جورج إليوت... نسوية ثائرة وحياة بين الرواية والفلسفة والفضائح

200 عام على ولادة أهم مثقفات بريطانيا في القرن الـ 19

جورج إليوت
جورج إليوت
TT

جورج إليوت... نسوية ثائرة وحياة بين الرواية والفلسفة والفضائح

جورج إليوت
جورج إليوت

يعتبر كثيرون جورج إليوت التي ولدت قبل 200 سنة، أهم روائية بريطانية من العصر الفيكتوري، وحققت رواياتها جميعاً أرباحاً تجارية منذ طبعاتها الأولى، وما زالت قيد التداول إلى اليوم. ورغم أنها نشرت أول أعمالها تحت اسم ذكوري مستعار بدلاً من اسمها الحقيقي (ماري آن إيفانس) خوفاً من ألا يأخذها النقاد الأدبيون على محمل الجد، فإن هؤلاء احتفلوا بها أيضاً عندما نشرت باسمها الحقيقي، وإن احتفظوا بكنيتها المستعارة تلك حتى صارت به علماً بارزاً في تاريخ الأدب الإنجليزي، بينما بالكاد يتذكر القراء اسمها بالولادة.
وتقف روايتها الأشهر «ميدل مارش - 1872» بجدارة واستحقاق، كأفضل رواية تسجل تفاصيل حياة المجتمع الإنجليزي في القرن التاسع عشر.
لكن الأضواء الساطعة لهذا المجد الأدبي العريض في عالم الرواية، كثيراً ما صرفت النظر عن معالم أخرى شاهقة في شخصية هذه السيدة الاستثنائية التي تحدت طبقتها الاجتماعية، ومجتمعها الطرفي، وفضاء لغتها المحلية، وبطريركية ثقافة عصرها، لتصبح – إلى جانب إنتاجها الروائي المُبهر – أهم فيلسوفة بريطانية أنثى في أيامها، لا يعرف كثيرون أنها أول من ترجم أعمال بنيديكت دو سبينوزا، الفيلسوف الهولندي، إلى الإنجليزية؛ بل ولأي لغة في العالم، وبقيت لسنوات طوال - وهي الفتاة المنحدرة من أصول ريفية - محررة ناجحة لمجلة لندنية ثقافية رصينة، وأن أسلوب حياتها الشخصية الصادم والمثير للجدل يضعها في مقام نموذج مبكر لرائدة نسوية ومناضلة حقيقية بالممارسة العملية، دون الاستعراضات النظرية الفارغة التي كثيراً ما غلبت على إنجاز نسويات تلك الحقبة. ولذلك فإن أي تجربة لقراءة أعمال جورج إليوت أو عبور مجمل نتاجها الأدبي، بمعزل عن معرفة تلك الأبعاد المتقاطعة في أقانيم الزمان والمكان والثقافة التي أنتجت عقلها الجميل، لا تعطي تلك النصوص حقها، ويفقد القارئ فرصة نادرة للإطلال على ديناميات روح عصر آخر مضى، كان بكل ما فيه انعطافة مهمة للتجربة البشرية بمجملها، وفضاء استوت فيه الرأسمالية البرجوازية على عرشها الذي ما برحت - رغم كل التحولات - متمسكة به بقوة.
ولدت ماري آن إيفانس في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1819، داخل قرية ريفية صغيرة من أعمال وورشاير، في قلب الريف الإنجليزي كابنة ثالثة. وقد منحها والدها مبكراً مساحة واسعة للقراءة والتعلم لم تكن تحظى بها عادة بنات جيلها في ذلك المجتمع الطرفي بعيداً عن المدن الكبرى، إذ إنه كان يرى محدودية فرصها في الزواج، نظراً لافتقاد ملامح وجهها للجمال التقليدي الذي يمكن أن يجذب إليها خاطبين أثرياء، وأراد لها امتلاك وسائل أخرى لكسب العيش مستقبلاً. لكن طموح ماري آن وعقلها النهم كانا أكبر بكثير من أن تنتهي في وظيفة تقليدية، وتشبعت روحها سريعاً بمزيج متفجر ملتهب من الآداب والأشعار والمعارف والعلوم واللغات، كان ليؤهلها - لو أنها من طبقة أخرى - لدور بروفسورة بارزة في «أكسفورد» أو «كامبريدج»؛ لكنها ابنة مزارع تقليدي، من قرية نائية، فيها أهم نشاط ثقافي حضور قداس الأحد في الكنيسة.
من الجلي أن ماري آن كانت تعيش اغتراباً تاماً عن واقعها، وهو ما تسبب في تمردها مبكراً على السلطات الأبوية جميعها، بداية من رفضها العلني للمفاهيم الدينية التقليدية، وتوقفها عن حضور القداس الأسبوعي، وهو مما تسبب لها في معركة مع والدها، وفضيحة محلية في مجتمعها الصغير المغلق، ولاحقاً بقرارها – المتهور - الهجرة إلى العاصمة لندن، للعمل في مهنة الكتابة.
نقطة التحول في حياتها كانت انتقال عائلتها للسكنى على أطراف مدينة كوفنتري - عاصمة الإقليم – وهي في الحادية والعشرين من العمر، إذ تعرفت هناك على مجموعة من المثقفين التقدميين الرفيعين الذين كانوا يلتقون دورياً لتبادل الآراء ومناقشة الأفكار وثمرات الكتب، مما شرع أمامها نافذة للنهل من خلاصة الأدب والثقافة العالميين وقتها.
