محاصَر في السجن. وكثيراً ما استُخدمت هذه بوصفها مبررات لتمرير ترجمات مجتزأة، أو طبعات تحت تبويبات مفتعَلة، أو محاولات لتفسير المعاني الكامنة وراء النصوص المغلَقة وتقويلها ما يخدم نظريّة هنا أو تصوراً هناك، وهي طرائقُ حذَّر منها غرامشي في «الدفاتر»، واعتبرها خطراً لا بدّ من تجاوزه، لمن أراد الوصول إلى المعاني التي تَحكيها النصوص المكتوبة.

على أن في ذلك خيانة إضافيّة للنص الغرامشي فوق خيانة الترجمة - التأويل، التي لا مفرّ منها، فـ«الدفاتر» يجب أن تُقرأ حصراً وكأنها «ورشة عمل غرامشيّة مستمرة»، على ما يقول جياني فرانسوني، في كتابه عن غرامشي، فكأنّها رحلة في عقل هذا المفكر الإيطالي الاستثنائيّ بينما يقرأ ويناقش ويحلل ويفكّر في تفاصيل الأمور التي تثير اهتمامه، في إطار منهجيته التي طالما اعتمدها، حتى قبل إيداعه السجن، وتقوم على مقاومة النزوع للأفكار الشموليّة، أو الحلول النهائيّة، أو الاستنتاجات الحاسمة، لمصلحة الاستطلاع المعمَّق المفتوح النهايات للظاهرة المحددة موضوع الدّرس، في إطار تمثلها على أرض الواقع. ومن اللافت أن غرامشي لم يرغب يوماً في تأليف الكتب؛ لأنّه كان يمقت الحتميات والتجريد التي هي نتاج طبيعي لكل نص تجمعه دفتا كتاب، ونشر، بدل ذلك، أفكاره ورؤاه، عبر عدد هائل من المقالات الصحافيّة القصيرة، والمنشورات الثوريّة، إلى جانب بث بعضها في ثنايا رسائله الكثيرة إلى رفاقه وأهله، على نحوٍ يمكن منه استقراء معانٍ عمليّة شديدة الأصالة، من حواره الجدليّ، الشيّق، والمتحرر من القيود المسبقة، مع الظواهر في هذا العالم، ما حدا بمُنظِّرين كبار إلى وصف هذه المنهجية المعرفيّة المشتبكة بأمور الحياة ومعاش الناس، بـ«الطريقة الغرامشيّة».

موانع عبور نص «دفاتر السجن» الأخرى - سوى طبيعة النصوص نفسها - تبدأ من تجذّر الفكر الغرامشي في لحظته التاريخية عند تقاطع الزّمان والمكان، ولذلك فإن معرفة قريبة بتاريخ إيطاليا في العصور الحديثة، وتطورات الحركة الشيوعية فيها، وعلاقاتها بالمنظومة الاشتراكية الدوليّة، ضرورية لوضع النصوص في سياقاتها. وقد تسببت قراءات لاحقة عزلت النصّ الغرامشي عن سياقه، في ظهور ادعاءات بأن مفكّرنا الإيطاليّ لم يكن في مرحلة السجن ماركسيّاً ثوريّاً، أو أنّه نصير لمذهب الاشتراكية الاجتماعية الأوروبيّ، أو حتى مرجعيّة لما يسمى «الماركسيّة الثقافيّة» التي تستهدف تدمير المجتمع الأمريكيّ من الداخل، من خلال أدوات الإنتاج الثقافيّ، وهذا كلّه هراء محض نتاج قراءة تحريفيّة.

صراع السجين والسجّان

المجموعة الأخيرة من موانع عبور النص الغرامشي تتعلق بالظروف الموضوعيّة الشخصيّة للرّجل السجين، والمراقب، والمعتلّ الصحّة، والمعزول عن عالمه ورفاقه وعائلته وزوجته وأولاده، إذ يجب أن نتذكر دائماً أن «دفاتر السجن» كُتبت في ظل رقابة مشدَّدة أمر بها موسوليني نفسه، مما يجعلها موضع صراع يوميّ بين السجين والسجّان. ومنعت السلطات غرامشي من الاحتفاظ بأكثر من 3 كتب في وقت واحد، ولم يسمح له باستخدام دفاتره معاً، بل كانت تُنقل مع الكتب الثلاثة التي لديه، إلى مخزن السجن؛ كي يمكن للرقيب الاطلاعُ عليها عندما يشاء، ولذلك كان يبدع في استخدام مصطلحات وتعبيرات لإخفاء المعاني الظاهرة، فالحزب الثوريّ «أمير حديث»، والماركسيّة «فلسفة ممارسة (براكسيس)»، ولينين يُشار إليه باسم «إيليتش»، وهكذا.

الأمر الآخر المرتبط بذلك هو معاناته النفسيّة الحادّة نتيجة العزلة المفروضة عليه، والتي تتناقض مع طبيعته الشخصية المائلة إلى التواصل الثري مع الآخرين؛ رفاقاً وأقارب وجماهير، والتي رغم التزامه الصلب بالنضال والصمود، أنهكت إحساسه بالعالم من حوله، وانعكست على النصوص نوعاً من نزق، ولا سيما في المراحل اللاحقة من سجنه، بعدما اتجه الحزب الشيوعي الإيطالي، الذي شارك في تأسيسه، نحو مواقف لا تتوافق مع قناعاته الفكريّة. ولا شكّ أن اعتلال صحته، الذي ازداد تفاقماً بمرور الوقت، لم يساعد على التخفيف من معاناته النفسيّة، بل دفعه، في وقت ما، إلى عرضه الطلاق على رفيقته أمِّ أولاده.

لذلك كله، فإن قراءة غرامشي - ناهيك عن ترجمته - عمليّة شديدة التطلّب، وتحتاج إلى تثقيف مسبق، لكّن كنوز الفكر النادرة، التي يمكن العثور عليها في صفحات «دفاتر السجن» - والنصوص الغرامشيّة عموماً - تجعل من تلك المهمّة استثماراً مُجزياً بكل المقاييس.


الأمكنة والشخوص المهاجرة... ومصائرها

الأمكنة والشخوص المهاجرة... ومصائرها
TT

الأمكنة والشخوص المهاجرة... ومصائرها

الأمكنة والشخوص المهاجرة... ومصائرها

عندما أنهيت قراءة الرواية الشائقة «أيام الشمس المشرقة» لميرال الطحاوي، وضعتها جانباً وقد تحققت لي الدرجة القصوى من لذة النص؛ تلك اللذة الصامتة التي تحدّث عنها رولان بارت في كتابه «لذة النص»، التي تنتج من «هسهسة اللغة»، وأضيفت إليها حرارة السرد والحكايات وصخب المعنى والدوال، والقيمة والقيمة النقيض.

ولذة النص، كما أوجزها بارت في جملة قصيرة، هي: «القيمة المنتقلة إلى قيمة الدال الفاخر». إنها تستحق وقفة نقدية عميقة مغايرة وفاحصة لطبقات المعاني والدوال وعلاقاتها المتشابكة بما تتضمنه من إشكالات الهوية والكينونة، وإشكالات الاغتراب الوجودي وانتماءات المصائر المجهولة وصدام الثقافات وصراعاتها والاندماج الطوعي الوجودي في المكان، كما انبنت عليها بنيتها السردية المركزية كلها.

وهي رغم انتمائها لما عرف بأدب المهجر المُغرَق في اغترابيته، وتشظي كينونته الزمكانية، ونوستالجيته، كونه يعدّ في سردياته ونصوصه الشعرية ظواهر إبداعية خاصة ولها سماتها التعبيرية، وجدتُ هذه الرواية في جذرها الفني والفكري، بمثابة وثيقة تاريخية ونفسية وسوسيولوجية ورصداً حيوياً وآيدولوجياً، كان إمّا بالمعايشة أو المشاهدة بقرب لواقع الغربة والمغتربين، كواقعٍ مسكون دوماً بالقلق الوجودي والمشاعر المتناقضة النائسة بين الحنين، وضياع الهوية، وبين الرفض للواقع الجديد ومآلاته ومصائره، وفي انتفاء القدرة على الاندماج والتماهي مع ثقافته ومواضعاته الاجتماعية.

