«فقراء لا يدخلون الجنة!»

«فقراء لا يدخلون الجنة!»
TT

«فقراء لا يدخلون الجنة!»

«فقراء لا يدخلون الجنة!»

قبل أسابيع التقيتُ في البحرين، جراح القلب المصري الشهير البروفسور مجدي يعقوب، على هامش جائزة عيسى الإنسانية، سألته: لقد أجريتَ أكثر من 20 ألف عملية قلب لمرضى من قوميات وشعوب وأعراق حول العالم... فهل وجدت خصوصية للقلب العربي؟!
كنتُ سأكتفي بإجابة عامة، تكون مدخلاً لدردشة مع هذا الرجل العظيم... لكنه تنّهد وأخذ نفساً عميقاً، وابتسم، ثم نظر في عيني قائلاً: لا تستغرب، فالإنسان العربي يتأثر بالجوانب العاطفية والمعنوية والروحية والانفعالات... وللقلب نصيب من هذا التأثر.
السير مجدي يعقوب، الذي يسمونه في بريطانيا «ملك القلوب»، شعلة من العطاء الإنساني، خاصة من خلال المؤسسة التي تحمل اسمه: مؤسسة مجدي يعقوب لأبحاث القلب، و«المركز العالمي للقلب بأسوان»، وتعمل المؤسسة والمركز على تقديم العلاج المجاني لآلاف المرضى في مصر، عدا عن المؤسسات الخيرية التي أنشأها في بريطانيا، والإنجازات العلمية الكبرى، وبينها المساهمة في تطوير صمام للقلب باستخدام الخلايا الجذعية.
كل هذه الأعمال التي قدّمت الخير والعلم والعلاج للإنسانية لم تشفع لهذا الرجل المعطاء والعالم المتواضع، أمام داعية شاب صنع له نجومية عبر الإعلام، ليحكم عليه بالنار.
أفتى الداعية الشاب عبد الله رشدي، أن الجنّة «للمسلمين فقط»!، وبناء عليه حكم أن «مجدي يعقوب إن مات على النصرانية ولم يدخل الإسلام فهو في النار، ولا تنفعه أعمال الخير للمرضى في الخروج منها».
في الحقيقة لا نعلم من فيهما أقرب إلى الله وإلى الجنة، ولكننا نعلم يقينا أن الطبيب الذي كرّس وقته لخدمة الإنسانية عِلْماً وطباً وعطاءً هو أشد قرباً لمقاصد الإيمان، وأكثر نفعاً لعباد الله فـ«خير الناس أنفعهم للناس».
الداعية المصري الشاب، الذي وضع نفسه قسيماً بين الجنة والنار، هو كائن مستلق على بطون الكتب التي غذته روح الاستئثار والاستحواذ والاستملاك ليس على الدنيا فقط، بل على الآخرة أيضاً. أطعمته هذه المنظومات الفكرية: الأنانية والغرور معاً، حتى ليجد نفسه، مع أولئك الشباب المندفعين نحو الجنّة على آلام ودماء وجثث الأبرياء، مالك الجنة وخازن النار معاً.
هذا الداعية أصبح منبوذاً من عموم الناس، لأنه مسّ قامة سامقة العطاء، باذخة السمعة، لكنه وغيره لن يجدوا من يردعهم إذا أخرجوا ملايين البشر من جنة الدنيا ونعيم الآخرة، لأن ثمة «فقراء لا يدخلون الجنة» فعلاً، كما يقول الفيلم المصري، والجنة هنا تعبير رمزي للشراكة المتساوية والعدالة الاجتماعية، وللحياة الهانئة والوادعة التي يحتكرها أمثال هذا الداعية، فلا يصل إليها الفقراء والمهمشون، الذين يكابدون المعاناة ويتوارثون الحرمان ويصارعون البقاء.
مشهد شبيه بما نراه اليوم في تداعيات وباء «كورونا»، الذي اخترق الحدود الجغرافية والقومية والدينية، ونجح في نشر الخوف والقلق بين الجميع... أصاب المجتمعات النابضة بالحياة فوحدها... وأتى على شعوب أخرى فقسمها وأخرج ضغائنها... حتى وجدنا عبارات التصنيف والشماتة والازدراء تقابلها عبارات الاتهام والتخوين والتمرد على القانون، والكل يحتكر جنة الدنيا والآخرة لنفسه دون سواه.



هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
TT

هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

القبلات المتطايرة التي تدفّقت من هاني شاكر إلى أحبّته طوال حفل وداع الصيف في لبنان، كانت من القلب. يعلم أنه مُقدَّر ومُنتَظر، والآتون من أجله يفضّلونه جداً على أمزجة الغناء الأخرى. وهو من قلّة تُطالَب بأغنيات الألم، في حين يتجنَّب فنانون الإفراط في مغنى الأوجاع لضمان تفاعل الجمهور. كان لافتاً أن تُفجّر أغنية «لو بتحبّ حقيقي صحيح»، مثلاً، وهو يختمها بـ«وأنا بنهار»، مزاج صالة «الأطلال بلازا» الممتلئة بقلوب تخفق له. رقص الحاضرون على الجراح. بارعٌ هاني شاكر في إشعالها بعد ظنّ أنها انطفأت.

