«خلخلة المعادلات» مفتاح ولادة جديدة لحزب «الأصالة والمعاصرة» المغربي

بعدما عانى طويلاً من تهمة قربه من السلطة

«خلخلة المعادلات» مفتاح ولادة جديدة لحزب «الأصالة والمعاصرة» المغربي
TT

«خلخلة المعادلات» مفتاح ولادة جديدة لحزب «الأصالة والمعاصرة» المغربي

«خلخلة المعادلات» مفتاح ولادة جديدة لحزب «الأصالة والمعاصرة» المغربي

بعدما عانى طويلاً من تهمة قربه من السلطة، باعتباره أحد الأحزاب التي أنشأتها الدولة عام 2008، يتأهب حزب الأصالة والمعاصرة المغربي المعارض لدخول مرحلة جديدة. وقد تؤسس هذه المرحلة لدور أساسي محتمل له في المشهد السياسي للبلاد، في أفق الانتخابات النيابية المقررة عام 2021.
الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل الجديدة للحزب، على ما يبدو، قد بدأت بانتخاب قيادة جديدة. ومن ثم، فإن الحزب، الذي تناوب على قيادته خلال 12 سنة خمسة أمناء، هم: حسن بن عدي، ومحمد الشيخ بيد الله، ومصطفى باكوري، وإلياس العماري، وحكيم بن شماش، وجد نفسه على أعتاب ولادة جديدة مع انتخاب أمين عام جديد له خلال مؤتمره العام الرابع، الذي التأم في 9 فبراير (شباط) الحالي، ويتعلق الأمر بالمحامي عبد اللطيف وهبي، المعروف بمرجعيته اليسارية.

وعد النائب عبد اللطيف وهبي، الأمين العام الجديد لحزب «الأصالة والمعاصرة» المغربي المعارض، قبيل انتخابه بقطع علاقة حزبه بالسلطة، ليغدو حزباً مستقلاً «لا يتلقى التعليمات من فوق». كذلك، وعد وهبي بـ«تطبيع» العلاقة مع حزب «العدالة والتنمية» ذي المرجعية الإسلامية، متزعم الائتلاف الحكومي الحالي، الذي كانت قيادته تعتبر التحالف معه - خلال عهد إلياس العماري، بل حتى قبله - ضمن الخطوط الحمراء، ومن سابع المستحيلات.
للعلم، ولد «الأصالة والمعاصرة» في الأساس لـ«كبح جماح» المشروع السياسي الإسلامي بالمغرب. لكن النائب وهبي، مهندس «اللوك» الجديد للحزب، أعلن ببساطة أنه لا توجد لديه «لا خطوط حمراء ولا خضراء ولا زرقاء ولا بيضاء».
النائب السابق الروداني الشرقاوي، عضو المجلس الوطني لـ«الأصالة والمعاصرة» قال في لقاء مع «الشرق الأوسط» إن وهبي رجل سياسي قادر على أن يعطي نفساً جديداً للحزب بحكم تجربته والمسؤوليات التي تحملها كرئيس للفريق النيابي للحزب، ورئيس للجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، إلى جانب عضويته في المكتب السياسي للحزب.
وأضاف الشرقاوي، أن وهبي «يتميز بأسلوب سياسي خاص يميل إلى تبسيط الأمور بطريقة سلسة، تجعله مقبولاً من قبل شريحة كبيرة من الشعب المغربي»، مشيراً إلى أن «قوته تكمن في مزاوجته بين الأسلوب السلس والجرأة السياسية، وقدرته على خلخلة بعض المعادلات داخل الحزب التي من شأنها أن تعطيه روحاً جديدة».

