مخاوف في الهند من الثمنين السياسي والاقتصادي لأعمال العنف الأخيرة

هل يواصل اليمين الهندوسي الحاكم تجاهل عواقب خطابه الطائفي؟

مخاوف في الهند من الثمنين السياسي والاقتصادي لأعمال العنف الأخيرة
TT

مخاوف في الهند من الثمنين السياسي والاقتصادي لأعمال العنف الأخيرة

مخاوف في الهند من الثمنين السياسي والاقتصادي لأعمال العنف الأخيرة

عبر ثلاثة أيام من الفوضى، وسقوط أكثر من 48 قتيلاً، مع الخسائر المادية بملايين الروبيات، شهدت العاصمة الهندية دلهي واحدة من أسوأ أعمال العنف والشغب المجتمعية في الآونة الأخيرة. إذ اندلعت أعمال شغب عنيفة بين الهندوس والمسلمين على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام المحلية والعالمية، حال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الرسمية إلى البلاد. وأثناء جلوس الرئيس الأميركي على مأدبة الغداء مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، في مقر الرئاسة الهندية، كان المواطنون الهندوس والمسلمون يتضاربون ويطلقون الرصاص على بعضهم البعض في الشوارع، على مسافة لا تزيد أكثر من 15 كيلو متراً من مبنى وزارة الداخلية، في حين عانى الأبرياء أشد المعاناة في محاولات الدفاع عن منازلهم ومصالحهم وأعمالهم التجارية من الحرائق واللصوص.
مضى أسبوع كامل منذ بدء اندلاع أعمال العنف والشغب في شمال شرقي العاصمة الهندية دلهي - وما تبقى بعد المواجهات عبارة عن حفنة من المواطنين المرعوبين، والحارات والأزقة المحترقة، والمنازل والمتاجر المهجورة، وهدوء مشوب بعدم الاستقرار، مع مستقبل يكتنفه الكثير من الشك والقلق الذي يتجلّى في صمت مطبق عما شوهد في تلك المناطق من عنف وشغب وحرق وسفك للدماء على نطاق مجتمعي غير مسبوق.
لقد أشاع المسلحون من الدهماء أعمال العنف والشغب في مساحات شاسعة من شمال شرقي العاصمة. وبعضهم كان يتخفى وراء أقنعة الوجوه، وحمل معظمهم مختلف أنواع الأسلحة ما بين الأبيض منها والناري، فضلاً عن القضبان الحديدية أو ما شابه مما يمكن القتل به أو إحداث الإصابات. وتصاعدت أعمدة الدخان، واندفع الغوغاء بين مختلف الشوارع، بلا ضابط أو رقيب، يحرقون المتاجر، ويقذفون بالحجارة، ويهددون الأبرياء من السكان المحليين. وأفادت بعض المستشفيات بإصابة أكثر من 200 مواطن، من بينهم 48 فرداً من قوات شرطة مكافحة الشغب، فضلاً عن إصابة نصف ذلك العدد من المدنيين بجروح ناجمة عن الطلقات النارية العشوائية.
المآسي عديدة لعائلات فقدت أفراداً منها من الجانبين، وفي المقابل، تمكن كثيرون من النجاة بأعجوبة من أعمال العنف المريعة. مع العلم أن غالبية أعمال الشغب وقعت في محيط لا يتجاوز 5 كيلومترات مربعة في شمال شرقي العاصمة، على مسافة تبعد حوالي 15 كيلومتراً من مقر وزارة الداخلية، ونحو 10 كيلومترات أخرى من مقر شرطة العاصمة دلهي.
وفي حين لم يجر الإبلاغ عن أي حوادث غريبة في العديد من الأحياء والمناطق التي اجتاحتها أعمال العنف والشغب حتى الآن، فإن الصمت الشديد المطبق لا يزال يطارد الجميع. وفي حي شيف فيهار، وهو من أكثر المناطق تضرراً بأعمال العنف، كانت الحارات والأزقة شبه مهجورة من المارة وأغلب المنازل خاوية من السكان تقريباً. وفي حي مصطفى آباد، كان الناس أكثر حذراً وخوفاً من الخروج ومغادرة منازلهم حتى الآن.
وحتى وقت إعداد هذا التقرير، وعلى الرغم من الإعلان رسمياً عن سقوط 48 قتيلاً في أعمال العنف الأخيرة، ما زالت السلطات تستخرج جثثاً مجهولة الهوية من مختلف الخنادق ومجاري الصرف الصحي، بعدما تخلص الجناة منها هناك في أعقاب جرائم القتل المروعة.
هذا، وتخدم شبكة الصرف الصحي في شمال شرقي دلهي العديد من الأغراض. وهي بالنسبة للبعض وسيلة أكثر إراحة للتخلص من القمامة المنزلية، وللبعض الآخر من العلامات الجغرافية التي تعين زوار المرة الأولى للمنطقة في التعرف على والتنقل بين متاهة الممرات المتشابكة. ولكن تصدّرت شبكة الصرف الصحي المحلية مختلف العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام لسبب مختلف تماماً، إذ جرى انتشال 11 جثة مجهولة الهوية حتى الآن لأشخاص يرجح أنهم قتلوا خلال الأيام الخمسة الماضية، وذلك وفقاً لتقارير مختلف المستشفيات والإدارة المحلية هناك.