إلا أن الفن السردي في هذه الرواية جاء متوهجاً بالصدق الفني ونابضاً بروح متوهجة وتفكير روائي مغاير كون الكاتبة عرفت عن قرب وعايشت وسمعت أو شاهدت عن بعد كل شخوصها الروائية، كما صرّحت هي في حوارٍ أدبي مع إحدى الصحف.

وكون العمل الأدبي في متنه ونسيجه اللغوي والجمالي يخلق واقعاً فنياً مركباً ومتمازجاً في مساراته، ومنعرجاته، وأحداثه ومآلات شخصياته المصيرية، ما يعدّ تمثيلاً جمالياً حقيقياً للمكان في بعديه الداخلي والخارجي. بل إن هذا الواقع السردي الفني كان له أيضاً منطقه الجمالي المتعدد والتأويلي المنفرد. فنجد الروائية هنا تمزج الواقعي بالمتخيّل المأساوي المغرق في واقعيته الحارة المعذّبة، بحيث يضفي الغرائبي والاستثنائي ظلالاً وغموضاً شفافاً أكثر على المكان، مكان ينوس بين الحقيقي والتخييلي، متعمدة الكاتبة بشكلٍ حاذق ومبدع إخفاء الإشارة الجغرافية التي تحدد مكان الأحداث بالاسم وتسميه بـ«الأيام المشرقة» في أفق تهكمي (Ironic)، تاركةً لذكاء المتلقي هامش التخييل والتوقعات، والاستنتاج، والتركيب واستشفاف الواقع الجديد المنتج الذي تضيق في تشظي الأمكنة (سُرّة الأرض) و(تلة سنام الجمل) و(الربع الخالي) و(عين الحياة) كل الأشواق الإنسانية وكل الأحلام المجهضة التائقة ليوتوبيا أرضية وكل الانكسارات والإحباطات في آن.

المزج بين الكلاسيكية والحداثة

كتبت ميرال الطحاوي سرديتها بحساسية جمالية عالية، «محافظة على قواعد اللعبة الروائية الكلاسيكية»، على حد قولها. ويمكن تصنيف روايتها، رأيي، تحت مستوى متقدم من مستويات إبداع الشتات (الدياسبورا)، أو الإبداع المهجري الجديد، كما ذكرت. لكنها لم تفتقر لشروط حداثة الكتابة الإبداعية، ولم تنغلق في دائرة مكان سابق، أو لاحق، فهي تتنقل بين واقعين اثنين، ما قبل الرحيل عن المكان الأول وما بعد الهجرة، حيث العيش والمعايشة في المكان الثاني الطارئ، بكل ما يكتنفه من معاناة وآلام ومرارات وخيبات ناتجة عن عذابات شخوص المكان الطارد الأول، بحثاً عن يوتوبيا متخيلة. تتداخل الأمكنة وتتنوع أحداث الرواية بطريقة استرجاعية (Flash Back) حيناً، وبطريقة انسيابية حيناً آخر، ومن ثمّ تتداخل المواقع والشخصيات ذوو المرجعيات الاجتماعية والجغرافية المتباينة لتشكل هذه اللوحة السردية البانورامية الغنية والمتناقضة... والمحتدمة.

ليس كل نص سردي اغترابي، أو ديستوبي، يحقق تلك المتعة الجمالية والتشويق والانجذاب له حتى النهاية، غير أن نص «أيام الشمس المشرقة»، كما كتبته ميرال الطحاوي، بطريقتها التعبيرية وتقنياتها، نجح في تحقيق هاتين الغايتين: «لذة النص» في نسيجه الجمالي ولغته، ولذة القراءة المنتجة التشاركية في فضاء ترتيب جزر السرد المتقطعة وإعادة إنتاجها وتشكيل لحمتها اللغوية في سدى اللوحة الحكائية البازغة في وعي القارئ الممكن والمحتمل في آن... ودائماً وحسب ما يقول فولفانغ كايزر، الناقد والفيزيائي الألماني في كتابه «العمل الأدبي اللغوي»: «إن الأدب الجميل موضوع حقيقي للقراءة النقدية»، وهو ما نؤكده هنا في كل حالات قراءة النص الجميل والماتع في لذته يخرج القارئ الناقد المتمرس من لحظته الماتعة للنص ليدخل شبكته وعلاقاته اللغوية في «عمليات خرق متتالية لنظامه ومعماره وقوانينه»، على حد قول الناقد سعيد بنكراد، إلى أفق الاكتشاف المعرفي والجمالي، بل الوصول بلذة مضاعفة إلى منظومة الدلالات والتأويلات المعرفية التي غالباً ما تكون غائبة - حاضرة عند كاتب النص نفسه حين كتابته للعمل الأدبي.. إن هذا العمل الروائي المتميّز في حقيقته لهو بمثابة سجل وجودي واقعي/ تخييلي جمالي لحالاتٍ إنسانية مغتربة في زمنية محددة بمكانٍ مجازي لم تسمه الكاتبة متعيناً في جغرافيته كما قلت، وإن صارت هي مهمة المتلقي ذاته. من هنا يصبح القارئ في حقيقة الأمر، كاتباً آخر صامتاً للنص على المستوى التخييلي الصامت ككتابة الصمت التي شرحها رولان بارت في كتابه «الكتابة عند درجة الصفر» بأنها الكتابة التي: «تخلق مجموعة من العوالم الممكنة داخل عالم النص، وتُشكل في حد ذاتها فضاء للتأويل بامتياز»، وحسب الشاعر والمسرحي الفرنسي بول كلوديل: «هذا النوع من الكتابة يفترض دائماً وجود الأبيض والأسود، الفراغ واللا فراغ. كل نص حيث اللغة منظمة بشكل بلاغي وجمالي تفترض وجود نوع من الفراغ يحيط بها».

العلاقات الروائية

وحين نجحت ميرال الطحاوي في تقديم نعم الخباز شخصية محورية في الرواية، فهي كانت تنتقل من شخصية لأخرى ومن مكان لآخر بطريقة استرجاعية، فإنما كانت تبني العلاقات الروائية في الموقع الروائي الذي أسست عليه محورية الكيان الفني الرئيس.. فنعم الخباز هي التمثيل الرمزي المحوري للمعمار الروائي الذي شيدته الكاتبة، ومنها تنطلق دينامية السرد. وينفجر النص الروائي إلى تشظياته اللاحقة دفعةً واحدةً منذ المشهد الأول الذي تواجهه نعم الخباز حين تصدم بانتحار ابنها جمال، فالانزياح من زمنية الفقد والخسارات الأولى إنما يؤسس في سياق السرد لزمنية متتالية لخسارات قادمة وفادحة عايشتها نعم بتلقائية متناهية. فالسياق الروائي الاسترجاعي لزمن سابق في موقعٍ جغرافي ونفسي سابق كأنه أسس لعلاقات روائية لن تقل فداحةً في خسائرها ومراراتها. إن حركية السرد في صعودها وهبوطها إنما تمضي في مساراتها وعلاقاتها الجسدية والمكانية من محورية شخصية نعم الخباز بمعنى أنها تبني منظومة السرد ونظامها وسياقاتها وفراغاتها، حتى وإن بدا لنا هذا التجزيء والتشطير ماثلاً في علاقات النص الروائية برمتها، وفي ظني كل تشطير أو تشظ في الحدث الروائي ليس إلا في النهاية التقاء في محورية الشخصية الرئيسية التي من خلالها يلتئم الحدث الرئيسي مع تفرعاته... وتنمو دلالاته ومساراته. فمنذ اللحظة الأولى للقول السردي تفتتح ميرال روايتها على فعل القتل وصدمته فتبدأ بمآلات اليوتوبيا الموهومة إلى ملمح واقعها الديستوبي الصغير الماثل على مستوى تطور الأحداث للشخوص الروائية واختراقها ليومياتها ومصائرها.

