أعمال الصيانة تهدد أعرق وأجمل مسجد في السودان

جامع «فاروق» بالخرطوم.. عناق العمارة الفاطمية والأندلسية.. وعمره يتجاوز 400 عام

جامع «فاروق» أقدم وأشهر مساجد العاصمة
جامع «فاروق» أقدم وأشهر مساجد العاصمة
TT

أعمال الصيانة تهدد أعرق وأجمل مسجد في السودان

جامع «فاروق» أقدم وأشهر مساجد العاصمة
جامع «فاروق» أقدم وأشهر مساجد العاصمة

رسميا، هو مسجد «أرباب العقائد»، وشعبيا هو مسجد «فاروق»، أحد أقدم مساجد العاصمة السودانية الخرطوم وأشهرها، أما حكاية التسميتين فتتحمل مسؤوليتها نزعة الأسلمة التي استحدثها الحاكمون.
أطلق انقلاب الإنقاذ 1989 عقال صراع «التسميات» في المدينة، مستندا على مرجعيته الدينية «الإخوانية»، وحاول أسلمة كل شيء، فتأثرت بعمليات الأسلمة جغرافيا المدن وعمارتها.
ووفقا لهذا النزوع، فإن بعض ملامح الخرطوم حملت أسماء جديدة مستلة من التاريخ، لكن الناس ظلوا يستخدمون الأسماء القديمة رغم أنف التسميات الرسمية.
مثالا وليس حصرا، فإن «حي كوبر البحراوي» العريق، تحول إلى «عمر المختار» تيمنا بالمجاهد الليبي الشهير، بعد أن كان قد أخذ اسمه من «المستر كوبر»، أول مديري السجن القومي «سجن كوبر».
بين «أرباب العقائد وفاروق»، يقع في الطرف الغربي من الخرطوم أحد أقدم مساجد المدينة، وتقول عنه موسوعة «ويكيبيديا» إنه المسجد الأعتق، وإن عمره تجاوز 400 عام، في أول عهده كان عبارة عن مسجد و«خلوة» لتدريس القرآن، تخرج فيها علماء أفذاذ لعبوا دورا في الدعوة، هم الشيخ حمد ود أم مريوم، مؤسس «حلة خوجلي» بالخرطوم بحري، والشيخ خوجلي أبو الجاز، والشيخ فرج ودتكتوك، ومحمد ود ضيف الله صاحب «كتاب الطبقات» الشهير. أعيد تشييد المسجد في عهد خورشيد باشا إبان الحكم التركي للبلاد، ثم شيد الملك فاروق المبنى الحالي الذي أخذ اسمه منه.
شيد المسجد أول مرة بالمواد المحلية على يد الشيخ أحمد بن علي بن عون الذي عرف بـ«أرباب العقائد» في عام 1691. ويذكر مؤرخون أن هذا التأسيس كان سابقا لقيام مدينة الخرطوم نفسها بمئات السنين، وأن الذين تحلقوا حوله كانوا هم نواة سكان المدينة التي أصبحت لاحقا عاصمة السودان.
وأعاد والي مصر والسودان في العهد العثماني خورشيد باشا، بناء المسجد وتوسعته، بيد أن المبنى الحالي يرجع إلى عهد الملك فاروق ملك مصر والسودان في ذلك الوقت.
بدأت أعمال البناء في مسجد فاروق ويقع قرب الكنيسة القبطية بوسط الخرطوم 1946، على يد مهندسين ومعماريين مصريين، وافتتح رسميا سنة 1953 بحضور وزير الأوقاف المصري وقتها الشيخ أحمد حسن الباقوري.
ويقول الباحث في التاريخ الثقافي محمد كشان إن مسجد فاروق يُعد من أروع نماذج العمارة الإسلامية في السودان، وإنه شهد مراحل متعددة من «خلوة صغيرة» لتدريس القرآن إلى أن أصبح تحفة معمارية يندر وجودها بين مساجد السودان.
ويقول كشان في مبحثه إن «النمط المعماري» للمسجد عبارة عن مزج بين ملامح البناء الفاطمي والطراز الأندلسي.
ويضيف أن أعمدته زخرفت يدويا، فيما بنيت حوائطه من الحجر الصناعي، وزخرفت حوائطه الداخلية بطريقة النحت بالماء.
وينسب كشان إلى أستاذ العمارة د. هاشم الخليفة قوله إن روعة عمارة المسجد وجماله يكمن في صغر حجمه وبساطته، وإن جدرانه الداخلية بنيت من الحجر الرملي، وشيد على أعمدة من حجر الغرانيت.
ويوضح الخليفة أن مسجد فاروق اشتهر بأجمل أنواع المشربيات في السودان، التي تحيل إلى عمارة المماليك والعثمانيين، فيما طعمت أبوابه بالنحاس، وأن طريقة إنارته هي أجمل ما فيه، وتعتمد على «الفوانيس المتدلية» التي تحيل إلى العمارة الفاطمية.
ويعتقد الخليفة أن معمار المسجد قام على فلسفة تهيئة الإنسان للعبادة والتقرب إلى الله، لذا فإن معماره اتسم بالتناسق حتى لا تشغل الزخارف والنقوش على الحوائط المصلين عن العبادة، بما في ذلك تصميم المحراب الجمالي المستند إلى الفلسفة ذاتها التي لا تشغل المصلي عن عبادته.
ويكشف الخليفة أن المنافسة بين الإنجليز والمصريين في العمارة بدت بشكل كبير في بناء المسجد، ويقول: «بنى الإنجليز كنيسة القصر بالحجر الرملي، وبنى المصريون جامع فاروق بالحجر نفسه، وكان المُستفيد من هذا التنافس السودانيين». ويخضع المسجد حاليا لأعمال صيانة يخشى على نطاق واسع من إضرارها بتاريخيته وجمالية معماره، كما كشفت عمليات الصيانة عن وجود نفق بالطوب الحراري مبني أسفل المسجد، يمتد شرقا وغربا، وهو غير معروف من قبل، لكن لجنة المسجد قالت إنها تتخوف من إبلاغ أي جهة بالأمر بما في ذلك مسؤولو الآثار، خشية على مقتنيات أثرية ربما تكون هناك، سيما أن بعض مقتنيات المسجد الأثرية مثل النجفيات النحاسية القديمة التي كانت تتدلى من قبة المسجد تعرضت لعمليات سطو، واستبدلت بها نجفيات رخيصة.
ويخشى مصلون في المسجد من أثر عمليات الصيانة على جماليات المسجد، ويقول مصل إن جدران المسجد الداخلية، وهي من الحجر الرملي، غسلت بالماء، مما أدى لتقشرها وتشويهها، كما يشكون من التشويه الذي نجم بسبب صيانة شبكة الكهرباء في المسجد، وتوصيل شبكة وإضاءة خارجية شوهت جمال الجدران.
ويقول عضو لجنة المسجد وحارسه، إبراهيم، إن غسل الجدران بالماء خطأ يهدد جماله، ويتحدث إبراهيم بحسرة عن اختفاء نجفياته التاريخية تدريجيا منذ تسعينات القرن الماضي، ويضيف: «هذا المسجد قبلة ومزار لمختلف الجنسيات، ويجب الحفاظ عليه وعلى مقتنياته، باعتباره تراثا معماريا عريقا».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».