جذور موجة العنف
غُرست بذور الاستياء الأولى إثر إقرار الحكومة الهندية اليمينية، بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، قانوناً جديداً يحمل مسمى «قانون تعديل المواطنة». وهذا القانون يتيح لأبناء طوائف الهندوس والسيخ، والبوذيين والبارسيين والمسيحيين ممّن يتعرّضون للاضطهاد على أسس دينية في البلدان الإسلامية المجاورة الثلاث باكستان وأفغانستان وبنغلاديش - باستثناء المسلمين - وممن تمكنوا من الوصول إلى الهند قبل عام 2014، الحصول على الجنسية الهندية الكاملة.
واندلعت موجات الاحتجاجات المعارضة لـ«قانون تعديل المواطنة» الجديد منذ منتصف ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، ترافقاً مع ربط القانون الجديد مع تحديث «السجل السكاني الوطني» وتحضير «السجل الوطني للمواطنين» في البلاد. وكان السرد العام الذي أزعج، وربما أربك كثيرين، أن الجمع بين «قانون تعديل المواطنة»، و«السجل السكاني الوطني»، و«السجل الوطني للمواطنين» كان معداً في الأساس لاستهداف المسلمين من سكان الهند.
على الأثر، خرجت الحكومة الهندية بـ«توضيح» للموقف، ثم اتخذت خطوة للوراء عن موقفها الأول بشأن كل من «السجل السكاني الوطني»، و«السجل الوطني للمواطنين». غير أن ذلك لم يسفر عن أثر يُذكر على حركة الاحتجاجات الداخلية، التي واصلت المطالبة بضرورة وقف العمل بـ«قانون تعديل المواطنة». والحال أن كثيرين من مسلمي الهند - البالغ عددهم نحو 200 مليون نسمة - أن القانون الجديد مُعادٍ للمسلمين بالدرجة الأولى. بل يقول خبراء دستوريون إنها المرة الأولى في تاريخ الهند التي تصدر فيها الحكومة الاتحادية قانوناً يميز بين المواطنين على أساس الدين، وهذا يعد انتهاكاً صارخاً وفجاً لالتزام الهند بالمساواة بين طوائفها.
ثم إن ثمة قدراً كبيراً من المخاوف المتزايدة بين التقدميين الهنود وأبناء الطوائف غير الهندوسية بأن مودي، رئيس الوزراء القومي الهندوسي المتشدد، يحاول تفكيك تقاليد العلمانية الهندية الراسخة مع تحويل البلاد إلى دولة دينية وموطناً للهندوس في المقام الأول. وحقاً، يؤيد كثرة من أنصار مودي الهندوس اليمينيين تلك التحركات القومية. وللعلم، فإن مودي نفسه جاء من خلفية آيديولوجية تشدد على تفوق العنصر الهندوسي على ما سواه من الطوائف الأخرى في البلاد. ولكن، في المقابل، يعارض مودي أيضاً كثيرون من الهندوس الذين يريدون المحافظة على علمانية البلاد، تماماً على النحو الذي أراده لها مؤسّسها الأول المهاتما غاندي.
حتى اللحظة، رفضت الحكومة الهندية سحب القانون الجديد. ولقد استمرت حالة الجمود مع انعدام قنوات الاتصال النشطة والفعالة بين المتظاهرين والحكومة. وعلى مدى الشهور الماضية كانت الضغوط وكذلك الاحتقان الشعبي في غليان مستمر، مع تصاعد التوترات الاجتماعية في كل مكان، مدفوعة جزئياً بحملة الانتخابات «المسمومة» للبرلمان المحلي في دلهي التي عقدت في فبراير (شباط) الماضي. ولقد اندلعت أعمال العنف الجزئية داخل وفي محيط «الجمعية الملية الإسلامية» و«جامعة عليكرة الإسلامية»، احتجاجاً على «قانون تعديل المواطنة» الجديد.

