شعرية الأشياء المفقودة

«تلك لغة الفرائس المحظوظة» للشاعر المصري عماد فؤاد

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

شعرية الأشياء المفقودة

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

يحتفي الشاعر عماد فؤاد، في ديوانه «تلك لغة الفرائس المحظوظة» الصادر حديثاً عن دار «ميريت» بالقاهرة، بحضور الأشياء، باحثاً عن شعريتها المفقودة، سواء في عيانها المادي الماثل أو في ظلالها المجردة التي تبدو كقناع لالتقاط الأنفاس وإعادة النظر والتأمل في حقيقة الوجود، فهي الوعاء الحاضن له، ودونها ينتفي مطلق الوجود نفسه ويشارف العدم. ويتسم حضور الأشياء بالوضوح والبساطة، وتعتمد اللغة على التكثيف والاختزال، كتلخيص لجذرية الأشياء والتشبث بها، وكأنها فرائس الذات الخاصة، ومخزن أسرارها وملامحها المخفية. ويؤكد عنوان الديوان هذا الحضور عبر اسم الإشارة (تلك) الذي يشير دلالياً ولغوياً إلى الشيء المرئي المتعين المحسوس.
تحضر الأشياء بقوة الشعر، وهنا مناط خصوصيتها، تحضر عبر الأمكنة والأزمنة والشخوص والوقائع، عبر الذكرى والنجوى، واللقطة، واللون والرائحة والصراخ والصمت، ويكتسب هذا الحضور فعاليته من مقدرة النص على هضمه واحتوائه، وخلق ملامح إدراك جديدة له، دون أن تتخلى الأشياء عن طبيعتها، فهو يحتفي بجمالها وبذاءتها، بقوتها وهشاشتها، بألفتها وصخبها، وكأن النص فضاء مفتوح تعيد اختبار وجودها فيه، أو تكتشفه للتو؛ الأمر الذي يجعل حضورها في النص يتماثل مع حضور الذات، وتتنوع صيغ الإمساك بهذا الحضور، بين ضمير المفرد الذي يؤكد خصوصية الأنا، منقسماً على نفسه أحياناً تحت قناع الآخر المخاطب، وضمير الجمع الذي يناوش الحضور والغياب معاً، بقوة الذاكرة والحلم أحياناً، مثلما يقول الشاعر في (مقطع 38 ص 55):
«دعكَ من الموسيقى التي أسمعها الآن، فهي ليست السبب في هذه اللغة غير المترابطة التي تقرأها، أنا فقط قلت شيئاً أستمع إليه ويسليني...
هنا صوت الكمان
التشيللو
هنا الفلوت
ثم البيانو
........
بعد قليل سيدخل القانون
فتخرس الآلات كلها».
ينعكس هذا اللعب بحركة الضمائر على بنية الصورة الشعرية، فتراوح بين البساطة الهادئة والتركيب الذي ينحو نحو التدوير في كثير من المقاطع. وسنلاحظ أنه في البساطة، يصبح النص أكثر تعبيراً عن مشاغل الذات، وفي التركيب يصبح عيناً أخرى على الواقع، توفر فرصة للذات لتسائله، وتكشف عما يكمن وراء الأشياء من عبث وتعسف وفوضى... وهو ما يطالعنا في (مقطع رقم 8 ص 21)، حيث يقول:
«وما المشكلة في ذلك؟ أريد أن أكتب قصيدة عن التلهي، عن اللحظة التي نكتشف فيها أننا نُردُّ إلى نفوسنا بعد غيبة، فنعود من جديد لتلمس الأركان التي هجرناها، مواضع أعشاش العنكبوت في السقوف، وخيوطها تتدلى حتى تلمس رؤوسنا. أريد أن أكتب قصيدة عن الشاعر الذي بدأ كتابة قصيدة ولم يتمها.
لكن ما الذي يحدد زمن الشعر في النص؟ هل هو اللغة وطرائق تشكلها التي تجمع الخيال في قبضة الواقع، والواقع في قبضة الخيال، أم حضور الأشياء كحقيقة واقعية تتمنى الذات أن تواصل في ظلالها المراوغة بين الخفة والثقل، بين الوضوح والإيهام به؟ ثم هل الشعر هو زمن حضور الأشياء في النص، أم زمن حضور الذات؟ يحل عماد فؤاد هذه المشكلة بإضفاء صفة الرحلة على الديوان، موظفاً البنية الرقمية في صناعة سياج شفيف يحقق من خلاله جدلية الانفصال - الاتصال بين مقاطع الديوان المائة المنسابة في 135 صفحة، محدداً لها مفتاحين للدخول والخروج، يبدآن وينتهيان بالرقم صفر، متيحاً للقارئ إمكانية مرنة في التعامل مع الديوان بصفته كتلة نصية واحدة، أو الدخول إليه من أي زاوية يحب، بينهما تنداح الأشياء والوقائع والحالات بملامسها وروائحها المادية والمعنوية عبر ثلاث نوافذ مشرعة على الداخل والخارج معاً، يسميها تحديداً: «عن بلاغة الدم»، و«عن نفسي»، و«عن هشاشة المغفرة»، وكأن ما يرشح من هذه النوافذ هو خلاصة المهمش والمنسي، خلاصة الشائك الملتبس المسكوت عنه. ولا تكتفي الذات الشاعرة باستدعائه، والنبش في حضوره، ومحاولة القبض على حيواته المفقودة، وإنما تحوله إلى إشارة وعلامة وسؤال عن معنى الوجود، بما مضى وما سيكون.
