الهند تبنّت أساليب الطهي الفارسي شكراً لإمبراطورية المغول

أطباق اليوم عربون تقدير للتاريخ

البهارات سر النكهة في  المطبخ الهندي
البهارات سر النكهة في المطبخ الهندي
TT

الهند تبنّت أساليب الطهي الفارسي شكراً لإمبراطورية المغول

البهارات سر النكهة في  المطبخ الهندي
البهارات سر النكهة في المطبخ الهندي

بدأت إمبراطورية المغول، التي حكمت الهند لنحو 300 عام، عندما استولى مؤسسها بابور على دلهي في 1526، مما مهد لدخول فصل جديد في تاريخ الهند تم فيه جلب أساليب الطهي الموجودة الفارسية، وتلك الموجودة في آسيا الوسطى إلى الهند، وهو الأمر الذي أدى لوجود مجموعة متنوعة من الأطباق الهندية الشهية اليوم.
وقد كان المغول أصحاب ذوق فخم ورفيع، حيث كانوا يحبون الوصفات الغنية، والمعقدة، التي تضم مزيجاً لذيذاً من النكهات، والتوابل، والروائح، فالطبخ في المطابخ الملكية في ذلك الوقت كان بمثابة حالة عارمة من الألوان والنكهات، وغالباً ما كان يتم إضافة الحليب والقشدة واللبن الزبادي للكاري والمرق وذلك لجعلهم أكثر غنى، كما كان يتم تزيين الأطباق بالزهور الصالحة للأكل، والرقائق المصنوعة من المعادن الثمينة مثل الذهب والفضة.
وكان من المألوف أن يتشاور كبير الطهاة مع كبير الأطباء أثناء وضع قائمة الطعام الملكية، وذلك للتأكد من استخدام مكونات مفيدة على المستوى الطبي، فعلى سبيل المثال، كان يتم تغليف كل حبوب الأرز الذي يتم استخدامه لعمل أطباق البرياني بزيت يحتوي على الفضة، حيث كان يُعتقد أنه يساعد على الهضم كما كان يُستخدم كمنشط جنسي.
أما بالنسبة لمساهمات الأباطرة المغول أنفسهم، فقد أضاف كل منهم ذوقه في فصل خاص به، ولكن بابور، مؤسس الأسرة الحاكمة، هو مَن وضع الأساس، حيث إنه لم يجلب الجيوش فقط إلى الهند، ولكنه أيضاً جلب حنيناً هائلاً لطفولته التي قضاها في جبال أوزبكستان الصخرية، فلم يكن بابور من محبي الطعام الهندي، ولذا فقد كان يفضل مطبخ بلده في سمرقند، وخاصة الفواكه.
وتكشف الروايات التاريخية عن شيوع الطهي في ذلك الوقت في الأفران المدفونة في الأرض، حيث كان يتم دفن الأواني الفخارية المليئة بالأرز والبهارات وأي لحوم كانت متاحة، في حفر ساخنة وبعد اكتمال النضج كان يتم تقديمها للمحاربين، وكان طهاة بابور متمسكين، بشكل أساسي، في المقام الأول، بالحمية الغذائية المرتبطة بفترات الحرب، كما استخدموا تقنيات الشواء البسيطة التي استخدموا فيها بعض المكونات الهندية.
ومن المثير للاهتمام أن بابور قد قال، في سيرته الذاتية: «لا يوجد عنب، أو فواكه عالية الجودة، أو شمام أو رمان في الهند»، فلم يكن معجبا بالطعام الهندي المحلي، الذي كان يفتقر إلى البهارات والنكهات التي اعتاد عليها في مسقط رأسه في سمرقند، فقد كان يفتقد طعام فرغانة (وهو الإقليم الذي ولد فيه في آسيا الوسطى).
ولذا، فإن أول ما فعله كان إنشاء سلاسل لتوريد الطعام إلى الهند، والتي جلبت طعام أراضيه الأصلية إلى البلاد، وتقول الأسطورة إن بابور كان يبكي عند تذوق نكهة البطيخ الحلوة وذلك لأنها كانت بمثابة تذكرة مؤلمة له ببلاده التي يفتقدها.
وفي كتاب «الكاري: قصة طهاة وغزاة»، والذي صدر في 2006، كتب المؤرخ ليزي كولينغهام أنه «في نهاية حياته، اكتشف بابور أنه كان من الممكن زراعة العنب والبطيخ في الهند ولكن طعم البطيخ كان يجعله يشعر بالحنين إلى الوطن، وهو الأمر الذي كان يجعله يبكي».
