ترتبط كلمة «عوافي» ارتباطاً مباشراً بلغة القرية في لبنان. فهي بمثابة تحية يستخدمها أهالي القرى عند مرورهم بالقرب من أحدهم. وتعني التزود بالعافية، أي بسلامة الصحة والحركة الدائمة.
ومن هذا المنطلق تنظم «دار النمر» في بيروت برنامجاً ترفيهياً ثقافياً تخص به المسنين كما الأطفال، في مخيمات شاتيلا للاجئين الفلسطينيين. وهو يهدف إلى تأمين فسحة أمل لهم، فينقلهم من عالم المعاناة الذي يعيشون فيه إلى عالم آخر يتلوَّن بنشاطات فنية وثقافية، فيتدفق نبض الحياة الحلوة في شرايين يومياتهم من جديد.
ويتضمن هذا البرنامج الذي يبدأ القسم الثاني من نشاطاته اليوم، قراءات وورشات عمل وعرض أفلام سينمائية. وهي تتوجه إلى أصحاب أعمار متقدمة، فيتفاعلون معها بشكل ملحوظ؛ لا سيما أنها تذكرهم بطبيعتها ومحتواها بأجمل أيام حياتهم، عندما كانوا لا يزالون أطفالاً وشباناً في أول أعمارهم.
وتقول مها قبيسي، المديرة المسؤولة في «دار النمر» في بيروت، الجهة المنظمة للبرنامج: «تكمن الفكرة في إضفاء لمسة فنية وثقافية على يوميات المسنين، كما الأطفال في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في منطقة شاتيلا. وهو برنامج بدأناه مع العام الحالي ضمن ورشة ترقيع وتطريز في عالم الخياطة. وتوجهنا به إلى النساء في المخيم المذكور، وأدارها اللبناني روجيه فغالي. وكانت مناسبة لتنفيذ إطلالة تاريخية على هذه الفنون المعروفة في فلسطين التي تتذكرها النسوة المسنات في المخيم، ولا يزلن يعتمدنها حتى اليوم في أعمالهن في الخياطة. وما أدرجناه في هذه الورشة هو إجراء تعديل في هذا الفن العريق من خلال أساليب حديثة، باتت تُعتمد اليوم في المجالين المذكورين».
ومع قراءات شعبية مأخوذة من مؤلفات الأديب اللبناني الراحل سلام الراسي، تنطلق اليوم نشاطات برنامج «عوافي» مع لانا الحلبي، صاحبة مكتبة «الحلبي» البيروتية المعروفة. وتعقد جلسة القراءة في «بيت الشيخوخة النشطة» في شاتيلا بمشاركة المقيمين فيه.
«لقد اخترنا قراءات نصوص الأديب سلام الراسي المعروفة؛ لأنها تحاكي المسنين بلغة يعرفونها، وهي الأمثال الشعبية التي تربَّى عليها معظمهم، وسمعوها من أهاليهم وفي حياتهم، اليومية»، توضح مها قبيسي في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط». وتتابع: «فكما هو معروف، الأديب الراحل هو من جنوب لبنان، وهو امتداد لمنطقة الجليل وروافدها. فتقريب الأفكار واختصار المسافات والجغرافيا هي بنود أساسية في برنامجنا هذا، كي نزود هؤلاء المسنين بمتعة العودة إلى الجذور، وبحفنة ذكريات ترتبط ارتباطاً مباشراً بفلسطين. وبذلك نحاول الابتعاد عن الموضوعات الفلسفية، كي يشعر هؤلاء ببساطة الحياة. فالفنون التثقيفية هي عالم بحد ذاته، يضفي الترفيه والتسلية على المسنين، فيتثقفون من دون جهد وتعب؛ بل من خلال أسلوب فني يخاطبهم مباشرة، ويترك لديهم أثراً طيباً».
ومن النشاطات الأخرى التي ينظمها برنامج «عوافي» عرض لفيلمين سينمائيين: الأول «الناصرة» لهاني أبو أسعد، وسيُعرض في 12 مارس (آذار) الجاري، في مركز المسنين في مخيم شاتيلا. وهو يحكي عن عودة هاني أبو أسعد إلى مدينته قبل أشهر من الألفية الجديدة، ويلتقط هناك المميزات اليومية لمدينة الناصرة التي هي واحدة من أقدس المدن في العالم، ومدينة المسيحيين والمسلمين على حد سواء. ويقدم أبو أسعد قصته على خلفية أحداث الشغب المرتبطة بساحة عامة يتنازع عليها مسلمو المدينة وممثلو بلديتها من خلال عاملي محطة بترول. فيعلِّقان بسخرية وطرافة على الظروف السياسية والاجتماعية في مدينتهم، ليرسما صورة مأساوية وخفية لسكان هذه المدينة.
أما الفيلم الثاني الذي سيتسنى للمسنين في شاتيلا متابعته في 26 من الشَّهر الحالي، فهو بعنوان «آخر أيام رجل الغد» من إخراج فادي باقي. وتدور أحداثه حول الرجل الآلي «مانيفيل» الذي قدمه الجنرال ديغول هدية إلى لبنان، بمناسبة الاستقلال عام 1945. لم يعد الرجل الآلي مشهوراً كما في الماضي، فهو يقطن اليوم منزوياً في مكان مهجور في بيروت؛ لكنه يعود إلى الأضواء مرة أخرى، ويبدأ السكان برواية قصصهم وذكرياتهم عنه، لتتكشف خبايا وتفاصيل أسطورة «مانيفيل» التي شكلت جزءاً مهماً من وجدان المواطنين.
وتختم مها قبيسي حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «إننا نجدِّد لدى المسنين حس الخيال والابتكار، من خلال فيلم متحرك قصير، تُبنى أحداثه على العلم والخيال معاً. ونحاول في برنامج (عوافي) استحداث مساحة خاصة لدى المسنين، يتلقون فيها الفن والثقافة للخروج من قوقعتهم. فيطلون على عالم جديد بعيداً عن بيئتهم المعيشية اليومية، ويكتشفون من خلاله أهمية الفنون في تحفيز الخيال وطاقات الإبداع، إضافة إلى الحركة. ففي ظل كل الركود الذي نعيشه اجتماعياً، وغزو وسائل التواصل الاجتماعي حياتنا، كان لا بد من إجراء قفزة نوعية فنية في حياة هؤلاء، تعيدهم إلى مساحة آمنة يبحثون عنها ولو بشكل غير مباشر، حتى أننا نفكر بالطريقة نفسها فيما يخص الأطفال الذين يخصهم البرنامج في الأشهر القليلة المقبلة بنشاطات موجهة لهم وتناسب أعمارهم. فمن لا يستطيع القدوم إليك لم لا تذهب أنت إليه؟ ومن هذا المنطلق ننظم برنامج (عوافي) التثقيفي الفني. واللافت أن المسنين يتفاعلون بشكل كبير معه، ويطالبوننا دائماً بمزيد من النشاطات؛ لأنها تضفي التغيير على مزاجهم وطريقة تفكيرهم».
«عوافي» نافذة أمل للمسنين والأطفال من «دار النمر» في بيروت
البرنامج يتضمن قراءات وورشات عمل وعرض أفلام سينمائية
«عوافي» نافذة أمل للمسنين والأطفال من «دار النمر» في بيروت
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة