بدأ مهرجان برلين دورته هذا العام بدقيقة وقوف حداداً على أرواح من سقطوا في الحادثتين اللتين روّعتا مدينة هاناو الألمانية. وبذلك يظهر المهرجان موقفه غير الحيادي حول الحادثة العنيفة التي وُجهت ضد المهاجرين، حسبما صرّحت المصادر الرسمية الألمانية ذاتها.
مرتكبا الحادثة لم يضعا في بالهما مهرجان برلين، لكن المسؤولين مدركين أن الظروف العصيبة التي يمر بها العالم اليوم نتيجة الحروب التي سادت العراق وسوريا، وما تزال، قد تفجّر مواقف من هذا النوع.
ورغم ذلك، لا تلحظ تعزيزات أمنية غير معتادة: لا ترى قوى أمنية، من البوليس ومن الدرك وأجهزة أمنية أخرى، تتمشى في طول وعرض شوارع المهرجان، كما الحال في «كان» على سبيل المثال. بعض الموجودين هنا يعتبرون أن هذا دليل أمان مطلق، وبعض آخر يداهمه الشعور ببعض التوتر. وهذا البعض الأخير هو ذاته الذي استغرب عدم مشاهدة كمامات وقائية منتشرة بين الحاضرين في العروض الأولى للأفلام حتى الساعة، كما لو أن وباء «كورونا» لا يعدو كونه أكثر من مؤثرات وخدع سينمائية تقع في فيلم معروض خارج المكان.
- مشاريع جديدة
الغالب هو أنه حالما يعقد مهرجان العزم على دفع مسيرة دورته الجديدة إلى الأمام، فإن الأكثر أهمية من أي حادث أو خطر هو إنجاح الدورة، بكل ما تحمله من آمال وطموحات وجهد تم بذله طوال الأشهر السابقة؛ كل أرجائه ومنصاته وأقسامه تعمل كما لو كانت مصانع عليها ألا تتوقف قبل أن تؤمن الحد الأقصى مما تنتجه. وأحد هذه الأقسام «سوق الفيلم» التي تعقد كل سنة تحت اسم «يوروبيان فيلم ماركت». هذا العام لا يختلف في مستوى الجهد المبذول لجذب رجال الصناعة، من منتجين وممولين وموزعين، وتشجيعهم على إجراء العقود وإبرام الاتفاقات. وحقيقة أن «سوق الفيلم» في «كان» العام الماضي لم تشغل بال كثيرين، ولم تنتج عنها صفقات بمئات ملايين الدولارات كما التوقعات، شجعت السوق البرلينية على تعزيز نشاطاتها، ودعوة كثير من طاقم الصناعة لحضورها. هذا باستثناء الشركات الصينية التي لديها ما لديها من مشكلات نظراً لانتشار وباء «كورونا».
تميّزت السوق هذا العام بأنها تحمل عنواناً كبيراً، هو البحث عن «الطفيليات». فمنذ أن حظي «طفيلي» (Parasite( بأوسكاراته الأربع، وانطلق ليحقق أرقام بيع قياسية بالنسبة لفيلم كوري، والأعين مفتوحة على الفيلم الأجنبي الذي يمكن أن يعيد التجربة ذاتها هذا العام؛ التجربة التي مرّ بها فيلم بونغ دجون منذ عروضه في مهرجان «كان» السابق، والتي نتج عنها نجاحات كبيرة (نسبة للسينما غير الأميركية) في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأكثر من رقعة أخرى حول العالم.
- المسألة تجارية محضة
«طفيلي» أكد أن هناك جمهوراً كبيراً للفيلم الجيّد الذي قد يقطف الأوسكار بيد، ويلتقط مئات ملايين الدولارات باليد الأخرى. وصل الموزّعون باكراً هذا العام، وتم إبرام العقد الأول حتى من قبل أن تفتح السوق أبوابها. شركة «A24» اشترت فيلم المخرجة كلير دنيس المقبل «نجوم الظهر» (The Stars at Noon) الذي يقود بطولته روبرت باتنسون ومرغريت كوايلي.
أحد المستفيدين من هذا الزخم الجديد للبحث عن «طفيلي» آخر هو المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد الذي أبرم مع شركة «مومنتو» الفرنسية عقداً لإنتاج فيلمه المقبل «صالون هدى»، وهي الآن تسعى لمبيعات مبكرة، حتى من قبل أن يبدأ أبو أسعد التصوير.