وعندما طُرد نجل بابور، همايون، من الهند بواسطة الإمبراطور الهندي شير شاه صوري، فإنه لجأ إلى بلاد فارس، وعلى عكس والده، فقد كان الإمبراطور المغولي الثاني يوظف طهاة هنديين، والذين كانوا يقدمون له طبقاً من الأرز والبازلاء، وهو بمثابة النسخة الهندية من الكشري، وقد أدى ظهور المزيج الرائع من الأرز والبازلاء والزعفران إلى ولادة البرياني الهندي الذي يتم تناوله في أجزاء كثيرة من البلاد باعتباره جزءاً أساسياً من عادات الطعام الهندية.
وعند عودته إلى الهند، أحضر همايون عدداً كبيراً من الطهاة الفارسيين، الذين جلبوا إلى الهند أطباقاً تم تطويرها على مدى قرون، وبتعبير أدق، فقد كانت زوجته الإيرانية، حميدة، هي التي أدخلت استخدام الزعفران والفواكه المجففة في المطابخ الملكية خلال النصف الأول من القرن السادس عشر. وكان همايون مولعاً للغاية بمشروب «الشربات»، ولذلك فقد كان يتم تطعيم المشروبات في المطبخ الملكي بطعم الفواكه، وعلى هذا النحو، فقد كان يتم جلب الجليد من الجبال للحفاظ على هذه المشروبات باردة ولذيذة.
وقد تم ذكر الكثير من الوصفات التي تم استخدام كميات كبيرة من الزعفران فيها، في كتاب «Ain - i - Akbari»، الذي يتحدث عن حكم الإمبراطور المغولي الثالث، جلال الدين أكبر، من أبناء همايون، فقد قام المغول بزراعة هذه النباتات لتزويد الطهاة بالإمدادات الجاهزة، ويكتب كولينغهام: «أصبح الحلتيت شائعاً بين الأشخاص النباتيين في البلاد، فعندما يتم طهيه في الزيت، فإن مذاقه يصبح قريباً من مذاق الثوم، مما جعله بديلاً جيداً للبصل والثوم اللذين كانا يتم تجنبهما من قبل الهندوس المتدينين».
ومع ذلك، فإن المطبخ المغولي لم يبدأ في التطور بشكل حقيقي إلا خلال عهد الإمبراطور أكبر في الفترة بين (1555 - 1605)، فقد بدأ الأمر بفضل الكثير من الزيجات، حيث جاء طهاة من جميع أنحاء الهند وقاموا بدمج أساليب الطهي الخاصة بهم مع النكهات الفارسية.
والنتيجة كانت ظهور وجبات فريدة ومعقدة ولذيذة في المطبخ المغولي، فعلى سبيل المثال، هناك طبق مورغ موسلم الرائع، وهو عبارة عن دجاجة كاملة يتم تتبيلها بتوابل الماسلا، ثم حشوها بمزيج من التوابل واللحم المفروم والبيض المسلوق، ثم يتم طهيها لمدة طويلة للغاية، وهناك أيضاً طبق نافراتان كورما (أي الكاري المكون من تسع جواهر)، وهو طبق شهي محضر من تسع خضراوات مختلفة مغطاة بصلصة لذيذة مكونة من الكاجو والكريمة. كما أدخل الإمبراطور أكبر أيضاً النكهات المحلية في المطابخ الملكية، واختار أن يكون نباتياً عدة أيام في الشهر، وقد تضمنت قائمة الطعام المفضلة لأكبر الخضراوات الطازجة المزروعة في حدائق مطبخه الملكي، فضلاً عن أطباق محلية أخرى مكونة من الأرز.
وتماشيا مع الأفكار الملكية في الهند، فلم يكن الإمبراطور أكبر يستخدم سوى مياه نهر الغانغ للشرب، حيث يقول مؤرخ حكمه وصديقه، أبو الفضل، إنه كان حريصاً للغاية على أن تكون مياه الغانغ متوفرة دائماً في قصره، وأيضاً في رحلاته.
ومن المثير للاهتمام، أن أكبر كان نباتياً لمدة 3 أيام في الأسبوع، بل وقام بزراعة حديقة خاصة بالمطبخ الملكي، وذلك لضمان أن النباتات التي يتناولها يتم سقيها بعناية بماء الورد، بحيث تنبعث رائحة العطر من الخضار عند طهيه.
