«كورونا» ضيف بغداد الثقيل

«كورونا» ضيف بغداد الثقيل
TT

«كورونا» ضيف بغداد الثقيل

«كورونا» ضيف بغداد الثقيل

لم أكن أتوقع وأنا أقرأ في مراهقتي روايتي غابريل غارسيا ماركيز عن العزلة التي بلغت «مائة عام من العزلة»، أو عن «الحب في زمن الكوليرا»، وهو يتحدث عن قرى نائية، وعن جنرالات متقاعدين، وعن عمال تلغراف يعشقون صبايا جميلات وثريات، لم أكن أتوقع أنْ يُعاد إنتاج هذه العزلة يوماً ما، في بغداد.
بغداد تلك المدينة الجارحة الحانية في الوقت نفسه، تلك التي تشعرك بالألفة والغربة معاً، سارقة كحل الصبايا وقلوب الشباب، بغداد تلك التي من تحت جسرها تخفق القلوب وتتغنَّى الأرواح:
فالعاشقات وألف جيدٍ ينثني
والعاشقون وألف قلبٍ يخفقُ
بغداد عاصمة العباسيين، وقطعة الحلوى التي تُغري بتذوقها كلَّ الألسن، وبغداد ذلك الكتاب الذي «لا وغد في التاريخ إلا تصفحه»، كما يقول أجود مجبل، ها هي الآن نتصفح شوارعها الفارغة إلا من سيارات إسعافها البطيئة، ومقاهيها المكتظة بالمجانين تُغلق أبوابها بوجه الشعراء والعشاق والصعاليك، فأي طعمٍ لهذه المدينة الخالية من جدل المثقفين، وتصورهم الأبدي أنَّ العالم بيدهم، وأنَّ مقالاتهم تغيِّر وجه العالم.
أسير في شوارع الكرادة، وهي مكاني الأثير، وقلب بغداد الحاضن للجميع، فلا أرى أحداً من أصدقائي، ها هم أصدقائي للمرة الأولى يعشقون بيوتهم، وسمعت أنَّ زوجاتهم يشكرن فيروس «كورونا» لأنهن يحظين الآن بأطول فترة ممكنة من جلوس أزواجهن في البيوت، أو بالحبس كما يحب بعض الأصدقاء تسمية فترة إقامته الإجبارية في بيته. ها هم ينسلَّون من شوارع بغداد، تلك التي لم تُدر وجهها يوماً بوجه أحد، حتى لو كان غازياً. فالحروب، والميليشيات، والتفجيرات الإرهابية، والمظاهرات، والاعتصامات، والمفخخات، والخطف والقتل، والدبابات الأميركية، وحظر التجوال، كل ذلك لم يستطع أنْ يمنع عاشقاً من موعد مع حبيبته، أو يمنع شاعراً من الصعلكة بين شارع المتنبي، ومقهى الشابندر، و«كهوة وكتاب»، ورضا علوان، أو مقهى أبو زهراء الشعبي.
كل تلك الحياة الصعبة التي أُغلق فيها عددٌ كبيرٌ من الشوارع لم تستطع أنْ تقيّد أقدام عشَّاق بغداد من السير في أزقتها، والتنقل في مطاعمها الشعبية، إلَّا هذه اللحظات، حيث يحلُّ «فيروس كورونا» ضيفاً ثقيلاً على بغداد، بغداد التي فتحت كل شوارعها، حتى المنطقة الخضراء، ولكن ما الفائدة؟ الشوارع مفتوحة، إلا أن الأقدام مغلقة، والمقاهي مطفأة، والمطاعم نائمة، وعشاق السهر ذابلين يترقبون ضيفهم الثقيل متى يرحل عنهم.
