شعرية الأشياء المفقودة

«تلك لغة الفرائس المحظوظة» للشاعر المصري عماد فؤاد

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

شعرية الأشياء المفقودة

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

يحتفي الشاعر عماد فؤاد، في ديوانه «تلك لغة الفرائس المحظوظة» الصادر حديثاً عن دار «ميريت» بالقاهرة، بحضور الأشياء، باحثاً عن شعريتها المفقودة، سواء في عيانها المادي الماثل أو في ظلالها المجردة التي تبدو كقناع لالتقاط الأنفاس وإعادة النظر والتأمل في حقيقة الوجود، فهي الوعاء الحاضن له، ودونها ينتفي مطلق الوجود نفسه ويشارف العدم. ويتسم حضور الأشياء بالوضوح والبساطة، وتعتمد اللغة على التكثيف والاختزال، كتلخيص لجذرية الأشياء والتشبث بها، وكأنها فرائس الذات الخاصة، ومخزن أسرارها وملامحها المخفية. ويؤكد عنوان الديوان هذا الحضور عبر اسم الإشارة (تلك) الذي يشير دلالياً ولغوياً إلى الشيء المرئي المتعين المحسوس.
تحضر الأشياء بقوة الشعر، وهنا مناط خصوصيتها، تحضر عبر الأمكنة والأزمنة والشخوص والوقائع، عبر الذكرى والنجوى، واللقطة، واللون والرائحة والصراخ والصمت، ويكتسب هذا الحضور فعاليته من مقدرة النص على هضمه واحتوائه، وخلق ملامح إدراك جديدة له، دون أن تتخلى الأشياء عن طبيعتها، فهو يحتفي بجمالها وبذاءتها، بقوتها وهشاشتها، بألفتها وصخبها، وكأن النص فضاء مفتوح تعيد اختبار وجودها فيه، أو تكتشفه للتو؛ الأمر الذي يجعل حضورها في النص يتماثل مع حضور الذات، وتتنوع صيغ الإمساك بهذا الحضور، بين ضمير المفرد الذي يؤكد خصوصية الأنا، منقسماً على نفسه أحياناً تحت قناع الآخر المخاطب، وضمير الجمع الذي يناوش الحضور والغياب معاً، بقوة الذاكرة والحلم أحياناً، مثلما يقول الشاعر في (مقطع 38 ص 55):
«دعكَ من الموسيقى التي أسمعها الآن، فهي ليست السبب في هذه اللغة غير المترابطة التي تقرأها، أنا فقط قلت شيئاً أستمع إليه ويسليني...
هنا صوت الكمان
التشيللو
هنا الفلوت
ثم البيانو
........
بعد قليل سيدخل القانون
فتخرس الآلات كلها».
ينعكس هذا اللعب بحركة الضمائر على بنية الصورة الشعرية، فتراوح بين البساطة الهادئة والتركيب الذي ينحو نحو التدوير في كثير من المقاطع. وسنلاحظ أنه في البساطة، يصبح النص أكثر تعبيراً عن مشاغل الذات، وفي التركيب يصبح عيناً أخرى على الواقع، توفر فرصة للذات لتسائله، وتكشف عما يكمن وراء الأشياء من عبث وتعسف وفوضى... وهو ما يطالعنا في (مقطع رقم 8 ص 21)، حيث يقول:
«وما المشكلة في ذلك؟ أريد أن أكتب قصيدة عن التلهي، عن اللحظة التي نكتشف فيها أننا نُردُّ إلى نفوسنا بعد غيبة، فنعود من جديد لتلمس الأركان التي هجرناها، مواضع أعشاش العنكبوت في السقوف، وخيوطها تتدلى حتى تلمس رؤوسنا. أريد أن أكتب قصيدة عن الشاعر الذي بدأ كتابة قصيدة ولم يتمها.
لكن ما الذي يحدد زمن الشعر في النص؟ هل هو اللغة وطرائق تشكلها التي تجمع الخيال في قبضة الواقع، والواقع في قبضة الخيال، أم حضور الأشياء كحقيقة واقعية تتمنى الذات أن تواصل في ظلالها المراوغة بين الخفة والثقل، بين الوضوح والإيهام به؟ ثم هل الشعر هو زمن حضور الأشياء في النص، أم زمن حضور الذات؟ يحل عماد فؤاد هذه المشكلة بإضفاء صفة الرحلة على الديوان، موظفاً البنية الرقمية في صناعة سياج شفيف يحقق من خلاله جدلية الانفصال - الاتصال بين مقاطع الديوان المائة المنسابة في 135 صفحة، محدداً لها مفتاحين للدخول والخروج، يبدآن وينتهيان بالرقم صفر، متيحاً للقارئ إمكانية مرنة في التعامل مع الديوان بصفته كتلة نصية واحدة، أو الدخول إليه من أي زاوية يحب، بينهما تنداح الأشياء والوقائع والحالات بملامسها وروائحها المادية والمعنوية عبر ثلاث نوافذ مشرعة على الداخل والخارج معاً، يسميها تحديداً: «عن بلاغة الدم»، و«عن نفسي»، و«عن هشاشة المغفرة»، وكأن ما يرشح من هذه النوافذ هو خلاصة المهمش والمنسي، خلاصة الشائك الملتبس المسكوت عنه. ولا تكتفي الذات الشاعرة باستدعائه، والنبش في حضوره، ومحاولة القبض على حيواته المفقودة، وإنما تحوله إلى إشارة وعلامة وسؤال عن معنى الوجود، بما مضى وما سيكون.