ويبدو أنها تبحرت تلك الفترة في تاريخ الأفكار والأديان، فترجمت من الألمانية كتاب ديفيد ستراوس المفصلي «قراءة نقدية لحياة السيد المسيح» الذي جادل فيه بأن المعجزات المنسوبة للنبي الناصري في العهد الجديد لم تكن سوى تلفيقات وأساطير.
ومن فورها أصبحت ماري آن هدفاً للهجوم من السلطات الدينية النافذة في بريطانيا، لإقدامها على نقل مثل تلك الهرطقة إلى الإنجليزية، ووصف أحد كبار الأساقفة الكتاب لما وصلته نسخة من الترجمة بأنه «أسوأ كتلة فاسدة لفظها الجحيم ذاته يوماً»؛ لكنها لم ترعوِ، وانطلقت من فورها تترجم أعمال دو سبينوزا، الفيلسوف المغضوب عليه من رجال الدين.
في كوفنتري، تعرفت ماري آن على الناشر جورج تشابمان الذي أعجب بها ودعاها للانتقال للعيش معه في لندن، ومشاركته تحرير مجلة «وسيمنستمر ريفيو» التي كانت معقلاً متقدماً للفلاسفة والمفكرين البريطانيين التقدميين، أمثال جيريمي بينثام وجون ستيوارت ميل. وقد أدارت المجلة بفاعلية واقتدار، وانخرطت بكليتها في معركة التغيير المجتمعي التي كانت تشهدها بريطانيا، وتعاطفت مع الثورات الأوروبية عام 1848، ودعت إلى تعليم المرأة، والمساواة الجندرية، وساندت الحراكات النسوية دون أن تتورط في رطانة النسويات اللغوية.
سكناها مع تشامبان دون زواج لثلاث سنوات لم يكن سراً، إذ كانت تلك الفتاة الريفية الذكية غالباً المرأة الوحيدة في اجتماعات نخبة مثقفي العاصمة في منزل تشامبان بحي ستراند؛ لكنها أصبحت فيما بعد مركز فضيحة مجتمعية، بعدما انتقلت للعيش علناً مع الكاتب جورج هنري لويس الذي كان متزوجاً، فقاطعها أهلها، وامتنعت نساء المدينة عن التعاطي معها وخضن في سمعتها. خلال تلك الفترة ترجمت كتاب الفيلسوف الألماني لوديغ فيورباخ «جوهر المسيحية» الذي كان أساسياً في إطلاق الفلسفة المادية لاحقاً على يد كارل ماركس، وأنهت ترجمتها عام 1856 لتحفة دو سبينوزا وعمله الأخير «الأخلاق – 1677» الذي رغم تأثيره الكثيف على الثقافة الأوروبية لم تكن أفكاره الثورية قد عبرت بعد حاجز اللغة بين جانبي القنال الإنجليزي، ولاحقاً في 1857 استجمعت ثقتها لتنشر أول نتاجها الأدبي «مشاهد من حياة رجال الدين» وهي مجموعة قصص قصيرة تجمعها ثيمة واحدة – تحت الاسم الأدبي المستعار جورج إليوت - قبل أن تلحقها في 1859 بروايتها الأولى «آدم بيد» لتتوالى من بعدها سلسلة من الدواوين الشعرية والأعمال الروائية، صدر آخرها عام 1873 «دانيال ديروندا»، التي ربما تكون أهم أعمالها أدبياً.
وقد توفيت ماري آن في عام 1881 بعد أشهر قليلة من زواجها بأميركي يصغرها بعشرين عاماً، وللمفارقة فقد عقدت قرانها عليه في الكنيسة، وهي التي قاطعت القداديس الدينية طوال أربعة عقود تقريباً.
حياتها الثرية التجارب هذه، وثقافتها الفلسفية الرفيعة، منحت كتابتها الأدبية عمقاً فريداً ووعياً اجتماعياً مبكراً لتأثيرات الرأسمالية على حياة الأفراد، وطبيعة القلق الروحي والاغتراب الذي كانت تعيشه النساء الإنجليزيات في ظلها، كما تلك الشبكات الواهنة من العلاقات الإنسانية التي تربط المجتمعات على مستويات مختلفة في أجواء تحولات ثقافية عاصفة.
شخصيات رواياتها معقدة، وتطرح وقائعها تساؤلات فلسفية وسيكولوجية وسيسيولوجية، وتؤطر في سياقاتها المآزق الفكرية والاجتماعية لجيلها. وقد اشتهر وصف فرجينيا وولف لروايتها «ميدل مارش» بأنها «من تلك الأعمال الأدبية النادرة التي كتبت لقراء ناضجين».
وفي الحقيقة، فإنه لا خلاف بين النقاد بمن فيهم أولئك الذين عابوا عليها أحياناً تطرفاتها الفلسفية أو السياسية، في أن مجمل نتاجها الأدبي يتسم بالنزاهة الفكرية، والحكمة، وصرامة الارتباط بقضايا الإنسان، وأن تلك الروح الثائرة المتمردة كانت على الإطلاق أهم مثقفات بريطانيا في القرن التاسع عشر.