ويُعتقد أيضاً أن زوجة أكبر، جودا باي، هي مَن أدخلت الـpanchmel dal (عبارة عن 5 أنواع مختلفة من العدس مطبوخة معاً)، للمطبخ المغولي، وذلك إلى جانب مجموعة كبيرة من الأطباق النباتية الأخرى، وبحلول الوقت الذي تولى فيه شاه جاهان العرش، كان قد بات لدى المطبخ الملكي وصفة خاصة به من الـpanchmel dal. واستمر تطور المطبخ المغولي بشكل سريع في عهد جيهانكير، والذي كانت مقاليد الإمبراطورية حينها في قبضة زوجته العشرين، ميهرو نيسا (المعروفة باسم نور جهان)، فقد كانت شخصية قوية للغاية في البلاط الملكي، وكثيراً ما كان يتم إهداؤها أشياء فريدة من نوعها من قبل التجار الزائرين من دول أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وهولندا. وقد استخدمت نور جهان، التي كانت فنانة بالفطرة، هذه الأشياء الفريدة لعمل نبيذ أسطوري، ولبن زبادي ملون بألوان قوس قزح، وأطباق مزينة بأشكال جميلة من طلاء مصنوع من مسحوق الأرز وقشور الفاكهة المسكرة.
ومع ذلك، فإن المطبخ المغولي لم يبلغ ذروته سوى في عهد الإمبراطور شاه جاهان، والذي أمر الطهاة في المطبخ الملكي بإضافة المزيد من التوابل مثل الكركم والكمون والكزبرة إلى الوصفات الملكية، وذلك لخصائصها الطبية الهائلة، ومن المثير للاهتمام، أن الأسطورة تقول إن الطهاة قد أضافوا أيضاً مسحوق الفلفل الأحمر لإبقاء الأرواح الشريرة بعيداً.
وتفسر أسطورة أخرى أصول طبق الـ«نيهاري»، وهو مرق اللحم الحار المطبوخ ببطء على مدى ليلة كاملة في وعاء كبير يسمى shab deg، بأنه قد ظهر بعدما اجتاحت الإنفلونزا العنيفة شاهن آباد، عاصمة المغول التي تسمى الآن دلهي القديمة، وحينها عمل الطبيب الملكي وكبير الطهاة معاً حتى توصلوا لهذه التوابل القوية التي يتم وضعها في الحساء للحفاظ على الجسم دافئاً ومحصناً ضد العدوى، فيما تُرجِع قصة شعبية أخرى أصول البرياني إلى ممتاز محل، وهي ملكة شاه جاهان الجميلة التي ألهمته لبناء تاج محل، حيث يقال إن ممتاز قد زارت ثكنات الجيش في أحد الأيام ووجدت أن جنود المغول يبدون ضعفاء ويعانون من سوء التغذية، وحينها طلبت من الطاهي إعداد طبق خاص يجمع بين اللحم والأرز وذلك لتوفير التغذية المتوازنة للجنود، وكانت النتيجة هي طبق البرياني. وكان الأباطرة المغول يبهرون الحكام، والنبلاء، والضيوف الأجانب، وكبار الشخصيات الذين كانوا يجلسون على موائدهم، فقد كانت قائمة الطعام، التي يقوم بوضعها الحكيم (الطبيب الملكي)، تتكون من نحو 100 طبق، وكان يعد كل طبق منهم طباخ واحد، وكان الضيوف يأكلون على الأرض، فوق السجاد الفاخر المغطى بقماش أبيض، وكان الطبق الأساسي الذي يتم وضعه في منتصف الوليمة هو البيلاف (طبق مكون من الأرز المطبوخ بالسمن والتوابل واللحوم)، وذلك بجانب مجموعة كبيرة من الطيور والأسماك ولحم الضأن ولحم الغزال ولحم البقر المطبوخ بأشكال مختلفة، وبعد تناول الوجبات، فإنهم كانوا يغسلون أيديهم بالماء المعطر الذي يتم سكبه من الأباريق بواسطة الخدم.
أما في الأيام العادية، فقد كان الإمبراطور يتناول وجباته مع ملكاته، ولم تكن وجبات الطعام اليومية أقل سخاء من الوجبات التي كان يتم تقديمها في الولائم، كما كان المغول يتبعون العرف الهندي في ذلك الوقت من خلال بدء وجباتهم بتناول المخللات والزنجبيل الطازج والليمون، كما أنهم كانوا ينهون الوجبات بمضغ التنبول، ولكنهم أضافوا إلى العرف الهندي تقليد تناول الحلويات، أي تناول شيء حلو في نهاية الوجبة، وليس في البداية أو في الوسط. وبحلول الوقت الذي تم فيه إسقاط الإمبراطور المغولي الأخير من قبل البريطانيين في 1858، كانت هندوستان تم تغيرت إلى الأبد، فقد تركت القرون الثلاثة لحكم المغول إرثاً مستمراً من فنون الطهي، والذي غير شكل المطبخ الهندي بشكل كامل.