سيكون هذا الفيلم هو الأول للمخرج الذي سبق له أن رُشح للأوسكار في قسم أفضل فيلم أجنبي مرتين: الأولى سنة 2006 عن فيلمه «الجنة الآن»، والثانية سنة 2013. وفي هذا الفيلم الجديد، سيعاود التصوير في فلسطين المحتلة، مع منال عوض في دور امرأة تدير شبكة تجسس في صالونها، وعندما يتم اكتشاف أمرها تضطر للهرب.
مثل هذه المواضيع الشائكة تسعد المنتجين والموزعين الباحثين عن بلورة الأفلام إلى نجاحات بناء على تلك الأزمات والصراعات التي لا تزال قائمة؛ إنها عنصر اهتمام للباحثين عن أفلام تطرح مشكلات واقعية، و«صالون هدى» يبدو أحدها، فهو استلهام لقصة حقيقية (وقعت أحداثها في بيت لحم)، وبطلتها امرأة في زمن «مي تو»، والقضية الأكبر هي تكتلات القضايا القائمة بين فلسطين وإسرائيل، من دون التوغل في السياسة على نحو مباشر.
- فيلم الافتتاح
على أن «طفيلي» ليس وحده الذي يعزز هذه الطاقة الموجهة للبحث عن أفلام يمكن أن تحمل صدى بعيداً. فعام 2019 شهد نجاحات أخرى مهمّة في هذا الصدد، بينها «منارة» (Lighthouse) و«سكاكين مسلولة»، وهي أيضاً من تلك التي شقت طريقها المستقلة بنجاح عادة ما تحققه الأفلام الناتجة بالكامل من المصنع الهوليوودي.
وتشاء الصدف أن تكون مرغريت كوايلي، التي سنراها في فيلم كلير دنيس «نجوم الظهر» وهي تبحث عن حقيقة دورها في خضم أحداث أمنية تقع في أميركا الجنوبية، هي بطلة فيلم الافتتاح الذي عرض يوم أول من أمس (الخميس).
هي ممثلة صاعدة (كذا درجة في كل خطوة) منذ عامين. بدأت -أيضاً- بأفلام مستقلة، ثم اختارها كونتِن تارنتينو لدور واحدة من هيبيات فيلمه الأخير «ذات مرة في هوليوود»، وها هي الآن تقود بطولة «سنتي السلنجيرية» (My Salinger Year)، للمخرج الشاب فيليب فالارديو.
الفيلم مأخوذ عن رواية كتبتها جوانا سميث راكوف عن الفترة التي قضتها موظفة في وكالة بيع نصوص أدبية، قبل أن تكتب وتبيع روايتها الأولى. جوانا راكوف ولدت في نيويورك، وليس في مدينة أميركية أخرى نزحت منها إلى نيويورك، كما في الفيلم. لكن هذه المفارقة لا تكفي لوصف الفيلم بأنه لا يستلهم الرواية استلهاماً شبه كامل.
جوانا في الفيلم، كما تؤديها كوايلي، فتاة رومانسية وديعة تترك لوس أنجيليس، وتصل إلى نيويورك، ثم تتصل ببعض الأصدقاء لكي تبيت عندهم. تتعرّف على موظف في مكتبة، وترتبط معه بعلاقة حب. وقبل أن تصل الأمور إلى تبادل العواطف، كانت قد وجدت عملاً في تلك الوكالة التي تديرها امرأة صارمة اسمها مرغريت (سيغورني ويڤر). طموحات جوانا ليست العمل سكرتيرة، كما اكتشفت أن هذا هو حالها، بل أن تكتب وتبيع وتحقق مستقبل في هذا الميدان. العمل سيمنعها، والخلاف مع صديقها يستشري، ما يجعلها تكتشف أنها سوف لن تحقق ما تصبو إليه إلا من خلال الانفصال عنه والاستقالة من العمل.
خلال الفيلم، يتكاثر الحديث عن الكاتب الأميركي جيروم سالينغر (أو J. D. Salinger كما يُشار إليه). وهو بدوره كاتب فعلي برز في الخمسينات والستينات، ثم قاد حياة بعيدة عن الأضواء فيما بعد. وفي مطلع التسعينات (الفترة التي تقع فيها أحداث الفيلم)، يعاود الظهور (توفي مطلع سنة 2010) راغباً في التعاون مع الوكالة لنشر رواية جديدة. جوانا كانت على إلمام كبير بأعماله وتتوق لمقابلته، لكنها لا تتعرّف عليه (في الفيلم) إلا قبيل نهاية الفيلم عندما يأتي في زيارة.