المدى والتوقيت المريب
لم يقتصر الأمر على دلهي وحدها. إذ توسع التوتر في أجزاء أخرى من البلاد أيضاً. وكانت الخطب النارية الاستفزازية والدموية تنطلق في مختلف أرجاء الهند على ألسنة زعماء الهندوس والمسلمين، لتشعل مشاعر العداء والحقد والكراهية بين جموع الجماهير من أبناء الطائفتين. ومجرد التصوّر أن الحكومة الاتحادية ما كانت تتوقع اندلاع المواجهات كان من الأمور المحيرة والمربكة للغاية، إذ كانت الأجهزة الحكومية في غفلة من أمرها، ربما عن عمد أو لغير ذلك من الأغراض. كذلك، فإن وقوع هذه المواجهات العنيفة إبان الزيارة الرسمية لرئيس الولايات المتحدة الأميركية، من الأمور المحيرة أيضاً للغاية. فآخر ما كانت تريده الحكومة الهندية الحالية هو تشويه المناسبة الاحتفالية الرسمية بالنعرات والتصرفات المزرية وأعمال العنف الديني في شوارع العاصمة.
بالمناسبة، ترتبط دلهي، كونها العاصمة الوطنية للهند، بنظام معقّد من السيطرة الحكومية المزدوجة. إذ بينما لديها حكومة كـ«حكومة ولاية»، لكن سلطات هذه الحكومة محدودة للغاية، بينما جُل السلطات الحقيقية، بما في ذلك سيادة القانون والنظام العام، بأيادي الحكومة الاتحادية عبر وزارة الداخلية. وراهناً، يشغل منصب وزير الداخلية الاتحادي آميت شاه، الذي هو أحد أوثق المقربين من رئيس الوزراء ناريندرا مودي، كما أنه رئيس أسبق لحزب «بهاراتيا جاناتا» الهندوسي الحاكم. بيد أن الوزارة تدير شؤون العاصمة عبر مكتب نائب الحاكم، وهو مسؤول يعين تعييناً ولا يُنتخَب.
وخلال يومين من أيام أعمال العنف الثلاثة، كان آميت شاه منشغلاً بالإشراف على ترتيبات زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلى معقله ومعقل مودي السياسي ولاية غُجَرات. وفعلاً، انتقلت الحكومة الاتحادية بأسرها إلى مدينة أحمد آباد (كبرى مدن غُجَرات)، حيث كان مقرراً للرئيس ترمب ورئيس الوزراء مودي أن يتكلما في اجتماع سياسي حاشد في 24 فبراير الماضي. وقال أحد المسؤولين المطلعين على مجريات الأمور «نعم، كنا نتوقع اندلاع المزيد من الاحتجاجات ضد قانون تعديل المواطنة أثناء زيارة الرئيس الأميركي، لكننا لم نفشل في توقع شدة العنف فحسب، بل تغافلنا عن إشارات كانت واضحة لاحتمالات العنف الدموي الوشيك».
أعمال العنف اندلعت يوم الأحد 23 فبراير، أي قبيل وصول ترمب، واندفع المتظاهرون في شمال شرقي دلهي على نحو مفاجئ، واحتشدوا حول محطة مترو جفر آباد، ثم احتلوا طريقاً رئيسية، وأغلقوا حركة المرور هناك. واشتعلت المظاهرات - تتقدمها النساء - في غفلة من شرطة المدينة، التي سرعان ما استفاقت لمواجهة الوضع، مع خشيتهم من أن تؤدي محاولات التفريق القسري للمتظاهرين إلى تفاقم العنف والشغب قبل زيارة الرئيس الأميركي.