تبدأ الرواية هكذا: «دخلت، نعم الخبّاز إلى ممرات الشمس المشرقة بخطوات ثقيلة ومتعبة وحذرة، كان قلبها يدق بعنف، ولم تجد لذلك سبباً واضحاً... حين دخلت البيت وجدت بكرها جمال الذي جاوز التاسعة عشرة ممدداً على الأرض وجهه إلى الأسفل، والطلقة التي اخترقت دماغه خرجت من الخلف واستقرت في الحائط...». من نقطة وبؤرة هذا الحدث الفاجع تنبثق مضامين النص الروائي كله، وينفتح النص على حقائقه الآتية، وتتوالى أحداث ومصائر الشخصيات الروائية المحايثة... إن المهجر ليس حلماً جميلاً كله، وإن المكان له مواضعاته وقوانين العيش فيه مختلفة ومتناقضة. والحقيقة فمن خلال هذا المشهد المروع تتحدد ممكنات السرد وآفاقه ومساقاته اللاحقة، فما الأحداث القادمة في الرواية إلا دلالة وقيمة نقيضة سالبة على رعبٍ آتٍ في المكان والزمن الروائي، وظلام كثيف يظلل فضاء النص برمته. إنه واقع متخيّل ديستوبي آتٍ حثيثاً في متن النص كما يحس به ويستشرفه المتلقي. كأن الكاتبة تريد أن تفصح في متنها الروائي وفي سياقاته عن أحلام شخوصها في الهجرة إلى يوتوبيا فتقع في ديستوبيا العيش والمآل... فلم تجد مدنها الفاضلة ولم تتحقق أحلامها في العيش الهانئ، بل تجرعت كؤوس المرارات والتحفت بليل الخيبات. فالتمثيلات الرمزية في الواقع الديستوبي التي حفلت بها الرواية تحددت في سلسلة من الأحداث الفاجعة التي مرت بها نعم الخباز وصديقاتها ما يدل على أن حلم الهجرة إلى اليوتوبيا المزمعة تحطّم كلياً في واقعه الماثل الجديد.

(*) ناقد سعودي


أنطونيو غالا يودع قرطبة في سن الـ92 تاركاً وراءه إرثاً لا يُحصى

أنطونيو غالا يودع قرطبة في سن الـ92 تاركاً وراءه إرثاً لا يُحصى
TT

أنطونيو غالا يودع قرطبة في سن الـ92 تاركاً وراءه إرثاً لا يُحصى

أنطونيو غالا يودع قرطبة في سن الـ92 تاركاً وراءه إرثاً لا يُحصى

نعى عالم الأدب الإسباني فقدان أحد أعظم شخصياته: الشاعر والمسرحي والروائي والكاتب أنطونيو غالا الذي رحل عن عالمنا في 28 مايو (أيار) 2023 عن عمر يناهز الـ92 عاماً. وبرحيله، تكون الأندلس قد فقدت أحد أكثر عشاقها هياماً بتراثها وتاريخها وإرثها الثقافي؛ فقد ظل يحلم ببقايا غرناطة إلى أن كتب رواية عن آخر ملوكها بعنوان «المخطوط القرمزي»، وهي اعترافات الأمير عبد الله الصغير إلى أبنائه عن سقوط مملكته؛ إذ شاء القدر أن يقول له: «أنت آخر ملك ستخرج من غرناطة».

تم تكريم الكاتب بجوائز عديدة: جائزة «الأدب الوطني (بلانيتا)»، وجائزة «كالديرون دي لا باركا» الوطنية، وجائزة «مدينة برشلونة»، وجائزة «كيجوت دي أورو» وغيرها. ونشرت دار النشر الخاصة به نعياً قالت فيه: «سنتذكره دائماً لما يتمتع به من إرث أدبي ودعم جزيل للمبدعين الشباب. مع هذا الرحيل، لا نملك إلا أن نقول: (وداعاً أنطونيو، وداعاً أنطونيو)». من جهته، نشر بيدرو سانشيز، رئيس الحكومة الإسبانية، عبر حسابه على «تويتر»، معزياً عائلته وأصدقائه، مشيراً إلى أن «إسبانيا فقدت واحداً من أعظم كتابها، وسوف تستلهم من أدبه دائماً».

وُلِد أنطونيو غالا في قرية برازاتورتاس بمنطقة سيوداد ريال في عام 1930، حيث كان والده طبيباً اضطرته ظروف العمل إلى الانتقال إلى قرطبة عندما كان ابنه طفلاً رضيعاً، فاعتبر نفسه منذ تلك اللحظة قرطبياً أصيلاً. تلقى تعليمه الثانوي في هذه المدينة التي عشقها، ودرس القانون والفلسفة والفنون في إشبيلية. كان يفتخر عند الحديث عن مدينته؛ فهي تحتضن الأيقونات والمساجد والكاتدرائيات، ولمعرفته الدقيقة بتفاصيلها. وكانت الملكة صوفيا تستعين به في زيارتها للمدينة لكي يكون دليلاً «سياحياً» لها، وهو الشغوف بمساجدها وكاتدرائياتها، مما دفعه إلى الوقوف ضد تحويل المسجد إلى كاتدرائية، كما أمر تشارلز الخامس، واعتبره انتهاكاً للإسلام والكاثوليكية في آن واحد، حتى إن هذا الملك الإسباني ندم على فعلته.

وانطلاقاً من ذلك، آمن الكاتب الراحل بأن مفهوم الأندلس يستند على التعايش بين اللغات والأديان؛ فهو الحل الوحيد الممكن. وبعد أن تحول مسجد قرطبة الكبير إلى موقع للتراث العالمي منذ عام 1984، بإقرار «اليونيسكو».

بدأت علاقته بالشعر في قرطبة، وسرعان ما امتدت إلى الأنواع الأخرى. ومن بعد ذلك، اجتاز امتحان المحاماة بنجاح، لكنه سرعان ما قدم استقالته فوراً، حيث رفض العمل في هذا السلك. وكما اعترف بأن ما دفعه لدراسة القانون هو إرضاء رغبة والده، حين حصل على شهادة المحاماة؛ وضعها أمامه على الطاولة، ثم انصرف إلى كتابة الأدب. وكان أول ديوان له «عدوي الحميم» الذي كتبه في سن السابعة عشرة، وحصل على جائزة «أدونيس للشعر» الإسبانية في 1959.

وسرعان ما انتقل إلى كتابة المسرح؛ فكتب المسرحيات التالية: «حقول عدن الخضراء» التي حصل بفضلها على «الجائزة الوطنية الإسبانية للمسرح» (1963)، و«لماذا تجري يا أوليس؟» (1963)، و«قليلاً من العشب» (1968)، و«الأيام الطيبة المفقودة» (1972)، و«خاتمان من أجل سيدة» (1973)، و«القيثارات المعلَّقة على الأشجار» (1974)، و«بيترا ريغالدا» (1980)، و«مقبرة الطيور» (1982)، و«سمرقند» (1985)، و«كارم» (1988)، و«المارقة» (1992)، و«الجمال النائم» (1994)، كما خاض كتابة السيناريو في مسلسلات تلفزيونية من عام 1989.

وفي الشعر، كتب المجاميع الشعرية التالية: «قصائد الحب» و«رغبة أندلسية»، و«العدو الحميم». وكشاعر، كان ينظر إلى ترجمة الشعر من لغة إلى لغة أخرى، بوصفها حالة صعبة؛ فهو لا يريد أن يترجم رامبو أو فرلين بالشعر المقفى والموزون الإسباني، إنما يرى في ترجمة الشعر المعاني والدلالات والرموز والإيحاء.

