الناشرة فاطمة البودي: تزوير الكتب في مصر أصبح مخيفاً

قالت إن الجوائز تنتج رواجاً... لكنها لا تصنع روائياً جيداً

فاطمة البودي
فاطمة البودي
TT

الناشرة فاطمة البودي: تزوير الكتب في مصر أصبح مخيفاً

فاطمة البودي
فاطمة البودي

اقتحمت دكتورة فاطمة البودي صاحبة «دار العين» مجال صناعة النشر في مصر منذ سنوات طويلة، واستطاعت في ظل الصعوبات التي تواجه النشر الورقي أن تحقق لدارها اسماً معروفاً في الوطن العربي، وليس المصري فقط.
ومنشورات الدار لا تقتصر على الكتب الأدبية الأدب، وإنما تشمل العلوم الإنسانية والعلمية والفكرية... هنا حوار معها عن إشكاليات صناعة النشر، والتحديات التي تخوضها في ظل مشاكل التزوير والكتب الرقمية، وارتفاع أسعار الورق والطباعة.
> انفتحت تجربة «دار العين» على كتاب كثيرين في العالم العربي، ولم تقتصر على المصريين فقط... كيف استطعت تحقيق ذلك؟
- حينما أخذت قرار دخول عالم صناعة النشر لم أكن أعلم خفاياه ومخاطره ومتاعبه، الوصول للنجاح سهل، لكن الحفاظ عليه صعب. ووجدت القارئ المصري لا يعرف غير اللامع جداً من الكتّاب العرب، وخلال مشاركتي في معارض الكتب العربية تعرفت على الكثير من الكتاب المبدعين من المغرب العربي تحديداً، وقلت لماذا لا أكون وسيطاً بينهم وبين القارئ المصري؟ بعض الكتّاب لمعت أسماؤهم من خلال الدار، منهم من استمر معي ومنهم من استكمل مع ناشرين من موطنه. عموماً، أعتبر ما تقوم به «دار العين» حجراً في ماء راكد أثرته بوعي لتحقيق هدف الدار في نشر إبداعات لكل الكتاب العرب، وأعتبر إقبالهم على النشر من خلالنا شهادة نجاح للدار.
> في رأيك، ما نوعية القراء هذه الأيام، أو ما هي معاييرهم في القراءة؟
- اختلفت معايير القراء مؤخراً بشكل يخالف التوقعات، ودخل صنف من الكتب التي لا يمكن تصنيفها، وهو أمر يهدد صناعة النشر والعقول، فنجد المكتبات غارقة بآلاف الـكتب السطحية، أو كتب «تنمية بشرية»، وهو المسمى الذي انتهك من قبل بعض محبي الشهرة والمدونين. لا تخلو هذه الكتب من الأمور الغثة، لكن للأسف يقبل عليها جمهور معارض الكتب. وعبر 12 عاماً من المشاركة في المعارض تعرفت على نوعيات القراء، جمهور المعارض نوعان أساسيان من القراء، هما: المحترفون يأتون بقائمة كتب، بينما قراء آخرون يستقون قائمتهم من مشاهير «السوشيال ميديا» ويأتون فقط لاقتنائها، والتباهي بها على «إنستغرام» أو «فيسبوك».
أقول هذا رغم أنني كنت من أوائل دور النشر التي استثمرت وجود «السوشيال ميديا» فالصورة باتت مؤثرة، لكنها باتت مستثمرة في انتشار أفقي لا يعمق المعرفة ولا يخلق قارئاً واعياً. وأراها أشبه بموضة «المدونات» التي اختفت لأنها لم تنجح في ربط القارئ بها.
> ما تفسيرك لظاهرة انتشار الكتب المترجمة في العامين الأخيرين؟
- الأمر مرتبط بمِنَح الترجمة التي تقدمها المراكز الثقافية الأجنبية، وهو أمر له شقان: شق إيجابي، حيث نعيد الجسور مع الإنتاج الفكري المعاصر للغرب، وشق سلبي هو نشر كتب غير مناسبة لثقافتنا، أو لها توجهات وأهداف معينة، وللأسف بعض الناشرين يقعون في هذا الفخ.
الترجمة مهمة لا شك لأن القارئ يكون ضامناً ماذا سيقرأ من أعمال استقرت في الوعي الجمعي العالمي، لكن للأسف مثلاً سنجد هذا العام أكثر من دار نشر ترجمت الروايات الأجنبية نفسها. هنا يجب أن نضع في الاعتبار أن القارئ أصبح لا يقبل إلا على كاتب يعرفه أو مؤثر عالمياً، ولا يقدِم على شراء كتب لكتاب جدد. هذه الكتب تحتاج إلى أن نقنع القارئ بها.