سيغورني ويڤر لا تقود البطولة، لكنها تخطف الأنظار الممعنة كلما ظهرت؛ تجربة الممثلة الشابة مرغريت كوايلي حيال تجربة ويڤر صعبة المقارنة. نعم، كوايلي لديها البراءة والعزم والتمثيل الجيد الذي يبرز هاتين الخاصيتين، لكن ويڤر هي التي تجسد الشخصية كما لو كانت هي. حركاتها تصبح تلقائية، تخرج من شخصيتها الحقيقية لتصبح مديرة الوكالة بلا جهد يذكر.
فترة حاسمة
لكن الفيلم، الممعن في ترداد أسماء الروائيين والشعراء تأكيداً على خلفياته الأدبية، يعاني من ملل بعض فتراته. السيناريو جيد، لكنه يتلكأ في الوصول إلى النتائج التي هي في الأساس متوقعة، والنهاية لا تحمل شحنة قوية، بل تنساب بالهدوء نفسه.
ما يلعب الدور المهم هنا هو حسن تقديم نيويورك التسعينات. إنه عن المدينة التي كانت تمر في مفترق الفترة بين الآلة الطابعة والكومبيوتر، بين القديم والحديث، التقليدي والمعاصر، التي ما زالت تعكس هذا التوازن حتى اليوم. وهناك ذكاء معالجة من قبل المخرج الشاب (ثامن عمل له وأكبرهم حجماً)، واختيار مرغريت كوايلي في مكانه، والمخاطرة هنا تكمن في أنه لم يصنع فيلماً من بطولة امرأة من قبل، والآن يجد نفسه ليس أمام فيلم من بطولة نسائية، بل يدور حول شخصية حقيقية في الواقع.
كثير من التعليق والحديث للكاميرا، لكن هذا يمر في قناة مبررة، فجوانا تلجأ لقراءة رسائل القراء الذين يبعثون بخطاباتهم عبر الوكالة، لكن سالينغر كان قد طلب من الوكالة ألا تحوّل له أي خطاب. وتجد مرغريت نفسها منجذبة إلى الخطابات التي تحمل ردّات فعل تكشف عن شخصيات مرسلي الخطابات. ففي تعليقاتهم ورغباتهم في التواصل مع مؤلفهم المفضل، يكتبون عن أنفسهم ويشرحونها. وهذا يزكي علاقة جوانا بالحياة، وربما -وهذا ليس وارداً في الفيلم- كان واعزاً خفياً لترك الوكالة ومحاولة الاستقلال بقرارها للمرة الأولى.
- برلينيات
• انتقد الرئيس دونالد ترمب فوز «طفيلي» في حفلة الأوسكار الجديدة، في خطاب ألقاه في ولاية كولورادو مؤخراً، فقال: «والرابح هو… فيلم من كوريا الجنوبية. لدينا ما يكفي من المتاعب التجارية مع كوريا الجنوبية. دعونا نعود إلى (ذهب مع الريح) و(صنست بوليفارد)… أفلام كثيرة عظيمة».
كما لم ينسَ براد بت من نقده. وكان الممثل قد انتقد الرئيس الأميركي إثر فشل محاكمته، فرد عليه الرئيس في خطابه قائلاً: «لم أكن معجباً ببراد بت. نهض وقال شيئاً متكلفاً. إنه شخص متكلف».
• تتمتع السينما الألمانية بدعم حكومي قدره 300 مليون دولار في السنة، والنتائج الإيجابية بادية على هذه الدورة. وفي الحقيقة، إن عدداً كبيراً من الأفلام مدرج هذا العام للتنفيذ. أحدها أول فيلم ألماني عن رواية إريك ماريا ريمارك «كله هادئ على الجبهة الغربية» (All is Quiet on the Western Front) التي قامت هوليوود بتصويرها مرّتين (1931 و1979).
• سخاء بولندي بالنسبة لعمليات دعم الصناعة السينمائية هناك، نتج عنه في العام الماضي تحقيق 23 فيلماً. إذا تم تصوير فيلم أجنبي في بولندا، فإن 30 في المائة مما تم صرفه في البلاد خلال التصوير سيعاد إلى المنتج. أما الميزانية المقررة لتحقيق أفلام بولندية، فقد بلغت 33 مليوناً و500 ألف دولار.