مقالات ذات صلة

وزيرة سويدية تعاني «رهاب الموز»... وموظفوها يفحصون خلو الغرف من الفاكهة

يوميات الشرق رهاب الموز قد يسبب أعراضاً خطيرة مثل القلق والغثيان (رويترز)

وزيرة سويدية تعاني «رهاب الموز»... وموظفوها يفحصون خلو الغرف من الفاكهة

كشفت تقارير أن رهاب وزيرة سويدية من الموز دفع المسؤولين إلى الإصرار على أن تكون الغرف خالية من الفاكهة قبل أي اجتماع أو زيارة.

«الشرق الأوسط» (ستوكهولم)
صحتك رجل يشتري الطعام في إحدى الأسواق الشعبية في بانكوك (إ.ب.أ)

دراسة: 3 خلايا عصبية فقط قد تدفعك إلى تناول الطعام

اكتشف باحثون أميركيون دائرة دماغية بسيطة بشكل مذهل تتكوّن من ثلاثة أنواع فقط من الخلايا العصبية تتحكم في حركات المضغ لدى الفئران.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق خبراء ينصحون بتجنب الوجبات المالحة والدهنية في مبنى المطار (رويترز)

حتى في الدرجة الأولى... لماذا يجب عليك الامتناع عن تناول الطعام على متن الطائرات؟

كشف مدرب لياقة بدنية مؤخراً أنه لا يتناول الطعام مطلقاً على متن الطائرات، حتى إذا جلس في قسم الدرجة الأولى.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق قطع من الجبن عُثر عليها ملفوفة حول رقبة امرأة (معهد الآثار الثقافية في شينغيانغ)

الأقدم في العالم... باحثون يكتشفون جبناً يعود إلى 3600 عام في مقبرة صينية

اكتشف العلماء أخيراً أقدم قطعة جبن في العالم، وُجدت ملقاة حول رقبة مومياء.

«الشرق الأوسط» (بكين)
يوميات الشرق التفوُّق هو الأثر أيضاً (أ.ف.ب)

الشيف دانييل هوم... أرقى الأطباق قد تكون حليفة في حماية كوكبنا

دانييل هوم أكثر من مجرّد كونه واحداً من أكثر الطهاة الموهوبين في العالم، فهو أيضاً من المدافعين المتحمّسين عن التغذية المستدامة، وراهن بمسيرته على معتقداته.

«الشرق الأوسط» (باريس)

المطاعم و«إنستغرام»... قصة حب غير مكتملة

ديكورات جميلة ولكن مذاق الطعام عادي (إنستغرام)
ديكورات جميلة ولكن مذاق الطعام عادي (إنستغرام)
TT

المطاعم و«إنستغرام»... قصة حب غير مكتملة

ديكورات جميلة ولكن مذاق الطعام عادي (إنستغرام)
ديكورات جميلة ولكن مذاق الطعام عادي (إنستغرام)

في الماضي، كان الناس يخرجون لتناول الطعام في مطعمهم المفضل وتذوق طبقهم الألذ فيه، أما اليوم، وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي وتوفر كاميرا الهواتف الذكية في كل مكان وزمان، ونشر صور الطعام على منصات رقمية على رأسها «إنستغرام» أصبحت زيارة المطعم لالتقاط الصور ومشاركتها مع العالم، دون أكلها أحياناً. ولكن هل كل ما تأكله الكاميرا قبل المعدة لذيذ كما تراه في الصورة؟

برغر سمك في "فيش إند بابلز " (إنستغرام)

هناك فئة من المطاعم التي تحمل مصطلح «إنستغرامابل» Instagrammable وتعني أنها تبدو جميلة على صفحات «إنستغرام» نظراً للتركيز على شكل الأطباق وطريقة تقديمها واستخدام الألوان فيها، بعيداً عن التركيز عن النكهة والمنتج المستخدم فيها.

