تلهيج الفضاء العام

يزعزع أركان النظام الثقافي ذاته وليس النظام اللغوي وحسب

تلهيج الفضاء العام
TT

تلهيج الفضاء العام

تلهيج الفضاء العام

عندما تتواصل معنا شركات الهواتف الجوالة أو شركات إيصال الطعام والبريد باللهجة الدارجة عبر الرسائل النصية، فإنها لا تقترح علينا لغة تواصلية مبسطة لتفادي التعقيد وسوء الفهم الذي قد ينشأ بسبب استخدام اللغة العربية المعيارية المقعّدة، بقدر ما تفرض علينا نظاماً لغوياً نفعياً بالدرجة الأولى يتجاهل جماليات اللغة وظلالها التعبيرية، بمعنى الاكتفاء بالبعد الوظيفي للكلمات دون ارتداداتها الدلالية. وهو منحى يقوم في جوهره على الإبدال الثقافي، أي تلهيج الفضاء العام عوضاً عن فصاحة التواصل. ويعود هذا النهج إلى اللحظة التي ابتدعت فيها الفضائيات العربية ذلك الخطاب بأنماط لهجوية محلية مختلفة في إطار تغيير مواضعات إنتاج اللغة التي تعمل عنصراً بنائياً لأي مجتمع. الأمر الذي يزعزع أركان النظام الثقافي ذاته وليس النظام اللغوي وحسب.
اللغة ليست مجرد ألفاظ، بل هي عملية تفكير في المقام الأول تمثل الذات إزاء الوجود، بالنظر إلى كونها أداة لإنتاج المعرفة، لدرجة أن فريديناند دي سوسير يميل إلى الاعتقاد بأن اللسان مؤسسة اجتماعية، على اعتبار أن اللغة هي مستودع خبرات المجتمع الثقافية والدينية والطقسية، وبمجرد تقليص نظام علاماتها والحد من طاقتها الاستعارية تبطل مفاعيلها الفكرية والجمالية. وهذا هو بالتحديد ما تؤديه اللهجات الدارجة في توحشها واستئثارها بالفضاء العام، من حيث تأكيد سلطتها كأداة تفكير وتعبير، أي كغطاء لكل ما يمت للإنسان العربي بصلة، ليس على مستوى إنتاج المعرفة وتلقيها وحسب، بل حتى على مستوى الأداء الفني وما يتداعى عنه من جماليات.
إن الإصرار على استخدام اللهجات الدارجة في البرامج التلفزيونية شكل من أشكال التبشير بصيغة حياتية مغايرة تصل إلى حد الانقلاب على رؤية الوجود، أكثر من كونه مجرد حالة من التباسط اللغوي والاستجابة لشروط لحظة الميديا، لأن هذا الإبدال الثقافي إنما يشي بمشروع ثقافي مجتمعي سياسي تظهر أقل مساوئه في تدمير ما يبنيه النظام التربوي التعليمي. وهذا مجرد عرض بسيط جراء ما يحدث في عمق البناءات الوجدانية والفكرية للفرد والمجتمع، فلكل مجتمع نصوصه الثقافية والسياسية والاجتماعية وعندما تزيد جرعة النصوص المعروضة باللهجة الدارجة عن الحاجة يرتفع منسوب الخطر على السرديات التي تشكل هوية المجتمع.
عندما تخاطب الفضائيات الناس بلهجة دارجة بحجة أنها تقدم خدمة لمشاهدين عاديين ومواطنين وليس لمثقفين، فإنها تتعمد ارتكاب مغالطات مفهومية صريحة، فالخدمات الحياتية اليومية لا تشترط لغة أدبية رفيعة بقدر ما تتطلب لغة تواصلية مفهومة. وهذا ما يعزز المقاصد الاستهلاكية في تعميم اللهجات الدارجة، باعتبارها أداة غرائزية تجيد التعامل مع نداءات الحواس، كما يبدو ذلك على درجة من الوضوح في الإعلانات التجارية المصممة بإغواء بصري وبلغة محكية ذات وقع سحري يتقن تدبيره خبراء في التأثير على المتلقي. فهي لغة تعتمد على محاكاة لغة الشارع ومباسطات المجالس، وأبعد ما تكون عن لكنة الكتب والتماعات الثقافة أو عناوين الحياة الكبرى الآخذة بالتساقط على إيقاع صعود اللهجات ذات المرامي الاستهلاكية.
النخبة تتعرض للإماتة بأشكال وأدوات مختلفة، وفي هذا السياق يمكن التعامل مع ظاهرة تلهيج الفضاء العام. يساعدها في ذلك وسائط الميديا المحتلة بما بات يُعرف بالإنسان الرقمي الذيِ يميل إلى الترفيه والتسلية وإطلاق التعليقات اللامسؤولة عوضاً عن إنتاج الثقافة، وذلك لا يمكن أن يتأتى إلا داخل اللغة باعتبارها ركناً من أركان الجهاز المفاهيمي للفرد، وهي هنا في هذا المقام مجرد لهجة غير منضبطة على أي مستوى نحوي أو بلاغي أو حتى أخلاقي. وذلك في ظل وجود هوس بأن يتحول كل فرد إلى صانع رسالة وعدم اكتفائه بموقع المتلقي، وهؤلاء هم للأسف الذين تستقطبهم شركات الخدمات والفضائيات لتقديم خدمات التواصل سواء مذيعين لبرامج الاستعراض الخفيفة أو مخلّقين لرسائل التواصل مع العملاء، وهو الأمر الذي يحبس الفرد في دوامة اليومي بكل حمولاته الأدائية.