وتفاقمت الأوضاع تلك الليلة إثر وصول كابيل ميشرا - وهو قيادي في حزب «بهاراتيا جاناتا» كان قد خسر في انتخابات ولاية دلهي الأخيرة - وقيادته جموعاً من الغوغاء في جفر آباد، وتهديده المتظاهرين والشرطة. وفي مقطع للفيديو نشره على «تويتر»، هدد ميشرا المتظاهرين والشرطة، وحذر من اتخاذ إجراءات عنيفة إن لم يتفرّق المتظاهرون خلال ثلاث ساعات على الأكثر. وشوهدت قوات الشرطة في ذلك الفيديو تقف إلى جانبه وهو يتفوه بتحذيراته تلك. وبعد بضع ساعات، توافدت جموع مسلحة على المنطقة، بينما كانت قوات الشرطة في وادٍ آخر تماماً.
الصحافي راجديب سارديساي، قال معلقاً: «هذا عصر الغوغاء الذين يستغلون منصّات التواصل الاجتماعية في تضخيم أصواتهم ودعاويهم الفجة. وفي دلهي، أتقن سياسي هامشي مثل كابيل ميشرا فنون تصدّر عناوين الأخبار من خلال التصريحات الاستفزازية». وتابع: «ميشرا متهمٌ بإشعال نيران العنف التي اجتاحت جزءاً من العاصمة الوطنية عن طريق تهديده المتظاهرين المعارضين لقانون تعديل المواطنة في الشوارع، إما بالانسحاب الفوري، أو مواجهة العواقب الوخيمة. وكان نفسه قد وصف انتخابات دلهي المحلية بأنها (معركة الهند ضد باكستان)، في إشارة فئوية فاقعة غايتها بث الكراهية لكسب مزيد من الأصوات في الانتخابات التي خسرها عن جدارة. والآن يجب محاسبته على دوره المشؤوم المزري في أحداث العنف التي شهدتها العاصمة».
ولكن كابيل ميشرا، لم يكن وحده عنصر تأجيج لأحداث العنف الأخيرة. ففي الأسبوع الماضي، حذّر وارث باثان، وهو قيادي محلي في «مجلس اتحاد المسلمين في عموم الهند» بمدينة مومباي، من أن «150 مليون مسلم هندي يستطيعون التغلب على مليار هندوسي» في سياق الاحتجاجات الرامية إلى إسقاط «قانون تعديل المواطنة».
والحقيقة أن المخاوف الحقيقية هي في أن تكون أحداث العنف في دلهي مجرد شرارة البداية تنتشر بعدها أعمال عنف وشغب مماثلة في أماكن أخرى من الهند، لا سيما، أنه لا مؤشرات على أن الحزب الهندوسي الحاكم قد استفاد من دروس الماضي، أو أنه رغب فعلياً في ردم الهوة الدينية المتسعة. فهو لو كان راغباً حقاً بذلك، لكان أخرس ألسنة أمثال كابيل ميشرا بدلاً من إتاحة المجال أمامه، بل وإضفاء الشرعية على خطاباته السامة. ولكن إذا كان ينوي ردم الهوة، فعليه أن يشرع في حوار مع المتظاهرين بدلاً من إقصائهم ونبذهم. إن سياسات الكراهية المضادة للمسلمين ربما ترسخ من قاعدة التأييد الهندوسي لـ«بهاراتيا جاناتا» حالياً، لكنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى حالة استقطاب خطيرة إن شاعت بين أوصال المجتمع قد تقضي نهائياً على اللحمة الوطنية.