3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة
3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة
TT

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة
3 كُسور برونزية من محفوظات هيئة الشارقة للآثار مصدرها موقع مليحة

أسفرت عمليات التنقيب المتواصلة في موقع مليحة الأثري التابع لإمارة الشارقة عن العثور على مجموعات كبيرة من اللقى المتعدّدة الأشكال والأساليب، منها مجموعة مميّزة من القطع البرونزية، تحوي 3 كسور تحمل نقوشاً تصويرية، ويعود كلّ منها إلى إناء دائري زُيّن برسوم حُدّدت خطوطها بتقنية تجمع بين الحفر الغائر والحفر الناتئ، وفقاً لتقليد جامع انتشر في نواحٍ عدة من شبه جزيرة عُمان، خلال الفترة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد.

أصغر هذه الكسور حجماً قطعة طولها 4.5 سنتيمتر وعرضها 10 سنتيمترات، وتمثّل رجلاً يركب حصاناً وآخر يركب جملاً. يظهر الرجلان في وضعية جانبية ثابتة، ويرفع كلّ منهما رمحاً يسدّده في اتجاه خصم ضاع أثره ولم يبقَ منه سوى درعه. وصلت صورة راكب الحصان بشكل كامل، وضاع من صورة راكب الجمل الجزء الخلفي منها. الأسلوب متقن، ويشهد لمتانة في تحديد عناصر الصورة بأسلوب يغلب عليه الطابع الواقعي. يتقدّم الحصان رافعاً قوائمه الأمامية نحو الأعلى، ويتقدّم الجمل من خلفه في حركة موازية. ملامح المقاتلين واحدة، وتتمثّل برجلين يرفع كل منهما ذراعه اليمنى، شاهراً رمحاً يسدّده في اتجاه العدو المواجه لهما.

الكسر الثاني مشابه في الحجم، ويزيّنه مشهد صيد يحلّ فيه أسد وسط رجلين يدخلان في مواجهة معه. يحضر الصيّادان وطريدتهما في وضعيّة جانبية، ويظهر إلى جوارهم حصان بقي منه رأسه. ملامح الأسد واضحة. العين دائرة لوزية محدّدة بنقش غائر، والأنف كتلة بيضاوية نافرة. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان عن أسنان حادة. تحدّ الرأس سلسلة من الخصل المتوازية تمثل اللبدة التي تكسو الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة. الظهر مقوّس بشكل طفيف، ويظهر في مؤخرته ذيل عريض، تعلو طرفه خصلة شعر كثيفة. الجزء الأسفل من البدن مفقود للأسف، وما بقي منه لا يسمح بتحديد وضعية القوائم الأربع.