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

تغلَّب على عطل في هندسة الصوت، وقدَّم ما يُدهش. كان أقوى مما قد يَحدُث ويصيب بالتشتُّت. قبض على مزاج الناس باحتراف الكبار، وأنساهم خللاً طرأ رغم حُسن تنظيم شركة «عكنان» وجهود المتعهّد خضر عكنان لمستوى يليق. سيطر تماماً، بصوت لا يزال متّقداً رغم الزمن، وأرشيف من الذهب الخالص.

أُدخل قالب حلوى للاحتفاء بأغنيته الجديدة «يا ويل حالي» باللهجة اللبنانية في بيروت التي تُبادله الحبّ. قبل لقائه بالآتين من أجله، كرَّرت شاشة كبيرة بثَّها بفيديو كليبها المُصوَّر. أعادتها حتى حُفظت. وحين افتتح بها أمسيته، بدت مألوفة ولطيفة. ضجَّ صيف لبنان بحفلاته، وقدَّم على أرضه حلاوة الأوقات، فكان الغناء بلهجته وفاءً لجمهور وفيّ.

بقيادة المايسترو بسام بدّور، عزفت الفرقة ألحان العذاب. «معقول نتقابل تاني» و«نسيانك صعب أكيد»، وروائع لا يلفحها غبار. الأغنية تطول ليتحقّق جَرْف الذكريات. وكلما امتّدت دقائقها، نكشت في الماضي. يوم كان هاني شاكر فنان الآهات المستترة والمعلنة، وأنّات الداخل وكثافة طبقاته، وعبق الورد رغم الجفاف والتخلّي عن البتلات. حين غنّى «بعد ما دابت أحلامي... بعد ما شابت أيامي... ألقاقي هنا قدامي»، طرق الأبواب الموصودة؛ تلك التي يخالها المرء صدأت حين ضاعت مفاتيحها، وهشَّم الهواء البارد خشبها وحديدها. يطرقها بأغنيات لا يهمّ إن مرَّ عُمر ولم تُسمَع. يكفيها أنها لا تُنسى، بل تحضُر مثل العصف، فيهبّ مُحدِثاً فوضى داخلية، ومُخربطاً مشاعر كوَقْع الأطفال على ما تظنّه الأمهات قد ترتَّب واتّخذ شكله المناسب.

هاني شاكر مُنتَظر والآتون من أجله يفضّلونه جداً (الشرق الأوسط)

تتطاير القبلات من فنان يحترم ناسه، ويستعدّ جيداً من أجلهم. لا تغادره الابتسامة، فيشعر مَن يُشاهده بأنه قريب ودافئ. فنانُ الغناء الحزين يضحك لإدراكه أنّ الحياة خليط أفراح ومآسٍ، ولمّا جرّبته بامتحانها الأقسى، وعصرت قلبه بالفراق، درّبته على النهوض. همست له أن يغنّي للجرح ليُشفى، وللندبة فتتوارى قليلاً. ولا بأس إن اتّسم الغناء بالأحزان، فهي وعي إنساني، وسموّ روحي، ومسار نحو تقدير البهجات. ابتسامة هاني شاكر المتألِّمة دواخلَه، إصرار وعناد.

تراءى الفنان المصري تجسيداً للذاكرة لو كان لها شكل. هكذا هي؛ تضحك وتبكي، تُستعاد فجأة على هيئة جَرْف، ثم تهمد مثل ورقة شجر لا تملك الفرار من مصيرها الأخير على عتبة الخريف الآتي. «بحبك يا هاني»، تكرَّرت صرخات نسائية، وردَّ بالحبّ. يُذكِّر جمهوره بغلبة السيدات المفتتنات بأغنياته، وبما تُحرِّك بهنّ، بجمهور كاظم الساهر. للاثنين سطوة نسائية تملك جرأة الصراخ من أجلهما، والبوح بالمشاعر أمام الحشد الحاضر.

نوَّع، فغنّى الوجه المشرق للعلاقات: «بحبك يا غالي»، و«حنعيش»، و«كدة برضو يا قمر». شيءٌ من التلصُّص إلى الوجوه، أكّد لصاحبة السطور الحبَّ الكبير للرجل. الجميع مأخوذ، يغنّي كأنه طير أُفلت من قفصه. ربما هو قفص الماضي حين ننظر إليه، فيتراءى رماداً. لكنّ الرماد وجعٌ أيضاً لأنه مصير الجمر. وهاني شاكر يغنّي لجمرنا وبقاياه، «يا ريتك معايا»، و«أصاحب مين»؛ ففي الأولى «نلفّ الدنيا دي يا عين ومعانا الهوى»، وفي الثانية «عيونك هم أصحابي وعمري وكل أحبابي»، لتبقى «مشتريكي ما تبعيش» بديع ما يُطرب.

ضجَّ صيف لبنان بحفلاته وقدَّم على أرضه حلاوة الأوقات (الشرق الأوسط)

استعار من فيروز «بحبك يا لبنان» وغنّاها. بعضٌ يُساير، لكنّ هاني شاكر صادق. ليس شاقاً كشفُ الصدق، فعكسُه فظٌّ وساطع. ردَّد موال «لبنان أرض المحبّة»، وأكمله بـ«كيف ما كنت بحبك». وكان لا مفرّ من الاستجابة لنداء تكرَّر. طالبوه مراراً بـ«علِّي الضحكاية»، لكنه اختارها للختام. توَّج بها باقة الأحزان، كإعلان هزيمة الزعل بالضحكاية العالية.