في «دار العين» بدأنا سلسلة ترجمة أعمال فرجينيا وولف بـ«غرفة يعقوب»، وسوف أستمر لأنها لم تأخذ حقها في الترجمة العربية. ونحن بصدد ترجمة رواية «أورلاندو» لفيرجينيا وولف خلال مارس (آذار) المقبل. فرجينيا وولف أول من قدم تيار الوعي، وأعتقد أنها لم تُكتشف بعد بالنسبة للقارئ العربي، وسوف نتيح الكثير من أعمالها بالعربية. وسوف نصدر رواية «الخطيئة» للكاتب الروسي زاخر ريليبن، هو كاتب معاصر ورواياته لها رواج كبير.
> هل تظل ترجمة الأدب العربي للغات الأجنبية التحدي الأكبر أمام انتشاره عالمياً؟
- نريد أن تقوم وزارتا الثقافة والخارجية بتأسيس مكاتب في السفارات لدعم الترجمة من العربية للغات الأخرى، وطالبت بذلك في يوم المترجم. لا بد أن نستغل المكاتب الثقافية في العالم لهذه المهمة، حتى لو بكتابين من كل دار نشر. بدأ اتحاد الناشرين العرب ينفّذ الفكرة على استحياء في معرض فرانكفورت. لا بد من ترجمة الكتب التي تترجم فكرنا وثقافتنا المعاصرة دون أن تكون الترجمات للكتب التي تعالج الأمور الشائكة كـزنا المحارم والشواذ، وغيرهما. مع العلم أن الكاتب لا يعيش من دخل طبعاته في مصر، وإنما من دخل وعوائد كتبه المترجمة.
> ما رأيك في ورش الكتابة، هل أضافت إلى صناعة النشر؟
- هناك دور نشر كثيرة خاضت التجربة، وهو أمر محمود، لكن يجب أن يتم تحت إشراف مبدع متمكن. لا يمكن الحكم على هذه التجربة لأنها لم تسفر عن كتّاب لهم وزن، لكنها تساهم ربما في إخراج قارئ واعٍ.
> في تقرير لأكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف السعودية، أفاد بأن معدل نشر شعر الفصحى 1 في المائة فقط مما نشر عام 2019 في مصر، كيف ترين هذه النسبة الضئيلة؟
- للأسف، الشعر لا يحقق مبيعات مهما كبر اسم الشاعر أو الشاعرة؛ لأن المناخ العام خلال السنوات العشر الأخيرة اختلط فيه الحابل بالنابل، ولم نعد في أوج ازدهار ثقافي. الشعر دائماً يعبّر عن الحالة الوجدانية للمبدعين ويرتبط كثيراً بالكثير من أحوال المجتمعات. رغم ذلك لم أتوقف بعد عن نشر الشعر. والعام الماضي كنت الدار الوحيدة التي قدمت شعراء وشاعرات من مختلف أنحاء العالم العربي. أتمنى أن أظل صامدة.
> هل يمكن أن يعزى السبب للجوائز المتعلقة بالنصوص السردية، هل غيرت من متطلبات صناعة النشر؟
- الجوائز تسببت في شيئين: أنها تصنع رواجاً، لكنها لا تصنع روائياً جيداً أبداً. صحيح تصنع شهرة للدار وللكاتب، وأحياناً كتاب يستمرون أو يختفون. المشكلة في رأيي أنها تخضع لذائقة الحكام كمعيار أولي، وهناك دور نشر ظهرت فقط من أجل الجوائز ولم تسع لتقديم خدمة ثقافية حقيقية، ثم اختفت.
> حدثينا عن إطلاق «دار العين» جائزة الكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل وأدب «النوفيلا»؟
- أعلنت عن الجائزة أثناء معرض الكويت، وبعد وفاته تقديراً له ولدوره؛ لأنه رجل وطني وعروبي وكتب ثلاثية عن القاهرة من أورع ما كتب. إسماعيل احتضن الجيل الحالي من الكتاب الكويتيين والناشرين الحاليين، وترك زخماً وبصمة في الأدب الكويتي. الجائزة مخصصة للنوع الأدبي «النوفيلا»، وهو لا يزال مهملاً في عالمنا العربي، لكن إسماعيل كان داعماً له، فجاءت الجائزة لتخلد دوره. وقصدت ألا تكون قيمتها مالية، بل أدبية من خلال نشر العمل وتعزيز للكاتب في أنحاء العالم العربي... وسيكون تقليداً سنوياً إعلان أسماء الفائزين في معرض الكويت وتكريمهم بمعرض القاهرة للكتاب.