وفي دراسة نشرت أخيراً على موقع رقمي متخصص بأخبار المطاعم والطعام، تبين أن تصوير مأكولات (تبدو شهية مثل الكيك وأنواع الحلوى المنمقة) قد تزيد من نكهتها قبل أكلها، والسبب قد يعود إلى أن مقولة «العين تعشق قبل القلب أحياناً» صحيحة، وذلك لأن العين هنا تقع في حب الطبق قبل تذوقه، فقط بسبب الصور التي نلتقطها.

طبق شهير نشرت صوره على وسائل التواصل الاجتماعي (إنستغرام)

في الآونة الأخيرة، وفي تغير واضح في طريقة تصرف الذواقة في المطاعم أصبح التقاط صور الطعام أمراً مبالغاً به، لدرجة أنه أصبح من الضروري الاستئذان من الجالسين على طاولتك قبل مد يدك لتناول الأكل بسبب اهتمام بعضهم بالتقاط الصور ونشرها على الإنترنت، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كل ما تلتقطه الكاميرا وينشر على الشبكة العنكبوتية يتمتع بنكهة لذيذة توازي الشكل الجميل؟

ديكورات تلفت الانظار والمهتمين بنشر صور المطاعم (إنستغرام)

هذا السؤال يذكرني بحادثة وقعت معي، بعدما تحمست لزيارة أحد المطاعم الإيطالية في لندن، بعد رؤية العديد من المؤثرين ينشرون صوراً لثمار البحر يسيل لها اللعاب، فقررت الذهاب وتذوق تلك التحف الصالحة للأكل، وللأسف انتهى الحماس بمجرد تذوق أول لقمة من طبق الأسماك المشكلة الذي جئت حالمة بصورته وتذوقه، فالمذاق لم يكن على المستوى الذي توقعته، خاصة أن لائحة الانتظار للحصول على حجز في ذلك المطعم طويلة مما اضطرني للتكلم مع المدير المسؤول في هذا الخصوص، والاعتراض على نوعية المنتج.

صور الطعام قد تكون خادعة في بعض الاحيان (انستغرام)

الأكل في أيامنا هذه بالنسبة للأجيال الصاعدة مثل «جين زي» وجيل الألفية يعدّ نوعاً من التعبير عن المكانة الاجتماعية والمادية، فنشر صور الأكل بالنسبة لهم يتعدى مفهوم التهام الطعام والتمتع بمذاقه، وإنما يكون نوعاً من المفاخرة والتباهي في أوساط مجتمعاتهم ومعارفهم.

فالطعام نوعان؛ الأول يركز على المذاق والنكهة، أما الثاني فيعتمد على التصميم الخارجي، تماماً مثل ما حصل مع دوناتس قوز القزح، أقراص الحلوى التي غزت الإنترنت وشبكة التواصل الاجتماعي، وسميت بـRainbow Food Craze فكل من تذوق هذه الحلوى بوصفة الدونات المعدلة والمبتكرة قال إن النوع التقليدي يتمتع بمذاق ألذ بكثير.

تاباس أسماك (إنستغرام)

هناك عدد من المطاعم حول العالم التي تشتهر بتقديم أطباق جميلة وجذابة بصرياً على «إنستغرام»، لكنها ليست بالضرورة لذيذة. غالباً ما يكون الهدف من هذه المطاعم هو جذب الانتباه من خلال الإبداع في العرض وتنسيق الألوان والتفاصيل الجمالية، ولكن عند تذوق الطعام قد يكون الطعم عادياً أو غير مميز.

فيما يلي بعض الأمثلة التي تُذكر عادة في هذا السياق، مثل مطعم «ذا أفو شو» في أمستردام المعروف بتقديم يعتمد بشكل كامل على الأفوكادو بطريقة مبهرة وجميلة، إنما هناك بعض الآراء التي تشير إلى أن الطعم لا يرقى إلى مستوى العرض البصري.

صور الطعام قد تكون خادعة في بعض الاحيان (انستغرام)cut out

أما مطعم «سكيتش» في لندن ويعدّ من المطاعم ذائعة الصيت والمميز بديكوراته الجميلة وألوانه الزاهية، فهناك آراء كثيرة حول مذاق أطباقه الذي لا يكون على قدر التوقعات العالية التي يولدها المظهر الفاخر.