- «خلخلة المعادلات»
وإذا كانت «خلخلة المعادلات» جزءاً من شخصية هذا السياسي الأمازيغي المشاكس، فإن توضيح وهبي الصريح لموقفه إزاء ما يعرف بـ«الإسلام السياسي»، الذي يجسده حزب «العدالة والتنمية» بالمغرب، قد يدخل ضمن هذه الخانة. وخلافاً للخطاب الرائج داخلياً وإقليمياً بشأن «أخونة» الأحزاب ذات المرجعية الدينية، قال القائد الجديد لأكبر حزب مغربي معارض من حيث عدد المقاعد في مجلس النواب (102 مقعد)، إن «الإسلام السياسي» أصبح يستغل «فزّاعة «في حين أن الأحزاب التي لديها رؤية دينية هي مثل باقي الأحزاب السياسية». وذهب وهبي بعيداً في موقفه، وتساءل «هل إمارة المؤمنين ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ليست إسلاماً سياسياً»؟ وأشار إلى أن «المكوّن الديني جزء من ثقافة المغرب السياسية، ويمكن توظيفه في توحيد الأمة وممارسة العمل السياسي».
غير أن تصريحات وهبي، التي أدلى بها خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده في المقر المركزي للحزب في الرباط، يوم 23 يناير (كانون الثاني) الماضي، لإعلان ترشحه لمنصب الأمين العام للحزب لم تمر مرور الكرام. إذ استغل غريمه حكيم بن شماش، الأمين العام السابق، على بعد أيام قليلة من انعقاد المؤتمر العام للحزب، ليصف قول وهبي أن «إمارة المؤمنين» شكل من أشكال الإسلام السياسي بـ«الطائشة» و«غير المسؤولة» والمخالفة للدستور، وتبرأ منها. وتابع بن شماش، إنها لا تلزم الحزب، ومن ثم، ذهب أبعد في انتقاد كلام وهبي، معتبراً أنه يحمل «مدلولات خطيرة» تحوّل بموجبها إمارة المؤمنين إلى «خصم سياسي».
في حين، توقع كثيرون أن تؤثر تصريحات وهبي على مساعيه للفوز بمنصب الأمين العام للحزب لصالح منافسيه، إلا أن ذلك لم يحدث. وبالتالي، أسقط في يد بن شماش، وظفر وهبي بقيادة الحزب، كما فازت فاطمة الزهراء المنصوري برئاسة مجلسه الوطني، وذلك بعد انسحاب منافسيهما.
يعد وهبي والمنصوري من أبرز القيادات التي أسست ما سمي بـ«تيار المستقبل»، الذي دخل خلال الأشهر الماضية في صراع حاد مع «تيار الشرعية»، الذي يمثله بن شماش وأمناء عامون سابقون للحزب. ووصل هذا الصراع إلى ردهات المحاكم، بيد أن كل ذلك أصبح الآن من الماضي.
تجدر الإشارة إلى أن المجلس الوطني للحزب أجّل انتخاب أعضاء مكتبه السياسي الجديد، في ضوء تفاقم أزمة فيروس كورونا (كوفيد – 19) وتداعيات الأزمة يوم 29 مارس (آذار) الحالي. ويسود اعتقاد بأن يرجئ اجتماع المجلس الوطني إلى وقت آخر إذا استفحل الوضع جراء انتشار «كورونا».

- إمكانات التحالف مع «العدالة والتنمية» هل هناك اتجاه للتحالف مع «العدالة والتنمية»؟
لقد استقبل قادة حزب «العدالة والتنمية» تصريحات وهبي «الودية» اتجاه حزبهم بتحفظ، بينما اهتم متتبعو الشأن السياسي المغربي أكثر بإمكانية بناء تحالف بين الحزبين الغريمين، خاصة بعد التحالف الذي قام أخيراً بينهما بمناسبة انتخاب الرئيسة الجديدة لجهة طنجة - تطوان - الحسيمة، بشمال البلاد.
هذا، وكان سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة المغربية والأمين العام لحزب «العدالة والتنمية»، قد صرح أخيراً بأنه اتصل بوهبي هاتفياً من أديس أبابا، حيث كان يشارك في قمة الاتحاد الأفريقي، عقب فوزه وهنأه بمنصبه الجديد.
ورداً على سؤال بشأن إمكانية التحالف السياسي مع هذا الحزب، قال العثماني «موقفنا من حزب الأصالة والمعاصرة ما زال ثابتاً ولم يتغير، وتغييره يحتاج إلى مناقشة ولقاء أطر الحزب»، وهو ما يعني أن العثماني ترك الباب موارباً ولم يغلقه في وجه حزب كان «العدالة والتنمية» يعتبره رمز «التحكم».
في غضون ذلك، سيلتقي وهبي مع العثماني، الاثنين المقبل، في إطار الزيارات التي سيقوم بها وهبي لقادة أحزاب الغالبية والمعارضة.
بدوره، قال سليمان العمراني، نائب الأمين العام للحزب، أخيراً، في تصريحات صحافية «إنه من السابق لأوانه الحديث عن مراجعة حزب العدالة والتنمية لموقفه من حزب الأصالة والمعاصرة». وأوضح، أن أي مراجعة «ستجرى وفق قواعد الحزب المؤسّساتية والتنظيمية».
وذكر العمراني، أن التحالف مع «الأصالة والمعاصرة» في مجلس جهة طنجة - تطوان - الحسيمة «تحالف تدبيري ومحدود في سياقه».
هنا تجدر الإشارة إلى أن تقرّب وهبي من «العدالة والتنمية» لم يكن جديداً أو أملاه عليه ترشّحه لمنصب الأمين العام؛ إذ كان لا يخفي - بحكم عمله النيابي - تقاطعه مع بعض مواقف «العدالة والتنمية»، وسبق له أن زار عبد الإله ابن كيران، رئيس الحكومة والأمين العام السابق للحزب أواخر مارس 2017 بعد إعفائه من تشكيل الحكومة.