أما الرواية، فقد بدأ بكتابتها متأخراً، لكنه لاقى نجاحاً كبيراً بعد روايته «المخطوط القُرْمُزي»، و«الوله التركي» و«غرناطة بني نصر»، و«النسر ذو الرأسين»، و«قانون الثلاثة». وقد تم تحويل روايتين له إلى فيلمين سينمائيين، هما «الوَلَهُ التركي» التي استلهمها المخرج الإسباني فيسنت آراندا، و«خلف الحديقة» التي أخرجها بيدرو أوليا. بينما يتناول في رواية «غرناطة بني نصر» تاريخ المدينة وبريقها في حقبة بني نصر، وحتى سقوطها عام 1492 على يد الملكين فيرناندو وإيزابيلا اللذين لا يتوانى عن وصفهما بالوحشية والبربرية. وفي رواية «الوله التركي» يعرض الكاتب الراحل فلسفته للحب من خلال شخصية دسي ويمام المرشد السياحي التركي. وأثناء رحلتها إلى تركيا مع زوجها راميرو المحافظ جداً تقع في حب هذا الشاب، وتهاجر إلى بلده، مضحيةً بكل حياتها من أجله، لكنه لم يكن يهتم سوى بتجارته في السجاد الثمين والقطع الأثرية.

ثم كتب روايته الشهيرة «المخطوط القرمزي» التي أطلقت شهرته في الآفاق إذ حصلت على جائزة «بلانيتا» (1990)، وهي من أهم جوائز الرواية في إسبانيا. وقد طُبعت وأُعيدت طباعتها أكثر من 20 مرة حتى الآن، ووصل عدد النسخ المبيعة إلى أكثر من مليون نسخة.

تطرح الرواية التساؤل التالي: هل كان «أبو عبد الله الصغير» (آخر سلاطين الأندلس) خائناً أضاع الأندلس كما يروي لنا التاريخ؟

«التاريخ يكتبه المنتصر»... كلام ينطبق على «أبو عبد الله الصغير»، آخر ملوك الأندلس الذي سلم غرناطة للملك فرناندو والملكة إيزابيلا، ليطوي صفحة 7 قرون وأكثر من الوجود الإسلامي في إسبانيا. لكن أنطونيو غالا وقف ضد هذا المنتصر وقال الحقيقة التي حاول الغزاة تزييفها؛ فهو يضعنا أمام شخص آخر وقعت عليه لعنة التاريخ: لكنه شخص من لحم ودم يعيش الحياة حلوها ومرها، شخص يبكي لأنه يعرف أن التاريخ سيضع على كاهله هذا الثقل الكبير من الهزيمة.

تجسيد مأساة «أبو عبد الله الصغير»

مَن مِنا لا ترن في ذاكرته كلمات أمه حين التفت ابنها ليلقي آخر نظرة على غرناطة باكياً: «ابكِ كالنساء مُلكاً لم تصنه كالرجال؟»، و«إن الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ»، هذا أيضاً ما قالته أمه حين أبلغها أنه يخشى أن يمثل الأعداء بجثته. سيرة ذاتية وروائية، من الطفولة إلى المنفى، تكشف عن حياة أمير راقٍ مفتون بالسلام والثقافة، أُجبر على الحرب والسياسة، على خلفية الصراعات الداخلية والتعصبات والخيانات.

لم يتكلم الكاتب بلسان الملك المهزوم، أي بصوت ضمير المتكلم كما لو كان أبو عبد الله الصغير يكتب رسالة مطولة من منفاه في فاس إلى أبنائه ليشرح لهم ويبرر ضياع مملكته. لم يتكلم الكاتب الراحل بلسان المنتصرين من أبناء جلدته، بل بلسان الأمير العربي المهزوم. إنها اللحظة التاريخية التي يستسلم فيها بطل الرواية للموت في أحد مستشفيات فاس، طالباً الاستماع إلى الموسيقى الأندلسية دواءً أخيراً وشافياً.

لقد تهيأت الظروف للكاتب الراحل لكي يكتب هذه الرواية الكبيرة لأن الحرب الأهلية الإسبانية طغت على طفولته، رغم أن فناء بيته كان مليئاً بالزهور، إلا أنه عانى من موت أخيه المبكر (لويس)، وظل شبحه يلاحقه إلى سنوات طويلة.

شغف بالعرب

كان الشغف بالشرق والأندلس يدفعه لزيارة عدد من البلدان العربية مثل العراق وسوريا، وكانت مدينة أصيلة المغربية نافذته على العالم العربي، وهو يقوم برحلته عبر مضيق جبل طارق، وميناء طنجة، إلى هذه المدينة، ذات الجدران البيضاء والأبواب الزرقاء، إذ كان يحرص على حضور افتتاح جامعة المعتمد بن عباد الصيفية. واعتاد أن يحمل عصاه المرصعة برأس أسد عاجي، ويتجول في أزقتها، وأحياناً يدق الأرض بعصاه، ويتنبه كأعمى مغمض العينين إلى صوت داخلي حميم، هو كروان الأندلس وموسيقى غرناطة. كان يجلس في قصر «الريسوني» في الطابق الأول حيث النوافذ مشرعة على البحر. وينظر بحسرة وألم إلى عام 1492هـ الذي يحمل وجهين؛ أحدهما مشرق والآخر حالك في تاريخ إسبانيا والعالم، وهما: خروج العرب من الأندلس واكتشاف إسبانيا لأميركا، أي ما بين السقوط والصعود.

ظلت غرناطة تظهر وشماً في ذاكرته. وأثناء تجوالنا في مدينة أصيلة، كان يشرد بنظراته بعيداً إلى ما وراء الأسوار كأنه يبحث عن ضالته المنشودة في ثنايا جدرانها البيضاء. «إسبانيا في القلب...»، هكذا أطلق لوركا صرخته. وها هو أنطونيو غالا يهمس إلى البحر قائلاً: «غرناطة في القلب»؛ إذ الأندلس في نظره أهم لحظة في الثقافة الإنسانية، للإسبان ولغيرهم: زمن لا يُنسى، وأعلام خالدون، أمثال ابن رشد وابن سينا وابن ميمون كرسوا تأثير الثقافة العربية على الإسبان وأوروبا، بل هم أجداد الثقافة الإسبانية؛ إذ صنع العرب حياة وحضارة وأمجاداً ما زالت آثارها باقية في المدن الإسبانية حتى الوقت الحاضر.

إنجازات متنوعة

يمكن القول إن الراحل أنطونيو غالا مؤلف حقق نجاحاً كبيراً مع القراء في مجال الشعر والدراما والرواية على حد سواء، وهي حالة أدبية نادرة. وتميز أسلوبه بالصور الحية والروح الغنائية، وإتقانه للكتابة، أسلوباً وشكلاً؛ إذ تتراوح أعماله بين الغنائية والشهادة والتاريخ والقضايا الكبرى، ذات الطبيعة الأخلاقية والنقدية؛ فهو كاتب نجح في وضع العواطف والطبيعية والقصص والنكهات والألوان بين ظلال كلماته، كما يراه الإسبان. لذلك احتل مكانة خاصة في قلوب القراء وعقولهم. عرف كيف يصل إلى أرواحنا وينير حاضرنا بشكل لا مثيل له. فهو كاتبٌ يتمتع بموهبة فطرية، ينضح منها شعر غنائي أخَّاذ. وقراءة أعماله الأدبية مغامرة ممتعة ومعقدة في المشاعر والتفاصيل والتاريخ بحيث تجعلنا نتحد مع أنفسنا ومع العالم.

ولكن أعماله تطرح في الوقت ذاته متاهة الحيرة والفراغ في النفس الإنسانية. إن إتقانه لنسج الكلمات والحياة والأفكار يتميز بمهارة ودراية، ومعرفته كبيرة بمعجم الإبداع، شعراً ونثراً. لذلك تم وصف الكاتب الراحل بمختلف النعوت الإبداعية، مثل: «خيميائي الكلمات»، و«ملك الاستعارة»، و«ساحر الكلمات»، وكاتب الحاضر عبر الماضي، الذي منح تفاصيل الحياة اليومية روحاً شعرية.


بيكاسو بمنظور نسوي موضوع معرض في متحف بروكلين

أحد زوار معرض (بيكاسو بحسب هانا غادسبي) في متحف بروكلين (إ.ب.أ)
أحد زوار معرض (بيكاسو بحسب هانا غادسبي) في متحف بروكلين (إ.ب.أ)
TT

بيكاسو بمنظور نسوي موضوع معرض في متحف بروكلين

أحد زوار معرض (بيكاسو بحسب هانا غادسبي) في متحف بروكلين (إ.ب.أ)
أحد زوار معرض (بيكاسو بحسب هانا غادسبي) في متحف بروكلين (إ.ب.أ)

توجّه الفكاهية هانا غادسبي، في برنامجها «نانيت» عبر منصة «نتفليكس» نقدا لاذعا لبيكاسو مبدية «كرها» لمَن يمثل، بنظرها، رمزا للهيمنة الذكورية، أما في متحف بروكلين في نيويورك، فيهدف معرض عن معلم التكعيبية إلى إبراز النساء وإنصافهن.

ويشكّل معرض «It's Pablo-matic: Picasso According to Hannah Gadsby» (بيكاسو بحسب هانا غادسبي) الذي يقام بين الثاني من يونيو (حزيران) والرابع والعشرين من سبتمبر (أيلول)، أحد المعارض المنتظرة في إطار احتفالات كثيرة تحت راية فرنسا وإسبانيا لمناسبة ذكرى مرور خمسين عاماً على وفاة الرسام الشهير بابلو بيكاسو صاحب لوحة «غرنيكا».

مدخل معرض (بيكاسو بحسب هانا غادسبي) في متحف بروكلين (إ.ب.أ)

ويبقى بابلو بيكاسو (1881 - 1973) من أكثر الفنانين المؤثرين على صعيد الفن المعاصر. لكن في خضم حركة «مي تو»، لُطخت صورة هذا الرسام الغزير الإنتاج باتهامات صورته على أنه رجل متسلط، ذو ميل إلى العنف أحيانا، مع النساء اللاتي تشارك معهن حياته واستلهم منهن في أعماله.

لكن هل يمكن الفصل بالكامل بين الإنسان والفنان؟ ترفض الفكاهية الأسترالية هانا غادسبي هذه الفكرة في التعليقات المكتوبة والصوتية التي ترافق الأعمال المعروضة في متحف بروكلين، حيث ترصد في الأعمال أو الرسومات المعروضة مؤشرات إلى تمييز ضد النساء، ما يؤشر في رأيها إلى أن بيكاسو «لم يكن قادراً على فصل نفسه عن فنه في أعماله».

لكن كاثرين موريس، كبيرة المفوضين في مركز الفنون النسوية في المتحف، والمفوضة الشريكة في هذا المعرض المخصص لبيكاسو، تقدّم قراءة أقل تشدداً. وقالت موريس لوكالة الصحافة الفرنسية، خلال عرض صحافي للمعرض لم تحضره هانا غادسبي: «أنتم أمام وضع معقد ودقيق حقا لفنان لا يمكن المجادلة بعبقريته، لكنه أيضا إنسان بعيد كل البعد عن الكمال».

«الإعجاب والغضب يمكن أن يتعايشا»... عبارة وردت في مقدمة عن المعرض الذي يقام بالتعاون مع متحف بيكاسو الوطني في باريس ويتيح للزائرين التعرف مجدداً على أعمال الرسام الشهير من منظور نسوي.

وتؤكد ليزا سمول، كبيرة أمناء الفن الأوروبي في متحف بروكلين، أن الفنانات اللاتي عاصرن بيكاسو «لم يحظين بالدعم أو القدرة نفسها على الوصول إلى الهياكل المؤسسية التي ساهمت في بروز (عبقرية) بيكاسو». ويمكن للزائر التوقف عند رسومات تمثل أجساما عارية من ثلاثينيات القرن الماضي بريشة الأميركية لويز نيفلسون (1899-1988)، وهي أعمال «كانت ثورية للغاية في ذلك الوقت لأنه كان من الصعب جدا قبول النساء في حصص تعليم الرسم»، وفق ما تقول كاثرين موريس.

بعد مرور خمسين عاماً على وفاته، تقول كاثرين موريس: «هناك أعمال رائعة (لبيكاسو) في هذا المعرض ما زلت أحبها». وتضيف: «يؤسفني أن بيكاسو كان إلى حد كبير الفنان المعاصر الوحيد الذي تعلمته. هناك تاريخ أكثر ثراء لاستكشافه ويمكن أن يكون جزءاً منه».


الروائية الكندية - الفيتنامية الأصل كيم ثوي: فكرة «الحقيقة» ليست عالمية

كيم ثوي
كيم ثوي
TT

الروائية الكندية - الفيتنامية الأصل كيم ثوي: فكرة «الحقيقة» ليست عالمية

كيم ثوي
كيم ثوي

تدور فلسفة العقل في نسختها الأحدث حول «الاستعارة» في الأدب و«شذرات» الحكماء المأثورة، التي تثير الدهشة وتداعب الخيال وتحرر الوعي من أسر اللغة وحدودها؛ ذلك أن الاستعارة ظاهرة عقلية قبل أن تكون ظاهرة لغوية، تباغت المتلقي وتجعله يفكر بطريقة مختلفة غير معتادة؛ لذا اقترنت مهمة الكشف عن آلية عملها برؤية العقل الإنساني من الداخل.

الجديد هو تركيز الاهتمام على الأدباء المهاجرين واللاجئين المعاصرين، أصحاب «الهوية المفتوحة» أو قل أصحاب اللغات المتعددة والهويات الهجينة، ومن أبرزهم الأديبة الكندية الفيتنامية «كيم ثوي - Kim Thúy».

منذ روايتها الأول «رو – Ru» وتعني «نهر صغير» - عام 2009، أصبحت ثوي (ولدت في سايغون عام 1968) مستهدفة بالجوائز العالمية، والترجمات المتعددة من الفرنسية التي تكتب بها، إلى أكثر من 30 لغة، فضلاً عن الدراسات النقدية البينية، وصولاً إلى أحدث كتاب سيصدر عنها - وتشارك فيه - في يونيو (حزيران) 2023.

لا تكتب ثوي عن الأشخاص، وإنما تكتب «بهم» في معظم أعمالها، بأسلوب الشذرة المكثفة والقصائد النثرية، عن مشاكل الهجرة: الهوية والذاكرة واللغة والجنس والعائلة والأمومة والمعاناة والتجديد، وتاريخ فيتنام الوطني مقابل سيرتها الذاتية، وهي قصة عائلة فيتنامية من الطبقة العليا هربت من فيتنام بالقوارب بعد سقوط سايغون عام 1975 وحكم الشيوعيين، لتجد ملاذاً في كيبيك - كندا، وهي في العاشرة من عمرها.

ظهرت براعة ثوي بوضوح في اقتناصها روح المهاجر الفيتنامي، خاصة المرأة ودورها الصامت خلال الحرب، تكتب في رواية «رو»: «خلف أجسادهن الشابة الحالمة، كن يحملن كل الثقل غير المرئي لتاريخ فيتنام، كالعجائز ذوات الظهور المنحنية».

عقل ثوي من الداخل

في حوار حديث مع ثوي، حول مزجها المستمر الحقيقة بالخيال، وعدم التزامها التسلسل الزمني للأحداث والأبطال، تقول إن ما يهمها هو «الحقيقة الشعرية» لا الحقيقة التاريخية؛ ذلك أن انفعالات أبطالها ومشاعرهم الداخلية، كانت حقيقية جداً لدرجة لا تصدق أكثر من الخيال.

ما يستوقفنا في رؤيتها للاختلاف الثقافي بين الشرق والغرب: أن فكرة «الحقيقة» ليست عالمية، وهي تضرب مثالاً بالسمكة الذهبية. حيث يبدو الاسم واضحاً في اللغة الإنجليزية: قشورها ذهبية اللون. ومع ذلك، فإن المصطلح الفرنسي، بواسون روج، يترجم إلى «سمكة حمراء»؛ ما يشير إلى تعريف مختلف للألوان أو المفردات المتاحة. وفي الوقت نفسه، فإن مصطلحاً نادراً ما يستخدم الآن في الفيتنامية «كا تاو»، يشير إليها باسم «الأسماك الصينية»، التي تتجاهل اللون تماماً.

