النقوش الشاهدية في السعودية... مكة «مكتبة العالم»

أنفس الآثار تعود إلى بواكير القرن الأول الهجري

متاحف سعودية تحتضن عدداً كبيراً من النقوش
متاحف سعودية تحتضن عدداً كبيراً من النقوش
TT

النقوش الشاهدية في السعودية... مكة «مكتبة العالم»

متاحف سعودية تحتضن عدداً كبيراً من النقوش
متاحف سعودية تحتضن عدداً كبيراً من النقوش

يزخر عدد من متاحف السعودية بنوع من أجمل القطع الأثرية وأكثرها قيمة وهي النقوش الشاهدية المحفورة على شواهد القبور، وتمثل هذه النقوش والكتابات قطعا من أنفس الآثار السعودية التي تعود إلى بواكير القرن الأول الهجري.
يقول عالم الآثار السعودي الدكتور أحمد الزيلعي في بحث له بعنوان الكتابات والنقوش العربية الإسلامية على الأحجار في السعودية: «تعدّ النقوش الشاهدية أو الكتابات على شواهد القبور من أجمل الكتابات المنقوشة على الأحجار؛ لكونها تُصنع خصيصاً لخدمة غرض محدد، وتحمل مضامين يجري اختيارها بعناية فائقة، ويقوم بتنفيذها على بلاطة الشاهد في الغالب خطاطون يبذلون جلّ عنايتهم في رسم الحروف وزخرفتها، وتجميل بلاطة الشاهد وتحليتها بعناصر نباتية وهندسية فائقة الجودة، بحيث جعلت هذا النوع من الكتابات يتفوق على ما سواه من الكتابات الأخرى المنقوشة على الأحجار». وتتميز النقوش الشاهدية في السعودية بأنّها تغطي جميع مراحل تطور الخط العربي الإسلامي على شواهد القبور، فمنها ما يعود إلى بواكير القرن السابع الميلادي، مروراً بجميع القرون والمراحل التاريخية التي مرت بجزيرة العرب حتى العصر العثماني، كذلك تتميز بأنّها تجمع بين جميع الظواهر الزخرفية المتصلة بتجويد الخط وزخرفته وتحليته وتجميله من بسيط إلى مورق ومشجر ومضفور وذي أشكال وسمات هندسية.
وتدور أغلب مضامين الشواهد حول «البسملة» التي يُسْتَهل بها الشاهد، ثم آية أو أكثر من آيات القرآن، أو دعاء مأثور، ثم اسم صاحب الشاهد، والترَحُّم عليه، والدعاء له، وتاريخ الوفاة.
وبعض الشواهد يكون من بين مضامينها أشعار من عيون الشعر القديم والإسلامي، وأيضاً بعض ما قيل في شخص المتوفى من مرثيات، إلى جانب بعض أشعار الإنشاد والابتهالات.
ولوحظ أن كثيراً من مضامين الشواهد بالسعودية لها قيمة تاريخية عالية، فقد أمكن من خلال دراسة النسبة أو الانتساب إلى القبائل أو البلدان أو الحرف معرفة التركيبة السكانية لكل بلدة بما في ذلك معرفة الأسر المحلية والوافدة، وكذا معرفة المهن والحرف التي اشتغل بها السكان، ومعرفة طبقة الحكام ورجال الدولة، والعلماء، والغرباء الذين توفوا في مكة المكرمة، أو في الطريق إليها.
وعن الأمكنة التي تنسب إليها النقوش الشاهدية في السعودية، قال الزيلعي إنّ مكة المكرمة هي الأكثر احتضانا لهذا النوع من الآثار فهي في عداد الأمكنة التي توصف بأنها مكتبة العالم في هذا النوع من النقوش، ومن أكثر الحواضر الإسلامية تجويداً للكتابة الشاهدية على الأحجار، ومقبرتها المسماة مقبرة المعلاة من أشهر وأقدم المقابر في العالم الإسلامي، ومن أقدم ما عرف تقليد الكتابة الشاهدية على قبورها، حيث احتفظت قبور تلك المقبرة بنماذج مبكرة من الكتابة الكوفية، ثم بنماذج كوفية أخرى متدرجة في البكور، ثم أحدث نسبياً حتى ظهور خط النسخ وخط الثلث وغيرهما من الخطوط العربية الإسلامية حتى العصر العثماني.
يلي مكة من حيث شيوع الكتابة الكوفية الشاهدية على مقابرها مدينة عشم الإسلامية الواقعة على بعد 300 كلم إلى الجنوب من مكة المكرمة بما في ذلك المواقع الأثرية الداخلة في محيطها أو مخلافها المسمى باسمها: مخلاف عشم، فالخُلُف في منطقة الباحة حالياً، فمدينة الطائف على بعد 70 كلم إلى الجنوب الشرقي من مكة المكرمة، فالمدينة المنورة ومحيطها، بالإضافة إلى وجود نماذج أخرى متفرقة من شواهد القبور المنقوشة عُثر عليها في منطقة جازان، ومنطقة عسير، ومنطقة نجران، والمنطقة الشرقية وغيرها.
وتتميز النقوش الشاهدية المكتشفة بأن كثيراً منها ممهور باسم الخطاط الذي نقشه، بحيث إن كل نقاش من أولئك النقاشين شكّل مدرسة أو طريقة خاصة به في الخط والزخرفة الخطية، ولهذا يحلو لبعض الدّارسين تصنيف بعض النقوش الشاهدية إلى مدارس تبعاً للنقاش الذي أسس تلك المدرسة، ثم من تبعه من أبنائه وأقربائه وتلامذته.
وبعض أعمال الخطاطين وجدت سبيلها إلى خارج أوطانها حيث عُثر على نقوش شاهدية مكية في مصر تحمل اسم مبارك المكي، وأخرى في جزيرة دهلك تحمل اسم عبد الرحمن بن أبي حرمي المكي، وأسماء بعض أقاربه الخطاطين مما يدعو إلى الاعتقاد بأنّ مكة كانت تُصَدّر الكتابات الشاهدية إلى خارج حدودها على افتراض أنّ الحجاج الذين يأتون إلى مكة لأداء فريضة الحج والعمرة كانوا يطلبون من الخطاطين أو النقاشين المكّيين المحترفين صناعة ما يحتاجون إليه من شواهد قبور منقوشة لأقربائهم المتوفين في بلدانهم التي يعودون إليها محملين بما صنعوا لهم من نقوش شاهدية في مكة لينصبوها على قبورهم في أمكنة دفنهم.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».