إذن، كلُّ الحروب لم تستطع أنْ تكبّل بغداد، لكن فيروس «كورونا» الذي لم تره العين بعد، ها هم جنوده غير المرئيين يُغلقون قلب المدينة، حيث يقفون بين شرايينها، وجسورها، وحدائقها، وزورائها. للأسف، بغداد التي لم تُعلَّقْ نشاطاتها الثقافية يوماً ما، رغم كل فيروسات التطرف التي هيمنت عليها، لكنها بقيت فاعلة ونشطة، وفي كل يومٍ يكاد يكون هناك نشاطٌ، بين جلسة شعرية ومعرض تشكيلي، وأمسية موسيقية، أو ندوة فكرية، متنوعة بين الاتحادات، والمنظمات الأهلية، والمؤسسات الحكومية، إلا أن «كورونا» وحده من أوقف هذه النشاطات، فالجامعات مغلقة أبوابها، واتحاد الأدباء ونقابة الفنانين علَّقا نشاطاتهما في بغداد، وفي كل المحافظات، والنشاطات التي كنَّا ننتظرها في هذا الشهر كلها أُلغيت، خصوصاً أنَّ شهر مارس (آذار) نعدُّه موسم حج الشعراء والمثقفين، حيث يخضرُّ الجو، وتخضرُّ البساتين، وتخضرُّ الأرواح، ففيه «يوم الشعر العالمي» الذي يرافق يوم ولادة نزار قباني، وفيه يوم ولادة محمود درويش الذي مر سريعاً علينا، واحتفلنا به في مواقع التواصل الاجتماعي فقط. وأيام شهر مارس (آذار) هي الأقرب للروح، حيث تتخفف الروح من تعبها الشتوي، كما نتخفف من ملابسنا الثقيلة. ولكن «كورونا» بالمرصاد لكل هذه الحركة التي توقفت تماماً، وحتى تلك المظاهرات العظيمة التي أدمن الشباب الحضور فيها يومياً، ولم تمنعهم كل أسباب القوة والبطش والدخانيات من الوجود كل يوم في ساحات التظاهر، ولم تمنعهم كلُّ توسلات الساسة، أو جرَّات الأذن التي حاول بعض القيادات العراقية ممارستها عليهم. لكن «كورونا» وكأنَّها عميلٌ لدى الطبقة السياسية يغزو تلك الساحات مهدداً أرواح الشباب، فتذبل تلك الصيحات، وتقلُّ خيم المعتصمين، وتتصاعد صيحات الناشطين بالانسحاب من الساحات، حفاظاً على أرواح من تبقى من الشباب، فأي فيروس هذا الذي كسر عزيمة الواثبين والصامدين، وكأنَّه جندي من جنود الفساد لا يرى ولا يناقش ولا يسمع أحداً.
كلنا عشاق بغداد نشبه «فلورينتينو» الشاب الذي كان يعمل في التلغراف، والذي عشق فتاة ثرية تدعى «فيرمينا»، كانت ثرية جميلة في الوقت نفسه، ولكنها تركته وتزوجت طبيباً ثرياً، غير أنه أصرَّ على أنْ يكون لها في يوم من الأيام، فانتظرها خمسين عاماً، لتكون له فيما بعد، تلك كانت من أيام «الحب في زمن الكوليرا»، وها نحن ننتظر بغداد أنْ تتعافى كاملة، من فيروساتها الأشد فتكاً بكل شيء، من الفساد إلى العمالة، إلى المؤامرات، إلى التطرف، إلى الإرهاب، وحتى لحظة تعافيها، فإننا بانتظارها دائماً، وسنبحر معها حتى لو بعد خمسين عاما لأنَّها تستحق الانتظار.