فإذا لم يتمكن العالم من الاتفاق على «سمكة» - كما تقول - فكيف يمكن التوصل إلى إجماع حول حقيقة الأمور الأكثر تعقيداً المتعلقة بالحرب والتاريخ المشترك؟!

لذا؛ تحتل اللغة أهمية فريدة عند «ثوي»، سواء في توليد المعاني أو نحت مفردات جديدة، كما في رواية «مان» – Mãn عام 2014 التي تدمج اللغتين الفرنسية والفيتنامية أحياناً، حتى اسم الراوي (ة)، ويعني: «الإنجاز التام»، أو «قد لا يتبقى شيء للرغبة فيه».

ثوي تبهرنا بموهبتها كطاهية - في تلك الرواية كما في الواقع، حيث امتلكت مطعماً آسيوياً بالفعل - تبتكر أطباقاً لها دلالات تتجاوز عملها كمصدر للرزق، إلى استدعاء الذاكرة والعاطفة، والزمان والمكان، و«البكاء» كلما تذوق زبائنها طعم الوطن!... فالطعام «والمرأة» صنوان في معظم إبداعاتها، كما في الثقافة الفيتنامية.

«العش» كاجتياز للمكان

في نص لافت من رواية «في – Vi» عام 2016، وتعني الصغرى، الثمينة، آخر العنقود، تصف ثوي تزاحم التناقضات في عصرنا الراهن، تقول «بينما كنت أعيش في مكان فارغ مثل الصدى الذي انتشر هناك استجابة لضوضاء نادرة، كان كل شيء في منزل (فينسنت) يحكي قصته. لقد أتوا من أماكن مختلفة، وأزمنة مختلفة، وثقافات مختلفة، ولكن تم دمجهم ونسجهم معاً مثل العش».

هذه الصورة قد لا تشير إلى ملامح «العولمة» وإكراهاتها فحسب، بقدر ما تخفي «انفتاح الثقافات كافة على ما يجتازها ويتخطاها» عبر الهجرة والتنقل والهويات المختلطة؛ إذ إن ثوي - في الواقع - لا تحمل ولعاً بالعودة إلى الوطن الأم (فيتنام)، ولا تشعر ببرودة الغربة في كندا، على العكس هي تشير إلى أن اجتياز الثقافة هو ثقافة المكان بلا مكان، الذي يصعب التعبير عنه بلغة الكلمات، وإنما بما يعرف بـ«العبر - لغة».

في رواية «إم – Em» عام 2021 قصة كبيرة في مساحة صغيرة، عن فصل قبيح من تاريخ فيتنام المعذب، حيث تزيل ثوي الجدار الثالث وتخاطب القارئ مباشرة، حتى تبرز الخيط غير المرئي بين الأدب والفلسفة، أو قل إنها توقظنا من سباتنا العميق على أقوى ما تمتلكه عقولنا، تلك «النار التي تنير نفسها كما تنير الأشياء الأخرى» كما يقول المفكر البوذي ناجارجونا في واحدة من أجمل شذرات.

تقول ثوي المسكونة بالفلسفة حتى النخاع «لا توجد غرابة في أن تعمل وكالة (ناسا) بانتظام مع الفلاسفة أثناء البحث في غياهب الفضاء؛ لأنه - في هذا المستوى من التعقيد - يحتاج المرء إلى عقل شخص يمكنه أن يثير أسئلة غير مطروقة أو معروفة».


لبؤة العُلا فريدةٌ في عالم الجزيرة العربية الأثري

لبؤة تُرضِع وليدها في نقش على لوح من الحجر الرملي محفوظ في متحف قسم الآثار بجامعة الملك سعود
لبؤة تُرضِع وليدها في نقش على لوح من الحجر الرملي محفوظ في متحف قسم الآثار بجامعة الملك سعود
TT

لبؤة العُلا فريدةٌ في عالم الجزيرة العربية الأثري

لبؤة تُرضِع وليدها في نقش على لوح من الحجر الرملي محفوظ في متحف قسم الآثار بجامعة الملك سعود
لبؤة تُرضِع وليدها في نقش على لوح من الحجر الرملي محفوظ في متحف قسم الآثار بجامعة الملك سعود

يحتفظ متحف قسم الآثار في جامعة الملك سعود بلوح من الحجر الرملي الأحمر نُقشت عليه صورة لبؤة تُرضع وليدها. مصدر هذا الحجر موقع الخُريبة، في الجهة الشمالية الشرقية من العُلا، وهو غير مؤرخ، ويعود بحسب أهل الاختصاص إلى الفترة الممتدة من القرن السادس إلى القرن الرابع قبل الميلاد.

نُقشت هذه الصورة الناتئة على أرضية ملساء ناعمة متوسّطة الحجم، طولها 33 سنتمتراً وعرضها 46 سنتمتراً. تظهر اللبؤة في وضعية جانبية، وتتميز برأس ضخم تلِف الجزء الأمامي منه للأسف، وسلمت منه عين كبيرة، على شكل دائرة غائرة تمثّل المقلة، تحوي دائرة ناتئة ترمز إلى البؤبؤ. تحدّ هذا الرأس لبدة كثيفة، تظهر بشكل مختزل في ثلاث مساحات ناتئة متوازية ومتساوية حجماً. الجسم طويل وأملس، أعضاؤه محدّدة بشكل مجرّد من التفاصيل، وتتكوّن من أربع قوائم قصيرة، ضاعت منها القائمة الأمامية اليسرى والجزء الأسفل من القائمة اليمنى، وذَنَب قصير في طرفه جمة، يلتفّ مشكّلاً دائرة مفتوحة، وأربع حلمات تظهر في طرف أسفل البطن على شكل أسنان مشط صغير.

وسط المساحة التي تفصل بين القائمتين الأماميتين والقائمتين الخلفيتين، ينتصب الشبل الوليد، وما بقي منه هو الجزء الأعلى فحسب للأسف. الرأس منفّذ وفق الأسلوب نفسه، وتحدّه كذلك ثلاث مساحات ناتئة متوازية. والجسد ضاع الجزء الأسفل منه، وبقي منه صدره، والقائمة الأمامية اليمنى المرفوعة نحو الأعلى، والقائمة الأمامية اليسرى المنحنية نحو الأسفل. يرفع الشبل رأسه في اتجاه حلمات أمّه، ويمدّ لسانه كأنه يهمّ بأن يلعق منها، وصورة اللبؤة وشبلها معروفة في الميراث الأدب القديم، وقد ذكرها هيرودوت في الجزء الثالث من موسوعته التاريخية، كما ذكرها أرسطو في الفصل السادس من «تاريخ الحيوان».

يقول هيرودوت إن اللبؤة، «أقوى الحيوانات وأكثرها جرأة، لا تُنجب في حياتها سوى شبل واحد؛ ذلك أنها حينما تلد الشبل تخرج الرحم أو ما بقي منها معه، لأنّ الشبل عندما يبدأ في التحرّك في بطنها، يخدش جدران الرحم بمخالبه، التي تتّصف بأنها أقوى من مخالب أي حيوان آخر، وفيما هو ينمو يستمرّ في الخدش. بحيث تقارب الرحم التلف حينما يأتي وقت ولادته، فتخرج بقاياها معه». من جهته، رأى أرسطو أن هذه الرواية هي في الواقع خيالية، وأن اللبؤة تنجب في أغلب الأحيان شبلين، وعدد أشبالها في أقصى حد ستة، ويحدث ألا تنجب إلا شبلاً واحداً. ونقل الفيلسوف رواية غريبة تقول إن اللبؤات في سوريا ينجبن خمس مرات، ويلدن في الحمل الأول خمسة أشبال، ثم يتضاءل هذا العدد تدريجياً، بعدها يتوقفن عن الحمل، ويصبحن في النهاية عاقرات.