في مواجهة هذا الليث، يظهر صياد يرفع بيده اليمنى ترساً مستديراً. في المقابل، يظهر الصياد الآخر وهو يغرز خنجره في مؤخرة الوحش. بقي من الصياد الأول رأسه وذراعه اليمنى، وحافظ الصياد الآخر على الجزء الأعلى من قامته، ويتّضح أنه عاري الصدر، ولباسه يقتصر على مئزر بسيط تعلوه شبكة من الخطوط الأفقية. ملامح وجهَي الصيادين واحدة، وتتبع تكويناً جامعاً في تحديد معالمها. من خلف حامل الخنجر، يطل رأس الحصان الذي حافظ على ملامحه بشكل جلي. الأذنان منتصبتان وطرفهما مروّس. الخد واسع ومستدير. الفم عريض، وشق الشدقين بارز. اللجام حاضر، وهو على شكل حزام يلتفّ حول الأنف. تعلو هذه الصورة كتابة بخط المسند العربي الجنوبي تتألف من ستة أحرف، وهي «م - ر - أ - ش - م - س»، أي «مرأ شمس»، ومعناها «امرؤ الشمس»، وتوحي بأنها اسم علم، وهو على الأرجح اسم صاحب الضريح الذي وُجد فيه هذا الكسر.

تتبع هذه الكسور الثلاثة أسلوباً واحداً، وتعكس تقليداً فنياً جامعاً كشفت أعمال التنقيب عن شواهد عدة له في نواحٍ عديدة من الإمارات العربية وسلطنة عُمان

الكسر الثالث يمثّل القسم الأوسط من الآنية، وهو بيضاوي وقطره نحو 14 سنتيمتراً. في القسم الأوسط، يحضر نجم ذو 8 رؤوس في تأليف تجريدي صرف. وهو يحل وسط دائرة تحوط بها دائرة أخرى تشكّل إطاراً تلتف من حوله سلسلة من الطيور. تحضر هذه الطيور في وضعية جانبية ثابتة، وتتماثل بشكل تام، وهي من فصيلة الدجاجيات، وتبدو أقرب إلى الحجل. تلتف هذه الطيور حول النجم، وتشكّل حلقة دائرية تتوسط حلقة أخرى أكبر حجماً، تلتف من حولها سلسلة من الجمال. ضاع القسم الأكبر من هذه السلسلة، وفي الجزء الذي سلم، تظهر مجموعة من ثلاثة جمال تتماثل كذلك بشكل تام، وهي من النوع «العربي» ذي السنام الواحد فوق الظهر، كما يشهد الجمل الأوسط الذي حافظ على تكوينه بشكل كامل.

تتبع هذه الكسور الثلاثة أسلوباً واحداً، وتعكس تقليداً فنياً جامعاً، كشفت أعمال التنقيب عن شواهد عدة له في نواحٍ عديدة من الإمارات العربية وسلطنة عُمان. خرجت هذه الشواهد من المقابر الأثرية، ويبدو أنها شكلت جزءاً من الأثاث الجنائزي الخاص بهذه المقابر في تلك الحقبة من تاريخ هذه البلاد. عُثر على هذه الكسور في موقع مليحة، وفي هذا الموقع كذلك، عثر فريق التنقيب البلجيكي في عام 2015 على شاهد يحمل اسم «عامد بن حجر». يعود هذا الشاهد إلى أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، ويحمل نقشاً ثنائي اللغة يجمع بين نص بخط المسند الجنوبي ونص بالخط الآرامي في محتوى واحد. يذكر هذا النص اسم «عمد بن جر»، ويصفه بـ«مفتش ملك عُمان»، ونجد في هذا الوصف إشارة إلى وجود مملكة حملت اسم «مملكة عُمان».

ضمّت هذه المملكة الأراضي التي تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحّدة، كما ضمّت الأراضي التي تعود إلى شمال سلطنة عُمان، وشكّلت استمرارية لإقليم عُرف في النصوص السومرية باسم بلاد ماجان. جمعت هذه المملكة بين تقاليد فنية متعدّدة، كما تشهد المجموعات الفنية المتنوّعة التي خرجت من موقع مليحة في إمارة الشارقة، ومنها الأواني البرونزية التي بقيت منها كسور تشهد لتقليد فني تصويري يتميّز بهوية محليّة خاصة.