حنين موجع إلى الماضي العراقي

«مجرد كلام» لعماد حياوي المباركي

حنين موجع إلى الماضي العراقي
TT

حنين موجع إلى الماضي العراقي

حنين موجع إلى الماضي العراقي

ظاهرة الهجرة والنزوح بعيداً عن الوطن، خلقت لدى الكثير من المثقفين العراقيين تضاريس معرفية عديدة برزت إلى العيان بعد توفر إمكانيات مفتوحة للطبع والنشر والتوزيع في بلدان عديدة، حتى أصبحت هذه الظاهرة تمتلك حيزاً كبيراً، يطلق عليه أدب المنفى. ومن أبرز الجاليات الأدبية العربية، يشكل العراقيون النسبة الأكبر بين الأدباء العرب المهاجرين، وتتكاثر أعدادهم الآن بالنزوح المستمر.
لقد اكتسبت إبداعات هذا الأدب معنى ومغزى خارج أوطان هؤلاء، وقد استخدم المنفى كمصطلح في قراءة هذا النتاج. في كتاب «مجرد كلام» الذي صدر عن دار «ميزر» للطباعة والنشر والتوزيع في السويد، وضم 76 مقالاً، يلقي الكاتب العراقي عماد حياوي المباركي على أحداث الماضي القريب نظرة حميمية أكثر إنسانية، بينما يظهر الحاضر العراقي بالمقابل، كارثياً يُنبئ بمستقبلٍ دموي.
ولكنه، وبما يشبه حالة تعزية للنفس، يستعين بما خلد في الذاكرة، فـيلقي الضوء «على شخصيات عاشت في الواقع، تأتي تحت عناوين ليس علينا تفسيرها حرفياً، مثلت سيرة حياتي وحياة من حولي، أهلي ورفاقي ومجتمعي، كتبتها على مدى سنوات ونشرتها من دون تسلسل زمني، من يطلع عليها سيتعرف علي منذ أن ولدت ويستخلص من خلالها شخصيتي، عراقي يتكلم العربية، متزن يحب الخير للناس بغض النظر عن أصلهم وقوميتهم ودينهم، أومن بأن الأهم بالحياة أن تبني نفسك بنفسك، أن تستفيد من كل يوم تعيشه وكل كتاب تقرؤه وكل رحلة وزيارة ومشكلة تعيشها أو تمر عليك أو قربك، من كل حالة فرح وحزن، وكل لحظة سعادة وتعاسة». الكاتب، عرف منظر الدم وشاهد الجثث في الشوارع، عاش هول التناحرات والاعتقالات وأيضاً ظاهرة القتل على الهوية في شوارع بغداد. كل ذلك وغيره جعله قارئاً نهماً للأحداث، ولمستقبل بلده في ضوئها، فبغداد في نظره ليست سوى «مدينة نحاس» تقتل كل من يحاول تسلق حاضره بغية الارتقاء نحو المستقبل. إنه كتاب عن «الحلو والمر، يوم طويل وغيره قصير، صراع الخير والشر، هذه هي الحياة، مسرحية بفصول نؤديها مع الناس من حولنا، مشاهد غالباً ما اقترب بشدة من صانعيها وحقيقتهم، لكن أحياناً أبتعد و(أفبرك) بعض المشاهد للضرورات، أو أقوم بربط أكثر من حكاية أجد ذلك ممكناً ومسلياً، وأضيف الهوامش لتوسع مداركنا». وهو يرى بأن كل ما يرويه، له صلة بالحاضر. والحاضر سياسة. والسياسة، كما يعرف الجميع، حافة سكين، ورصاصة طائشة، قد تتعرّض لها كل رقبة.
المباركي يقرأ الماضي القريب منذ حفلات الدم التي أعقبت تغيير النظام السابق، وكذلك حاضره الذي يراه كل يوم مصطبغاً بالدم، فما من يوم مرّ ويمر على بلده، إلا وكان الدم عنوانه. إنه يخشى على نقاء كل الناس الذين أحبهم من كل الملوثات العديدة التي يتلاطم بها حاضر العراق المحاصر، ويستغيث بذكرى «الماضي الجميل» الذي كان الكائن العراقي فيه، «أرق كائن عرفه الزمن».
لا ينهي عماد حياوي كتابه، فهو سجل على سطح الغلاف عبارة «الجزء الأول»، عبارة تنبئ القارئ، بأنه سيواصل ذكرياته وأفكاره التي نقلها للقارئ التي لم تكتمل بعد، لكن ظل مشهدها ماثلاً أمام ناظريه، كما الرائحة البغدادية.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.