اللافت، أن رواية هيرودوت انتقلت لاحقاً إلى العالم الإسلامي، وتردّد صداها في مراجع عدّة، كما أشار الوطواط في «مباهج الفكر ومناهج العبر»: «إن أصحاب الكلام في طبائع الحيوان يقولون إن اللبؤة لا تضع إلا جرواً واحداً، وتضعه بضعة لحم ليس فيها حس ولا حركة، فتحرسه من غير حضانة ثلاثة أيام، ثم يأتي أبوه بعد ذلك فينفخ في تلك البضعة المرة بعد المرة حتى تتحرّك، وتتنفّس فتنفرج الأعضاء، وتتشكّل الصورة ثم تأتي أمه فترضعه، ولا يفتح عينيه إلا بعد سبعة أيام من تخلقه، وهي ما دامت ترضع لا يقربها الذكر البتة، فإذا مضت على الجرو ستة أشهر، كلف الاكتساب لنفسه بالتعليم والتدريب».

تحتلّ صورة الأسد مكانة رفيعة في فنون الشرق القديم بأقاليمه المتعدّدة، غير أن صورة اللبؤة مرضعة تُعدّ نادرة في هذا الميدان الواسع، وشواهدها معدودة، ومنها تلك التي تبرز في منحوتة من منحوتات «قصر العبد» الذي يقع جنوب بلدة عراق الأمير، غرب مدينة عمّان في الأردن. يعود هذا القصر إلى العصر الهلنستي، وإلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد شُيّد في زمن صعود الدولة السلوقية التي تأسّست في بابل، وامتدّت وتوسّعت حتى شملت في أوجها، أراضي تمتد من الأناضول إلى بلاد فارس وبلاد الرافدين وبلاد الشام، وبلغت أراضي تعود في زمننا إلى الكويت وأفغانستان وتركمانستان. في هذا القصر، تحضر اللبؤة المرضعة في نحت ناتئ أُنجز بحرفية عالية، وفيه تظهر الأم في وضعيّة جانبية، ويظهر وليدها في وضعيّة المواجهة، منتصباً تحت حلمات بطنها. وهذه اللبؤة أحدث زمنياً من لبؤة العُلا، وصورتها تشابه في تأليفها صورة لبؤة العُلا دون أن تماثلها، وتختلف عنها جذرياً في أسلوبها المتقن.

تبدو لبؤة العلا بأسلوبها البسيط أقرب إلى الفنون البدائية، وتختلف بشكل كبير عن الأسود الأربعة التي تحرس المقبرة المعروفة بمقبرة الأسود في الخُريبة، حيث تظهر في قالب واحد جامع، وتطلّ في وضعية المواجهة في كتلة ناتئة، منتصبةً على قوائمها الأماميّة. تشكّل صورة لبؤة العُلا امتداداً لصور الأسود المنقوشة على الصخور، ومنها تلك التي تحضر في جبال جبة وياطب وأم سنمان، في منطقة حائل. كما أنها تشابه في تأليفها الأسود العملاقة المنحوتة في الصخر في الطريق المؤدية إلى وادي فرسا، في الجهة الغربية من «الجبل المذبح» في إقليم البتراء الأردني، والأسدين البرونزيين اللذين وُجدا في معبد مدينة نشان الأثرية، في الخربة التي تُعرف اليوم بخربة السودة، وتقع في منطقة الجوف الشمالية في اليمن، وهذان الأسدان من نتاج القرن السادس قبل الميلاد، وهما مهديّان إلى المعبودة العربية «عثتر»، من قِبل ملكَي نشان، «يدع» و«يشهر»، كما تؤكد الكتابة المنقوشة على قاعدتي التمثالين.

في الخلاصة، تبرز لبؤة الخريبة بموضوعها في الدرجة الأولى، وتشكّل لوحة فريدة من نوعها في عالم الجزيرة العربية الأثري الشاسع بأقاليمه المتعدّدة اللغات والأساليب الفنية.


«كاتب لا يستيقظ من الكتب»... فعل القراءة في حياة الكُتاب

«كاتب لا يستيقظ من الكتب»... فعل القراءة في حياة الكُتاب
TT

«كاتب لا يستيقظ من الكتب»... فعل القراءة في حياة الكُتاب

«كاتب لا يستيقظ من الكتب»... فعل القراءة في حياة الكُتاب

صدر، حديثاً، عن دار «أكورا» بطنجة، كتاب جديد للناقد والمترجم المغربي محمد آيت لعميم، تحت عنوان «كاتب لا يستيقظ من الكتب»، قال عنه صاحبه إنه ثمرة لأكثر من عشرين سنة من الترجمة لحوارات شاملة مع كتاب ومفكرين وفلاسفة وروائيين ونقاد، «كان استكشف فيهم نظرات عميقة حول الكتابة والوجود، وحول الأدب والحياة».

العنوان مثير ويغري بالإقبال على الكتاب. وقد برر آيت العميم اختياره، بقوله «ولو أنني كنت أترجم هذه الحوارات بطريقة متقطعة، فإنني سألمح فيها خيطاً ناظماً، وهو مديح القراءة والاعتناء بالكتاب؛ مما حدا بي أن أطلق هذا العنوان الذي بدا لي جامعاً لأشتات هذه الحوارات. إذ لا يخلو حوار من الإشادة بفعل القراءة وبأهمية الكتب في حياة الكتاب».

يشتمل الكتاب على 15 حواراً طويلاً، لكل من الروائي والكاتب المكسيكي كارلوس فوينتيس، الأول بعنوان «السعادة والتاريخ لا يمكن أن يلتقيا» والثاني بعنوان «في مديح الثقافة الهجينة»، وللناقد والكاتب الفرنسي رولان بارت تحت عنوان «الأدب والتدريس»، ولتزفيطان تودوروف، بلغاري الأصل، تحت عنوان «الدين والحب والجمال... طرائق لإعادة التجربة مع المطلق»، وللناقدة والروائية البلغارية جوليا كريستيفا تحت عنوان «استعجال التمرد»، وللفيلسوف الفرنسي بول ريكور تحت عنوان «كل كتاب أكتبه يترك شيئاً عالقاً»، وللروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي تحت عنوان «صرت كاتباً بالصدفة»، وللناقد الإيطالي بييترو تشيتاتي تحت عنوان «كتبي شكل من أشكال السرقة»، وللناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو تحت عنوان «كنت بورخيسيا قبل أن أقرأ بورخيس»، وللروائي الإسباني خابيير سركاس تحت عنوان «الرواية سلاح دمار شامل»، ولجون كلود كاريير تحت عنوان «ما مصير البيبليوفيليا (عشق الكتب) في زمن الرقمنة؟»، وللفيلسوف بيير فيسبيريني تحت عنوان «تشكلت الفلسفة القديمة في القرن الـ19»، ولبيرنار بيفو تحت عنوان «أن نقرأ هذا عمل شجاع»، ولميشيل باستورو تحت عنوان «الكتاب الصغير للألوان»، وللكاتب الإيطالي إمبرتو إيكو تحت عنوان «الكتاب لن يموت أبداً».

وكتب آيت لعميم، في تقديم كتابه «أظن أن القارئ سيجد نفسه أمام وفرة من الأفكار المتنوعة، والعميقة صدرت عن كتّاب ونقاد بصموا تاريخ القراءة، وخلفوا أعمالاً خالدة، ومن عجائب الاتفاق أن أفكاراً عديدة التقى فيها هؤلاء الكتاب، لم تكن تظهر لي أثناء الترجمة، بل بدت لي لما انتظمت الحوارات في كتاب، فأصبحت هذه الحوارات تتحاور فيما بينها».

وعن اختياره ترجمة حوارات مع كتّاب كبار، يقول «الحوار جنس أدبي حي، ينبض بالأفكار الطازجة، ويسمح للكاتب أن يتحدث عن تجربته وكتبه بنوع من الحيوية المضيئة؛ إذ الأفكار التي يسترسل في التصريح بها تتمتع بذكاء اللحظة وبالعثور على الجمل المناسبة، أحياناً يتمكن الكاتب من اكتشاف صيغ وعبارات موجزة تصبح جملاً خالدة لا تنسى، إضافة إلى أن الحوار يتمتع بالقدرة على التكثيف والإيجاز، وتقديم مفاتيح لفتح مستغلقات الكتابة، وفهم مقصديات الكاتب من أعماله».