ومطعم «شوغر فاكتوري» في الولايات المتحدة الذي يملك فروعاً كثيرة، وشهير بحلوياته ومشروباته المزينة بألوان مشرقة على «إنستغرام»، إلا أن الكثير من الزبائن يصفونه بأنه مجرد «سكر على شكل جميل»، ولا يقدم شيئاً مميزاً من حيث المذاق.

«إيل أند أن كافيه» في لندن، وهو غني عن التعريف، خاصة أنه من أكثر المطاعم التي تنشر صورها على «إنستغرام»، ومن بين أول المطاعم التي استخدمت أسلوب الديكور الذي يعتمد على الورود، فهناك من يعتقد أن أكله ليس جيداً على عكس الصور التي تنشر هنا وهناك.

برغر سمك في "فيش إند بابلز " (إنستغرام)cut out

«فيش أند بابلز» Fish & Bubbles الواقع في نوتينغ هيل بلندن، من المطاعم الإيطالية التي انتشرت بسرعة البرق على وسائل التواصل الاجتماعي، والصور والفيديوهات التي نشرها المؤثرون جرّت الكثير للذهاب إلى المطعم وتذوق ثمار البحر كما رأوها في الصور، ولكن الحقيقة هي عكس ذلك؛ لأن المذاق أقل من عادي والأسماك ليست طازجة، ومن زار هذا المكان فلن يزوره مرة ثانية.

ولمحبي البرغر فقد أغرتهم الصور في مطعم «بلاك تاب كرافت برغرز» في نيويورك بعد الشهرة التي حصل عليها على «إنستغرام»، إلا أن الكثير من الزبائن يجدون أن النكهات عادية، ولا تتناسب مع الشهرة التي حصل عليها على الإنترنت. ولا يتفق الكثير من الذين زاروا «سيريال كيلار كافيه» Celear Killer Café في كامدن تاون بلندن، الذي يقدم حبوب الإفطار بألوان زاهية وتنسيقات مبتكرة تجعلها مثالية للصور، أن الطعم يوازي روعة الصور، مما عرّض المقهى للكثير من الانتقادات، خاصة أنه ليس رخيصاً.

لائحة أسماء المطاعم التي تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي لتسويق أطباقها التي لا ترتقي للجودة المطلوبة لا تنتهي، والسبب وفي عصرنا هذا هو التسويق البصري والجذب السريع للزبائن، حيث يعتمد هذا النوع من التسويق بشكل كبير على الصور والفيديوهات القصيرة، خاصة على منصات مثل «إنستغرام» و«تيك توك». الأشخاص يتأثرون بالصور الجميلة والجذابة أكثر من أي شيء آخر. لذلك، عندما تكون الأطباق مصممة بشكل جميل ومبهج، يسارع الناس إلى تصويرها ونشرها، مما يوفVر للمطعم تسويقاً مجانياً وانتشاراً واسعاً.V

الكثير من الزبائن في يومنا هذا يسعون إلى أماكن مثالية لتصوير أطباقهم ومشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي. بعض المطاعم تلبي هذا الاحتياج عبر تقديم أطباق مبهجة بصرياً، مما يجعل المطعم وجهة مفضلة رغم أن الطعم قد يكون عادياً.

في السنوات الأخيرة، بدأ الطعام يُعامل بوصفه نوعاً من الفنون البصرية. فهناك اتجاه كبير نحو تقديم الطعام بطريقة إبداعية وفنية، مما يجعل من الصعب أحياناً التوفيق بين الطعم والتصميم. فالبعض يرى أن تصميم الطبق الجميل يستهلك جهداً كبيراً قد يطغى على الاهتمام بالتفاصيل المتعلقة بالطعم.

ولكن، وفي النهاية، لا يصح إلا الصحيح، ويبقى هذا النوع من المطاعم التي تهتم بالشكل والديكور وطريقة تقديم الأطباق لتشد الكاميرا وتتحول إلى صور يتهافت عليها الزبائن حالة خاصة؛ لأنها ستكون مؤقتة وستجذب الزبون مرة واحدة على عكس المطاعم التي تعتمد على جودة المنتج ونوعية الطعام وطعمه. كما أنه لا يجوز وضع المسؤولية كاملة على كاهل المطاعم إنما يتحمل أيضاً الزبون وبعض المؤثرين المسؤولية في تضليل الرأي العام، والتسويق لمطعم لا يستحق الشهرة والانتشار.