مؤشرات خطر أمام مودي

هناك العديد مما يجب أن يُشعر حكومة ناريندرا مودي بالقلق، على رأسها تشويه «العلامة الوطنية» للهند كدولة علمانية ديمقراطية. هذا سيؤثر سلباً على الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تمس صميم الحاجة إلى إنعاش الاقتصاد الهندي الراكد وتعزيز آفاق النمو. لقد كانت أغلب وسائل الإعلام العالمية حاضرة في نيودلهي لتغطية زيارة الرئيس ترمب الرسمية. ومع ذلك، وبدلاً من مظاهر الأبهة التي استعان بها مودي لإبهار الرئيس الأميركي وبقية دول العالم، صارت أعمال العنف في العاصمة محط الاهتمام الدولي آنذاك. وبدت الهند دولة غارقة في الفوضى والاضطراب الاجتماعي، وفي شوارع على بعد بضعة كيلومترات فقط من المكان الذي شهد اجتماعات الزعيمين الكبيرين. وهذا يحدث بينما يحاول المساعدون والمستشارون الحكوميون العثور على الطرق والوسائل الممكنة لاحتواء الضرر. وتنشغل العديد من الإدارات الحكومية في سلسلة مستمرة من الاجتماعات اليومية لمناقشة الخطوات المزمع اتخاذها في المرحلة المقبلة. ولكن لم تظهر للعلن بعد أي خطة عمل واضحة بعد.
الصحافية الهندية آرتي جيراث قالت، «لا بد أن يستشعر مودي القلق الشديد على انهيار الجهد الذي بذله خلال فترة ولايته الأولى لبناء صورته دولياً، وحيازة القبول العالمي كزعيم تُحسب له الحسابات. أي مستثمر يرغب في ضخ أمواله في دولة تشهد شوارع عاصمتها أعمال عنف طائفية دينية إبان زيارة رسمية لرئيس دولة أجنبية كبيرة ومؤثرة؟ وأي ثقة يُمكن أن توضع في دولة تنهار أجهزتها الإدارية، وتثير عناصر حزبها الحاكم مشاعر الحقد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد؟».
أيضاً ترى الصحافية الهندية المخضرمة تافلين سينغ، في تعليقها على الأحداث، «لقد تعرّضت صورة ناريندرا مودي كرجل دولة للاهتزاز الشديد، ولا يتحمل أحد اللوم سواه. ولا نقول هذا عن أعمال العنف الرهيبة في دلهي فحسب، وإنما عن خطابات الكراهية التي سمح مودي لكبار رجال دولته بإلقائها في مختلف المناسبات. كانت خطابات الكراهية السبب الرئيس في اندلاع العنف، ومعها بدأ المسلمون يشعرون بالغربة في وطنهم إبان ولاية مودي الأولى... شخصياً، لا أذكر فترة كانت فيها التوترات الطائفية بين الهندوس والمسلمين أكثر اشتعالاً مما هي عليه الآن. والسبب أنه في (الهند الجديدة) يعتقد الرجال والنساء الهندوس المفعمون بالكراهية ضد المسلمين أنهم يملكون الضوء الأخضر من زعماء الهند لمعاملة مسلميها كمواطنين من الدرجة الثانية».
وأردفت: «إن رئيس الوزراء، على اعتباره بطلهم، وحده يستطيع وقف حملة الكراهية الشديدة التي عصفت بمكانته الشخصية على المستويين المحلي والدولي. ومن المهم فعل ذلك بسرعة، لأنه ليس من الجيد أبداً بالنسبة للهند كدولة كبيرة أن تظل طائفة تبلغ 200 مليون نسمة من مواطنيها في حالة من العزلة والإقصاء المستمرين».