مقالات ذات صلة

انقسام علمي... هل لا يزال من الضروري الاستمرار في إجراء اختبارات كوفيد؟

صحتك هناك انقسام طبي حول إلزامية الاستمرار في إجراء اختبارات كوفيد (رويترز)

انقسام علمي... هل لا يزال من الضروري الاستمرار في إجراء اختبارات كوفيد؟

تحوّل «كوفيد-19» على مر السنوات الماضية من جائحة عالمية إلى فيروس «مستوطن» وفق خبراء الصحة، ما يعني أن وجوده سيصبح مستمراً، فكيف يجب أن نتعامل معه؟

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الولايات المتحدة​ الرئيس التنفيذي لشركة «ميتا» مارك زوكربيرغ (رويترز)

زوكربيرغ: البيت الأبيض ضغط على «فيسبوك» لفرض رقابة على محتوى «كورونا»

أقر الرئيس التنفيذي لشركة «ميتا» مارك زوكربيرغ بقيام إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بالضغط على موقع «فيسبوك» لفرض رقابة على المحتوى المتعلق بجائحة كورونا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم المدير الإقليمي لـ«منظمة الصحة العالمية» في أوروبا هانس كلوغه (أرشيفية - رويترز)

«الصحة العالمية»: جدري القردة ليس وباء جديداً مثل «كوفيد»

قال المدير الإقليمي لـ«منظمة الصحة العالمية» في أوروبا، هانس كلوغه، اليوم (الثلاثاء)، إن جدري القردة ليس وباء جديداً مثل «كوفيد».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
العالم ممرضة تحضر جرعات من لقاح «كورونا» في دار للمسنين بإسبانيا (إ.ب.أ)

بريطانيا: الآلاف يطالبون بتعويضات بعد إصابتهم بمشكلات خطيرة بسبب لقاحات «كورونا»

تقدم ما يقرب من 14 ألف شخص في بريطانيا بطلبات للحصول على تعويضات من الحكومة عن الأضرار المزعومة الناجمة عن تلقيهم لقاحات «كورونا».

«الشرق الأوسط» (لندن)
آسيا كوريا الشمالية ستستأنف استقبال الزوار الأجانب اعتباراً من ديسمبر بعد فرض ضوابط صارمة منذ عام 2020 بسبب جائحة «كورونا» (أ.ف.ب)

كوريا الشمالية تستأنف استقبال الزوار الأجانب في ديسمبر

قالت شركات سياحة، اليوم (الأربعاء)، إن كوريا الشمالية ستستأنف استقبال الزوار الأجانب في مدينة سامجيون بشمال شرقي البلاد في ديسمبر المقبل.

«الشرق الأوسط» (سول)

اعتداءات على الأكاديميين اليمنيين في ذمار ونهب للأراضي

بوابة جامعة ذمار اليمنية (إكس)
بوابة جامعة ذمار اليمنية (إكس)
TT

اعتداءات على الأكاديميين اليمنيين في ذمار ونهب للأراضي

بوابة جامعة ذمار اليمنية (إكس)
بوابة جامعة ذمار اليمنية (إكس)

استقال أعضاء عمادة وهيئة التدريس في كلية العلوم التطبيقية في جامعة ذمار اليمنية بشكل جماعي بعد اعتداء نجل قيادي حوثي في الجامعة على أحد المدرسين، ورفض رئاستها المعينة من قبل الجماعة اتخاذ أي إجراءات بشأن الحادثة، وذلك بالتزامن مع نهب مساحة من الحرم الجامعي وتخصيصها للاحتفالات.

وذكرت مصادر أكاديمية في ذمار (100 كيلومتر جنوب صنعاء) أن حسن محمد الحيفي، وهو ابن القيادي الحوثي محمد الحيفي المعين رئيساً للجامعة، وطالب دراسات عليا فيها، اعتدى على الأكاديمي وليد عبد الرزاق مدير إدارة الدراسات العليا بكلية العلوم التطبيقية، وتعمد إهانة عميد الكلية ونوابه.

عمادة وهيئة التدريس في كلية العلوم التطبيقية في جامعة ذمار تقدم استقالة جماعية (إكس)

ووفقاً للمصادر، فإن رئيس الجماعة رفض الاستجابة للشكوى التي تقدمت بها هيئة التدريس في الكلية وعمادتها، بل ووجه عميد الكلية بإيقاف المدرس الذي وقع الاعتداء عليه، ووجه بتعيين عميد جديد للكلية بدلاً عنه.

ومنذ أيام أعلنت الجماعة الحوثية عبر وسائل إعلامها أنه جرى دور تسليم وتسلم بين عميد الكلية وخلفه تنفيذاً لقرار الحيفي.

إلا أن المصادر أوضحت أن العميد المقال أُجبِر على الحضور إلى مقر الكلية والتقاط الصور مع العميد الجديد وبعض القادة الحوثيين، لتمييع القضية وتمريرها أمام الرأي العام، بتجاهل تام لحادثة اعتداء ابن القيادي الحيفي على مدرسه، والإجراءات التعسفية التي اتخذها الحيفي نفسه وإساءاته للعميد والمدرسين.

وبحسب المصادر، فإنه جرى تهديد العميد المقال بتلفيق قضايا فساد له، والتعاون مع الحكومة الشرعية، وأن الحيفي حذر جميع الأكاديميين مما سماه التطاول أو تجاوز حدودهم في التعامل معه.