ويشير آيت لعميم إلى أن ما يميز أغلب الحوارات التي يشتمل عليها كتابه، أنها «تتمتع بالشمولية وتغطية المشاريع الكتابية لكل مؤلف على حدة؛ مما يجعلها توفر للقارئ نظرة شاملة على التحولات التي عرفها كل كاتب، وتكشف أسرار هذه التحولات، إضافة إلى أنها حوارات ذات طابع سيري، بحيث نصادف فيها معطيات حول الكاتب، تعمل على إضاءة بعض مشاغل الكتابة لديه، وتفسر القطائع التي صاحبت هؤلاء الكتاب عبر مسارات الكتابة ومنعرجاتها، إلى درجة أن كل حوار على حدة قد يتحول إلى مشروع كتاب حول تجربة المؤلف».

هناك قيمة أخرى، يبرزها آيت لعميم في تقديم كتابه، بخصوص الحوارات، بإشارته إلى أنها «بداية للمجتهد ونهاية للمقتصد، فهي تلبي حاجات كل صنف، فالذي يتمتع بقدرة هائلة على القراءة ستفتح له الحوارات نهماً قرائياً لأعمال هؤلاء الكتاب أو إعادة قراءتها على ضوء الأفكار التي كشفتها لحظات الحوار، ومن لديه نزوع انتقائي في القراءة فإن الأفكار التي وردت مبثوثة في ثنايا الحوارات قد تلبي بعضاً من فضوله المعرفي».

مما نقرأ، في حوار أمبرتو إيكو الذي حمل عنوان «الكتاب لن يموت أبداً»: «الكتاب مثله مثل الملعقة أو المطرقة أو العجلة أو المقص. ما أن تخترعها لأول مرة فإنه ليس بإمكانك أن تصنع أحسن منها. لا يمكنكم أن تصنعوا ملعقة أفضل من الملعقة. حاول مجموعة من المصممين أن يطوروا أو يصلحوا مثلاً الحلالة، ولكن بنجاحات متفاوتة جداً. إضافة إلى ذلك أغلبها لا يشتغل. لقد حاول فيليب تسارك تجديد عصارات الليمون، لكن عصارته (من أجل إنقاذ صفاء جمالي ما) تترك البذور تمر. لقد برهن الكتاب على جدارته، ولا نرى كيف يمكننا أن نصنع أفضل من الكتاب للاستعمال نفسه. يمكن للكتاب أن يتطور في تركيبته، يمكن لصفحاته ألا تكون من الورق، لكن سيظل ما هو عليه».

في حواره أيضاً، يتحدث إيكو عن المستقبل، وعن تطور التكنولوجيات الحديثة، فيقول «كل شيء ممكن الوقوع، يمكن للكتب ألا تثير اهتمام سوى قبضة من أناس محددين سيشبعون فضولهم العابر في المتاحف والمكتبات»، قبل أن يستدرك «يمكننا أيضاً أن نتخيل أن الاختراع المدهش الذي هو الإنترنت، سيختفي بدوره في المستقبل. بالضبط مثل المنطادات اختفت من سمائنا، حين أطلقت النار على هوندبرغ في نيويورك، قبل الحرب بقليل، مات مستقبل المنطادات. الأمر نفسه بالنسبة إلى طائرة الكونكورد، فحادثة كونيس عام 2000 كانت مشؤومة، فالتاريخ على الرغم من ذلك مدهش، تخترع طائرة، تقطع المحيط الأطلسي في ثلاث ساعات بدلاً من ثمانٍ. من كان سيعترض على مثل هذا الإنجاز؟ لكن صرف النظر عنها بعد هذه الكارثة على اعتبار أن الكونكورد باهظة الثمن، هل كان هذا سبباً معقولاً؟ فالقنبلة النووية هي الأخرى باهظة الثمن!».

ومما نقرأ في الحوار المنجز مع برنار بيفو، عن القراءة إذ تعزلنا عن العالم وتفتحنا عليه في الوقت نفسه، على لسان ابنته سيسيل بيفو «أن تجد وقتاً للقراءة هو نوع من المصارعة. فحينما كنت أعمل، إذا لم أجد دقيقة من أجل القراءة في اليوم، كنت أتوقف في مقهى. وأنادي على أطفالي وأقول لهم إنني سأتأخر لبعض الوقت لأنه ما زال لدي عمل – شيء لم يكن صحيحاً، وكنت أقرأ ليس طويلاً، ولكن على الأقل عشرين دقيقة. قبل أن أدخل إلى البيت، كنت في حاجة إلى هذا. لأنني كنت أعرف أنني إذا دخلت، لن أجد الوقت... أو، عوض أن أتناول وجبة الغذاء مع زملائي في العمل، كنت أعتذر أن لدي موعداً، وأذهب وحدي إلى بيسترو كي أقرأ. أمر لا يصدق، لكن من المستحيل أن أقول لهم «لا أريد أن أتغ]ى معكم، سأذهب لأقرأ، الناس لا يقبلون بهذا».

وعن الأسباب التي تجعله يتخلى عن كتاب، أجاب برنار بيفو «إذا أزعجني. فبقراءتي ثلاثين صفحة، يمكنني أن أعرف أن الكتاب يدور في حلقة مفرغة، وأنه متبجح، وأن الشخصيات ليست ذات أهمية كبرى. وإذا كان الأمر يتعلق بمحاولة أو دراسة، فإنها غير مفيدة أو أن الكتابة ذات سطحية مفزعة».


غياب الممثل أسامة الروماني أحد مؤسسي المسرح السوري

الفنان السوري أسامة الروماني (سانا)
الفنان السوري أسامة الروماني (سانا)
TT

غياب الممثل أسامة الروماني أحد مؤسسي المسرح السوري

الفنان السوري أسامة الروماني (سانا)
الفنان السوري أسامة الروماني (سانا)

غيب الموت اليوم (الاثنين)، الممثل أسامة الروماني في دمشق عن 81 عاماً إثر احتشاء في عضلة القلب، بعد مسيرة أسهم في بدايتها بتأسيس المسرح القومي في سوريا، واشتُهر لاحقاً بأعماله المسرحية والتلفزيونية.

ونعت نقابة الفنانين ووزارة الإعلام «الفنان الكبير»، ووصفته وكالة الأنباء الرسمية «سانا» بـ«صاحب المسيرة الإبداعية وأحد أهم رواد المسرح السوري المعاصر».

ووفق وكالة الصحافة الفرنسية، عُرف الروماني، المولود في دمشق عام 1942، بأدواره المسرحية مع رفيق دربه الفنان دريد لحام، لا سيما بمشاركته في مسرحيتي «ضيعة تشرين» و«غربة» اللتين عُرضتا مطلع ستينات القرن الماضي، وحُفرتا في ذاكرة السوريين طويلاً.

وارتبط اسمه ببرنامج الأطفال الشهير «افتح يا سمسم» الذي أسهم في تأسيسه في الكويت عام 1979، وصار جزءاً من ذاكرة الطفولة لأجيال عربية متلاحقة.

وتُعد شخصية الرئيس السوري الأسبق أديب الشيشكلي التي قدمها في مسلسل «حمام القيشاني» إحدى أبرز محطات الروماني الدرامية.

وغاب الروماني عن شاشة التلفزيون وخشبة المسرح نحو عشرين سنة، قبل أن يعود إلى دمشق عام 2021 ويشارك في مسلسلات درامية عدة أبرزها مسلسل «كسر عظم».

ونعاه عشرات من زملائه ومئات المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي. وكتبت الممثلة شكران مُرتجى في نعيه: «فخامة الاسم والأرشيف... ستبقى في الذاكرة، وكنت سعيدة بعودتك إلى دمشق بعد سنوات الغربة الطويلة».

وأسامة هو الشقيق الأصغر للفنان الراحل هاني الروماني.