وسط مشاهد ووقائع هذه الرحلة، يوظف الشاعر دال المفارقة في الاحتفاظ بمسافة بين الذات وحضور الأشياء، فهو لا يتماهى معها، وإنما يستحضرها ليكتب (عنها)، ليستخلص من شوائبها وملابساتها، من عتمتها ونورها الشحيح، زمن الشعر الأبقى حتى بعد أن تنتهي لغة النص المكتوبة.
«بابٌ...
وراءَ بابٍ
وسورٌ...
خلف سور
نباحُ كلاب مسعورة
يتردد في الأرجاء
وذبابٌ يطنّ عالياً
صانعاً سحابة سوداء
في العتمة.
من تلال القمامة هذه
مدينة كاملة
تعيش».
بهذه اللطشة الشعرية الخاطفة يمهد الشاعر لفعل الدخول في أجواء الديوان، كاشفاً عن طبيعة المدينة الخشنة التي تولي ظهرها للشحاذين والمهمشين وعابري السبيل، وكلما تعددت صورها في مرايا الأشياء تصبح أكثر خشونة وضجراً بالبشر والحياة. مدينة فقدت الإحساس بالنبل، اختلطت في كينونتها أزمنة القسوة والرعب بأبسط مقومات العيش والحياة، لكنها مع ذلك قادرة على غواية الشاعر، ووضعه دائماً على الحافة، ليفك العقد والفواصل السميكة، في اللغة والشعر والزمن والأشياء، ربما يمكنه الحلم بمدينة أخرى عادلة تنهض من بين حطام هذه الأزمنة.
وعلى عكس ما يوحي به الديوان من ثنائية الصياد والفريسة، بإيقاعها المباشر الذي تتسع محمولاته الرمزية لتشمل قضايا الواقع والوجود، يبدو صراع الذات الشعرية مع الفكرة أحد المحاور الأساسية لعالم الرؤية، فليس ثمة صياد محدد أو فرائس محددة، إنما الكل مجرد فكرة أو ظل لها في فروة الفريسة والصياد معاً، إنها لعبة تدعو للفرح، حتى لو كان مسكوناً بالدموع والبكاء أحياناً، فقسوة الأب وعصاه الغليظة التي تومض في مرايا البئر الأولى لا تنفصل عن قسوة الراعي والقطيع، بكل تمثلاتها السياسية والاجتماعية في المجتمع والحياة. كما أن نماذج البشر المهمشين المختارين بعناية في النصوص ليست مجرد عينة عشوائية، وإنما دوال على أن ثمة أفكاراً سقطت، انطفأ فيها نبض الحياة، سجنها الواقع في حيزها المعرفي المجرد، كإشارة باهتة على وجود معطل مشوه مستلب لم يخرج إلى النور.
ومن ثم، يلعب الديوان على شعرية الأفكار. ففي معظم النصوص، ثمة أفكار عن الخوف والقسوة، الندم والمغفرة، الحب والكراهية، الرحيل والغربة، لكنها لا تحضر كثنائيات ضدية عقيمة، وإنما كأشياء صنعها البشر، وأصبحت من لوازم الحياة. يبرز ذلك على نحو لافت في مقطع 97 (ص 128- 129)، حيث تتحول الفكرة إلى مشهد، سرعان ما يصبح مرثية للأشياء وللفكرة نفسها، عبر دوال تشي بأن ثمة حالة من الانتحار المتكرر تحتاج إلى بصيرة أخرى أبعد من حدود النظر العادية - بصيرة الأعمى:
«صحيح أنني أعمي
وأنني لا أرى ما يحدث حولي
لكن الله ابتلاني لسبب ما
برؤية ما يحلم به الناس؛
تمتد شعرية الأفكار في الديوان إلى مساءلة الشعر نفسه، ومعنى أن تكون شاعراً، وسط إحساس باللاجدوى، مشرب برذاذ من الفلسفة والتهكم والسخرية: «شخص تافه... كيف يجعل من صفحة بيضاء -فارغة أمامه- شبحاً يحاربه كل ليلة». تقفز هذه المساءلة من صيغة السؤال الحاد المربك عن الشعر إلى معنى المشهد وجودياً، فأن تكون أنت بطله، لا بد أن تمتلك الأشياء، أن يدل حضورها على أنك تنتمي لنفسك، لشيء ما يخصك، فالأشياء حدثت وسوف تحدث، وهي تتكرر يومياً. وفي كل الأحوال، لا بد أن تعترف بالنعمة، بأن هناك دائماً ما يستوجب الشكر؛ إنها روح المعادلة الصفرية الشجية التي أنهى بها هذا الديوان رحلته الشيقة، قائلاً: «أشكر يدي اليسرى... الصبورة التي تحملت مهانة ألا تكتب أبداً».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!