خفة الرسالة المفرغة من مكنوناتها الثقافية، المحمولة على خطاب لهجوي، لا تعكس هشاشة المؤسسة أو المرسل الذي دفعها في الفضاء العام وحسب، بل تشير إلى رداءة الوسائل وبؤس التلقي، حيث تشكل هذه الدائرة نظاماً ثقافياً محكم البناء يتخذ من اللهجة الدارجة أداته لتسطيح الإحساس بالوجود، خصوصاً تلك الرسائل المراهنة على الأبعاد الحسّية، التي تتعامل مع اللهجة من دون ضوابط أخلاقية، حيث لُوحظ ذلك التمادي في منظومة من الرسائل ذات المضامين والإيحاءات الجنسية؛ سواء في إعلانات الشوارع أو في خطاب الشاشات، وهو أمر متوقع لأن اللهجة تعمل في الخطابات السردية بمفهوم باختين بمثابة لغة القاع الاجتماعي، وهو المحل الذي تنطمس فيه كل وسائل التشفير. وهذا هو ما حدث بالفعل عندما نُقلت لغة القاع عبر قنوات الحداثة وما بعدها إلى مجمل منصات التواصل.
محاولة الحد من ظاهرة تلهيج الفضاء العام ليست ضرباً من ضروب إرهاب الطليعة، بقدر ما هي مراودة لفحص فحوى وشكل التبليغ الجمالي، بما هو الأُس الذي يقوم عليه أي نظام ثقافي، فالعالم ينبني بالكلمات المحقونة بالمعاني بالقدر ذاته الذي يتأسس فيه على الماديات. وبالتالي فإن هذه الكلمات التي تُنسج بها النصوص السياسية والاجتماعية والدينية والأخلاقية، تتجاوز كونها مجرد مصفوفات لفظية إلى أفق التفكير في الوجود وبنائه. وعليه يمكن تصور شكل وهوية المجتمع الذي يحتكم إلى لهجة منفلتة من كل الالتزامات ومتخففة من أي إرادة بنائية، وهذا هو بالتحديد ما يفسر مراودات الذات المستنقعة في النظام اللهجوي الجديد بتدمير كل معاني الحياة وإعلاء قيم الاستهلاك والسخرية المعلنة من كل ما هو جاد وبليغ ورصين، لأن هذه الذات المضطربة مكثت أكثر مما ينبغي في معبد النظام الثقافي المستخف بالحياة، وصارت تفكر داخل تلك اللهجة المسطحة وبها.
الآيديولوجيا أيضاً بما هي إحدى ركائز النظام الثقافي القديم، وما يتداعى عنها من عناوين قومية كبرى صارت تتفكك في متوالية الإماتات المعلنة، وهكذا جاءت الميديا وعبر توحش اللهجات لتقضي على ما كان يُعرف سياسياً باللغة المتخشبة، حيث صارت الخطابات السياسية للزعماء والمحللين والمفكرين تؤدى على الملأ بشعبوانية قوامها اللهجة الدارجة. بمعنى الاتكاء على لغة/لهجة تبسيطية قادرة على تسطيح كل شيء كالأفكار والعلاقات والأحاسيس وحتى الأحلام حد تفريغها من معانيها، والارتداد بالوعي إلى درجة الصفر، حيث الكلام الذي يتموضع في مرتبة أقل من اللغة بالمفهوم الفلسفي، وذلك عبر خديعة المشاركة التي تضع الفرد في حفلة جماعية صاخبة من دون عمق ولا فرادة. وبهذا تنتفي عن اللغة في بعدها اللهجوي كونها رؤية أو فعل تسمية لا تقبل الحياد إزاء الوجود.
هكذا يبدو تلهيج الفضاء العام عرضاً من أعراض ارتدادات ما بعد الحداثة، حيث التعامل مع كل ما هو فلكلوري أو شعبي كمنتج ثقافي، لدرجة الإقرار بثقافية السوقي. وهو أمر يبدو على درجة من الوضوح في الاعتراف بشقي القاموس لكل اللهجات: المتحضر الذي يحيل إلى المكانة الاجتماعية للمتكلم والمستقبل، وكذلك السوقي الذي يشير إلى الشيء ذاته، ولكن بكلمات ذات مدلول تعبيري محدود ومباشر حد الفجاجة. بمعنى حضور الذات عبر تمثيلات ذهنية سطحية تؤكد الاستلاب اللغوي، كأن هذه الذات لا تمتلك ما يستحق أن تشارك به الآخرين، وبذلك يتقلص عندها دور اللغة إلى مستوى اللهجة. أجل، اللهجة التي تخلق حقلها الدلالي المسطح لتلبي حاجات الفرد الأولية.
- ناقد سعودي