> ما هي أبرز التحديات التي تواجهك بصفتك ناشرة؟
- التزوير وصل لدرجة مخيفة، وفي محيط وسط القاهرة (أهم بقعة في مصر) ستجدين الكثير من الكتب المزورة في الشارع، والأدهى أنهم معرفون بالاسم ويقومون بتصديرها، وتم ضبط شحنات تذهب للعالم العربي. الموزع قد يتعامل مع هؤلاء ويضر بسمعة دور النشر. وأطالب اتحاد الناشرين العرب بتنقية جداوله من المزورين؛ لأنها مهنة نبيلة لا يمكن أن تضم هؤلاء بين جداولها. لا أعلم كيف يمكن أن تنتهي هذه الدائرة الجهنمية. صناعة النشر صناعة ثقيلة ومهمة ودخل قومي لا بد أن نحميه. ناهيك عن الكتب التي تتم قرصنتها على الإنترنت.
> ما رأيك في تجارب مدن النشر، وهل تحتاج مصر إلى مدن متخصصة للنشر دفعاً للصناعة؟
- التجربة في مهدها ومدينة الشارقة للنشر بدأت تحقق نجاحاً، خاصة مع استقرار بعض الناشرين السوريين في الإمارات، وهنا يجب أن أحيي الناشرين السوريين الذين لم ينقطعوا عن المشاركة في أي معرض، وأتمنى أن تعود الأوضاع كما كانت في سوريا وأفضل.
حالياً في مصر لا نحتاج إلى مدينة نشر، لكن في حاجة ماسة إلى تخفيض الجمارك على الورق. فالورق سلعة ثقافية، كما نحتاج إلى تخفيض أسعار الأحبار والأصباغ الخاصة بالطباعة، وهو ما سينعكس بالضرورة على سعر الكتاب. نريد مزيداً من التسهيلات حتى على إرسال الكتب خارج البلاد، ونحتاج إلى عقوبات رادعة للمزور؛ لأنه يؤثر على صناعة النشر ويسبب خسائر كبيرة للناشرين.
> هل يؤثر خمول الحركة النقدية بشكل ملموس على صناعة النشر؟
- حركة النقد تعاني ركوداً، والنقاد باتوا مقلين في الكتابة ويفضلون الصالونات الأدبية أو الندوات. والصفحات الثقافية أيضاً لم تعد تلعب دورها كما يجب.
> لماذا لا نجد اهتماماً بترجمة الأدب العربي لكتاب المهجر، ولا سيما المغرب العربي الفرانكوفونيين؟
- بالفعل هي قضية مهمة يجب أن نسعى لنشر إبداعات ياسمينة خضرا، وليلى سليماني، وآسيا جبار أيضاً. هذا أمر مهم ونسعى أيضاً لترجمة روايات معاصرة من أدب أميركا اللاتينية، كما أننا في «دار العين» بصدد ترجمة روايات معاصرة من الإيطالية والألمانية.
> كيف تقيّمين انتشار نوادي القراءة في مصر وأيضاً النوادي الافتراضية؟
- هناك اهتمام كبير بالقراءة في مصر والكثير من نوادي القراءة، مجموعات قرائية كبيرة ومتناثرة وهو أمر يسعدني. الكويت من أهم البلاد التي تلعب النساء فيها دوراً كبيراً في رواج نوادي القراءة والصالونات الثقافية، وأتمنى أن تمتد نوادي القراءة للمحافظات المصرية. لكني أفضّل أن يكون نادي القراءة في مكان أو دار نشر، يساهم في بيع الكتب وتجري مناقشة حية مع الكاتب أو الروائي، وأنا بصدد تأسيس نادي قراءة في «دار العين».
> ماذا عن تطور صناعة النشر عربياً؟
- هذا العام ازدادت دور النشر الكويتية والإماراتية وهي خطوات إيجابية جداً، إلى جانب دور النشر المصرية. وهناك معارض كتب مهمة تدعم هذه الصناعة، منها معرض الرياض للكتاب وهو من أهم المعارض العربية، ولا يتم منع أي كتاب من المشاركة فيه «نهائياً»، ومعرض الشارقة الأخير للكتاب كان مبشراً.



كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».