فتش عن «قانون تعديل المواطنة»
> علّقت الصحافية الهندية فرح نقوي، في أعقاب أعمال الشغب في دلهي، «كان من المهم قبل اندلاع أعمال العنف الأخيرة النظر في ومراجعة تداعيات القانون الطائفي الجديد من قبل (التحالف التقدمي الهندي المتحد)، قبل أن يحول إلى قانون نافذ المفعول. الهند في أمسّ الحاجة إلى قانون يتعامل مع جريمة نشر الكراهية. كما تحتاج البلاد إلى قانون ينص على معاقبة الأشخاص الذين يتقاعسون عن إجراءات اللازمة لمنع وقوع أعمال الشغب المجتمعية والتصرف بأسلوب صحيح فور وقوعها. وفي اللحظة الراهنة، نترك الأمر برمته إلى الضمير الأخلاقي للحكومات. ولا بد أن يصير الأمر من المتطلبات القانونية التي لا محيد عنها بحال».
وترى نقوي أن الاحتجاجات على «قانون تعديل المواطنة» من التحولات المهمة جداً في الهند، وأن الباب الذي أُوصد قسراً في وجه المسلمين يحاولون الآن فتحه عنوة وبكل قوة. وهم يؤكدون على هويتهم كمواطنين كاملي المواطنة في الهند، مع التأكيد على جنسيتهم وكل حقوقهم الدستورية الأخرى.

أعمال عنف... أم أكثر؟!
> ثار جدل حول ما إذا كان ينبغي توصيف الأحداث التي شهدتها العاصمة في الأسبوع الماضي على أنها من أعمال الشغب أو أمر أكثر خطورة - ربما «مذبحة مدبرة» مثلاً. وتعتبر «المذابح المدبرة» درجة خاصة من أعمال الشغب التي تتجاوز مجرد الصدام المؤقت بين جماعتين من المتعارضين. بدلاً من ذلك، تناصر قوات الشرطة إحدى الجماعات، إما عن طريق غض الطرف تماماً، أو عن طريق التحريض غير المباشر، أو ربما المشاركة المباشرة في أعمال العنف في بعض الأحيان. ويكمن الاختلاف بين أعمال الشغب و«المذابح المدبرة» في تصرفات الدولة نفسها - من خلال أفعال قوات الشرطة خلال الأحداث. وبدأ مصطلح «المذابح المدبرة» في الظهور إبان روسيا القيصرية مع إطلاق المذابح المروّعة ضد اليهود الروس.
وهنا يقول الكاتب رافي أغاروال، «يُعتقد أن أعمال الشغب بين الهندوس والمسلمين في العاصمة دلهي خلال الأسبوع الماضي تحمل بعض السمات المميزة للمذابح المدبرة. ولقد شهدت الهند مثل تلك الأعمال من قبل: ففي عام 2002، في ولاية غُجَرات، عندما كان مودي يشغل منصب رئيس وزراء الولاية، سقط أكثر من 1000 قتيل في أعمال شغب دينية، معظمهم من المسلمين. ومع تبرئة ساحة مودي حينذاك من ارتكاب أي مخالفات من قبل القضاء، قال النقاد إنه كان بإمكانه فعل الكثير للحؤول دون وقوع الهجمات».
ومرة أخرى سابقة في عام 1984، في العاصمة دلهي، جرى استهداف وقتل أكثر من 3 آلاف من طائفة السيخ في أعقاب حادثة اغتيال رئيسة الوزراء أنديرا غاندي، على أيدي حراسها الشخصيين من السيخ. وفي كلتا الحالتين - حسب الخبراء - ما كان ممكناً اندلاع أعمال الشغب من دون تواطؤ واضح من جانب قوات الشرطة الحاضرة.
في أي حال، أكدت شرطة العاصمة دلهي أن هذه هي أول أعمال الشغب التي تندلع بين الهندوس والمسلمين باستخدام واسع النطاق لمختلف الأسلحة. وذكرت مصادر في الشرطة «أن مثل هذا الاستخدام الكبير للأسلحة النارية، لا سيما الأسلحة المصنعة محلياً، يعكس بوضوح أن الناس كدّسوا مسبقاً هذه الأسلحة قبل اندلاع الأحداث».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.