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر بيت الفلسفة بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، هو أول مؤتمر من نوعه في العالم العربي ويشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً من تعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة مثل الفلسفة والأدب والعلوم.

ويتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطور الفكر المعاصر.

الدكتور عبد الله الغذامي (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويسعى المتحدثون من خلال هذا الحدث إلى تقديم رؤى نقدية بناءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي ومفاهيم مثل «نقد النقد» وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

وتسعى دورة المؤتمر لهذا العام لأن تصبح منصة غنية للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش، حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

ويأتي المؤتمر في ظل الاحتفال بـ«اليوم العالمي للفلسفة» الذي يصادف الخميس 21 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، والذي أعلن من قبل «اليونيسكو»، ويحتفل به كل ثالث يوم خميس من شهر نوفمبر، وتم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر 2002.

أجندة المؤتمر

وعلى مدى ثلاثة أيام، تضم أجندة مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة؛ عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتتح اليوم بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد بيت الفلسفة، وكلمة لأمين عام الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتتضمن أجندة اليوم الأول 4 جلسات: ضمت «الجلسة الأولى» محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

كما ضمت الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أمّا الجلسة الثالثة، فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما تضم الجلسة الرابعة، محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، ويرأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما تضم أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

الدكتور أحمد البرقاوي عميد بيت الفلسفة (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويتكون برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر 2024) من ثلاث جلسات، تضم الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، ويرأس الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وتضم الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، ويرأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وتضم الجلسة الثالثة، محاضرة الدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم إي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

ويتكون برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تتناول الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي على طلاب الصف الخامس» تشارك فيها شيخة الشرقي، وداليا التونسي، والدكتور عماد الزهراني.

وتشهد الجلسة الثانية، اجتماع حلقة الفجيرة الفلسفية ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.