واستغربت الأوساط الأكاديمية في الجامعة من تجاهل القيادات الحوثية في المحافظة للواقعة، رغم توجه عدد من الأكاديميين إليها بالشكوى بعد رفض الحيفي ورئاسة الجامعة اتخاذ الإجراءات القانونية بشأن الواقعة.

نهب أراضي الجامعة

اتهم عدد من الأكاديميين القيادات الحوثية المسيطرة على محافظة ذمار، وفي مقدمتها محمد البخيتي المعين في منصب المحافظ، بالتواطؤ مع رئيس الجامعة، مرجحين تجاهله الشكوى المقدمة له بالحيفي، لما بينهما من تعاون في العديد من الملفات في إطار تنفيذ مشروع الجماعة الحوثية، ومنها ما حدث أخيراً من نهب لأراضي الجامعة.

محمد البخيتي المعين محافظاً لذمار يشارك في إحدى فعاليات جامعة ذمار بسلاحه الشخصي (إعلام حوثي)

وكان البخيتي أقدم منذ نحو شهر على اقتطاع مساحة كبيرة من أراضي جامعة ذمار، وتحويلها إلى ساحة للاحتفالات، وذلك ضمن استعدادات الجماعة للاحتفال بذكرى المولد النبوي.

وبلغت المساحة التي اقتطعها البخيتي من حرم الجامعة، أكثر من 10 آلاف لبنة (وحدة قياس محلية، واللبنة الواحدة تساوي 44.44 متر مربع)، وجاء الكشف عن هذا الإجراء بعد أيام قليلة من الكشف عن استقطاع المساحة نفسها من أراضي جامعة صنعاء، لصالح مشاريع استثمارية لقيادات حوثية.

وتؤكد مصادر محلية أن البخيتي استأذن القيادي مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى للجماعة الحوثية (مجلس الحكم الانقلابي)، في اقتطاع تلك المساحة، بحجة عدم احتياج الجامعة لها.

ووافق المشاط على طلب البخيتي موجهاً بتنفيذ إجراءات نقل ملكية تلك المساحة من الأرض من جامعة ذمار إلى السلطات الحوثية التي تشرف على المحافظة، والتي باشرت بأعمال تهيئتها لتنظيم الاحتفال بالمولد النبوي عليها.

واستنكرت شخصيات سياسية واجتماعية في محافظة ذمار واقعة اقتطاع أراضٍ تابعةٍ للجامعة لتنظيم الاحتفالات، وعدّوا التعدي على أراضي الجامعات جريمة بحق العملية التعليمية والأكاديمية.

تحجيم مساحة التعليم

تفيد المصادر الأكاديمية في ذمار بأن أراضي الجامعة التي يجرى التعدي عليها، كانت ضمن مخططات تعود إلى ما قبل الانقلاب الحوثي لتنفيذ مشاريع ومنشآت تابعة للجامعة، خصوصاً الكليات والمراكز التي ما زالت مقراتها خارج الحرم الجامعي، مثل كلية الآداب ومركز التعليم المستمر.

مبنى كلية الهندسة في جامعة ذمار (فيسبوك)

وأوضحت المصادر أنه رغم مصادرة الجماعة الحوثية لمبنيي كلية الآداب ومركز التعليم المستمر، واعتزامها تحويل مبنى كلية الحاسبات إلى أكاديمية للقرآن، وجميعها تقع وسط المدينة؛ فإنها لم تبدأ بأي إجراءات لتعويض هذه الجهات الثلاث بمنشآت داخل أراضي الحرم الجامعي، وبدلاً عن ذلك تصادر أراضي الجامعة لصالح مشروعها الطائفي.

كما تمتلك كليات الآداب والتربية والطب البشري والأسنان مباني أخرى في وسط المدينة، وكان مقرراً قبل الانقلاب أن تبدأ الجهات المعنية التخطيط لمشاريع بناء منشآت داخل أراضي الجامعة لنقل جميع الكليات إلى الحرم الجامعي.

وتخشى الأوساط الأكاديمية والاجتماعية في محافظة ذمار من أن تؤدي أعمال مصادرة مباني وأراضي الجامعة إلى الإضرار الكامل بالعملية التعليمية والأكاديمية، وتحجيم مساحتها وإمكاناتها.