- موقفان وقراءتان
في المقابل، لم يغيّر عدد من قادة «العدالة والتنمية» مواقفهم من «الأصالة والمعاصرة» بعد انتخاب وهبي، وظل الحزب في نظرهم «حزباً سلطوياً»، ومن ضمن هؤلاء النائب السابق عبد العزيز أفتاتي، الذي تساءل «ما الذي تغير حتى يجري الحديث عن تحالف مستقبلي مع هذا الحزب». وقال أفتاتي لـ«الشرق الأوسط»، إن الوضع «ما زال كما كان، هذا الحزب أداة للسلطوية، وإفساد للحياة السياسية والاقتصادية، ولا يمكن للأجندة التي تأسّس من أجلها أن تتغير. هذا هو مساره وخلفيته».
وأضاف أفتاتي، أن «عقد الحزب لمؤتمره لا يعني شيئاً في الحياة السياسية بالمغرب، ولا يفيد، وكأنه لم يحدث». وطالب أفتاتي بـ«التعجيل بدفن الحزب»، مشيراً إلى أن «المرحلة لم تسمح له بتنفيذ أجندته، وبالتالي عليهم أن يخلو الساحة». وزاد قائلاً: «قيادة جديدة أو قديمة، الأجندة هي هي. إنه مشروع متحكم فيه لا يملك قراره... تغير عباس وجاء فرناس.. القضية هي نفسها».
وخلافاً لموقف أفتاتي، يرى الشرقاوي، أن «السياسة فن الممكن، والخلافات لا يمكن طيها من دون طي صفحة الماضي». وأضاف، أن «التوجه نحو المستقبل لا يمكن أن يتم من دون خلق توافق كبير وتجاوز الأفكار الدوغمائية والبيزنطية، فجميع الأحزاب السياسية - في نظره - ينبغي أن تتحمل مسؤوليتها في بناء هذه المرحلة الحاسمة». ويستطرد، بأن «المغرب تجاوز مرحلة الصراع الآيديولوجي، ودخل في صراع من نوع آخر، هدفه تحقيق التنمية الحقيقية ضمن الرؤية الاستراتيجية للنهوض بالبلاد التي يقودها الملك محمد السادس».
رأي الشرقاوي لم يختلف عما جاء في برقية التهنئة التي بعثها العاهل المغربي الملك محمد السادس لوهبي بعد فوزه بأمانة الحزب. إذ نوه العاهل المغربي بكفاءته وتجربته وقدرته على تعزيز إسهام حزبه على غرار الأحزاب الوطنية الجادة في «رفع تحديات المرحلة الجديدة التي نقود المغرب لدخولها، بكل حزم وعزم، والقائمة على أسس المسؤولية والإقلاع الشامل، في حرص دائم على جعل المصالح العليا للوطن والمواطنين تسمو فوق كل اعتبار».
من جهته، يرى الكاتب والمحلل السياسي المغربي بلال التليدي، المنتمي إلى حزب «العدالة والتنمية»، أن «الذين التحقوا بهذا الحزب، وأسسوا قياداته العليا والوسيطة، ويصنعون اليوم حاضره، ويشكلون تركيبته السوسيولوجية، هم الصورة المطابقة للحزب في الواقع، ولا يمكن صناعة الحزب أو إعادة إخراجه بتجاوز لهذه الصورة. ومن ثم، فإن السؤال عن صياغة هوية جديدة، أو بناء تموقع جديد اتجاه السلطة أو اتجاه النخب، هو مجرد ترف فكري لا غير. وهو في الحقيقة خطاب للسلطة أكثر منه خطاب للداخل الحزبي».
وأردف التليدي، أن «الأصالة والمعاصرة» اليوم، يقف أمام معضلتين: الأولى مرتبطة بالدور المجتمعي، أي بالعرض السياسي الذي يمكن أن يكون ذا مصداقية لدى المجتمع. والثانية مرتبطة بالسلطة، أي العرض السياسي الذي يجعل السلطة قادرة على إعادة تقييم موقفها اتجاه دور مستقبلي له بعد نكبته في انتخابات 2016 وسقوط قيادته».
بدوره، تساءل مصطفى السحيمي، المحلل السياسي وأستاذ القانون الدستوري المغربي، عن المشروع السياسي الذي يحمله «الأصالة والمعاصرة». ورأى أن هذا الحزب «لا يملك ما يكفي من الشرعية للدفاع عن الحداثة مقارنة بأحزاب أخرى مثل الاتحاد الاشتراكي أو حزب التقدم والاشتراكية، اللذين يجران معهما مساراً تاريخياً من النضال في هذا المجال».
ويعتقد السحيمي أيضاً، أن «الأصالة والمعاصرة» ليس هو الحزب المؤهل للدفاع عن الأصالة في مواجهة أحزاب مثل: العدالة والتنمية وحزب الاستقلال والحركة الشعبية. لكن في المقابل، خلافاً لهذا الرأي، يرى الشرقاوي أن «الأصالة والمعاصرة» عاش بعض المشاكل كباقي الأحزاب السياسية، إلا أنه لا يمكن القول بأنه غير قادر على لعب دور في المستقبل وقوته تكمن في المشروع السياسي الذي يحمله، والذي يجعل المواطن في صلب التصور المجتمعي للحزب.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.