وسط مشاهد ووقائع هذه الرحلة، يوظف الشاعر دال المفارقة في الاحتفاظ بمسافة بين الذات وحضور الأشياء، فهو لا يتماهى معها، وإنما يستحضرها ليكتب (عنها)، ليستخلص من شوائبها وملابساتها، من عتمتها ونورها الشحيح، زمن الشعر الأبقى حتى بعد أن تنتهي لغة النص المكتوبة.
«بابٌ...
وراءَ بابٍ
وسورٌ...
خلف سور
نباحُ كلاب مسعورة
يتردد في الأرجاء
وذبابٌ يطنّ عالياً
صانعاً سحابة سوداء
في العتمة.
من تلال القمامة هذه
مدينة كاملة
تعيش».
بهذه اللطشة الشعرية الخاطفة يمهد الشاعر لفعل الدخول في أجواء الديوان، كاشفاً عن طبيعة المدينة الخشنة التي تولي ظهرها للشحاذين والمهمشين وعابري السبيل، وكلما تعددت صورها في مرايا الأشياء تصبح أكثر خشونة وضجراً بالبشر والحياة. مدينة فقدت الإحساس بالنبل، اختلطت في كينونتها أزمنة القسوة والرعب بأبسط مقومات العيش والحياة، لكنها مع ذلك قادرة على غواية الشاعر، ووضعه دائماً على الحافة، ليفك العقد والفواصل السميكة، في اللغة والشعر والزمن والأشياء، ربما يمكنه الحلم بمدينة أخرى عادلة تنهض من بين حطام هذه الأزمنة.
وعلى عكس ما يوحي به الديوان من ثنائية الصياد والفريسة، بإيقاعها المباشر الذي تتسع محمولاته الرمزية لتشمل قضايا الواقع والوجود، يبدو صراع الذات الشعرية مع الفكرة أحد المحاور الأساسية لعالم الرؤية، فليس ثمة صياد محدد أو فرائس محددة، إنما الكل مجرد فكرة أو ظل لها في فروة الفريسة والصياد معاً، إنها لعبة تدعو للفرح، حتى لو كان مسكوناً بالدموع والبكاء أحياناً، فقسوة الأب وعصاه الغليظة التي تومض في مرايا البئر الأولى لا تنفصل عن قسوة الراعي والقطيع، بكل تمثلاتها السياسية والاجتماعية في المجتمع والحياة. كما أن نماذج البشر المهمشين المختارين بعناية في النصوص ليست مجرد عينة عشوائية، وإنما دوال على أن ثمة أفكاراً سقطت، انطفأ فيها نبض الحياة، سجنها الواقع في حيزها المعرفي المجرد، كإشارة باهتة على وجود معطل مشوه مستلب لم يخرج إلى النور.
ومن ثم، يلعب الديوان على شعرية الأفكار. ففي معظم النصوص، ثمة أفكار عن الخوف والقسوة، الندم والمغفرة، الحب والكراهية، الرحيل والغربة، لكنها لا تحضر كثنائيات ضدية عقيمة، وإنما كأشياء صنعها البشر، وأصبحت من لوازم الحياة. يبرز ذلك على نحو لافت في مقطع 97 (ص 128- 129)، حيث تتحول الفكرة إلى مشهد، سرعان ما يصبح مرثية للأشياء وللفكرة نفسها، عبر دوال تشي بأن ثمة حالة من الانتحار المتكرر تحتاج إلى بصيرة أخرى أبعد من حدود النظر العادية - بصيرة الأعمى:
«صحيح أنني أعمي
وأنني لا أرى ما يحدث حولي
لكن الله ابتلاني لسبب ما
برؤية ما يحلم به الناس؛
تمتد شعرية الأفكار في الديوان إلى مساءلة الشعر نفسه، ومعنى أن تكون شاعراً، وسط إحساس باللاجدوى، مشرب برذاذ من الفلسفة والتهكم والسخرية: «شخص تافه... كيف يجعل من صفحة بيضاء -فارغة أمامه- شبحاً يحاربه كل ليلة». تقفز هذه المساءلة من صيغة السؤال الحاد المربك عن الشعر إلى معنى المشهد وجودياً، فأن تكون أنت بطله، لا بد أن تمتلك الأشياء، أن يدل حضورها على أنك تنتمي لنفسك، لشيء ما يخصك، فالأشياء حدثت وسوف تحدث، وهي تتكرر يومياً. وفي كل الأحوال، لا بد أن تعترف بالنعمة، بأن هناك دائماً ما يستوجب الشكر؛ إنها روح المعادلة الصفرية الشجية التي أنهى بها هذا الديوان رحلته الشيقة، قائلاً: «أشكر يدي اليسرى... الصبورة التي تحملت مهانة ألا تكتب أبداً».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.