«حتى نهاية الزمان»... كيف نضفي معنى على تجربتنا البشرية؟

كتاب جديد لبرايان غرين يطرح فيه موضوعات فلسفية في سياق تناول مفاهيم فيزيائية

برايان غرين
برايان غرين
TT

«حتى نهاية الزمان»... كيف نضفي معنى على تجربتنا البشرية؟

برايان غرين
برايان غرين

ينشر يوم 18 من هذا الشهر كتاب للفيزيائي اللامع برايان غرين، صاحب أكثر الكتب مبيعاً، ومنها كتابه الشهير «الكون الأنيق». والكتاب الجديد بعنوان «حتى نهاية الزمان: العقل والمادة وبحثنا عن معنى في كون متطور». وهنا قراءة في الكتاب:
مَنْ هم الفلاسفة الحقيقيون في عصرنا هذا الذي يوصف بعصر موت الفلسفة؟ سيكون أمراً متوقعاً إذا تباينت الإجابات والأفكار بهذا الشأن، إنما هناك قناعة باتت تترسخ بأن الفيزيائيين (والرياضياتيين كذلك) هم الوحيدون الجديرون ليوصفوا بكونهم فلاسفة حقيقيين. وتتأسّسُ هذه القناعة على فكرة مفادُها أنّ الفلسفة هي في جوهرها مساءلة للموضوعات الكبرى في الكون، واستكشاف التأصيل الفكري الممكن لكلّ من الكينونات الثلاث الكبرى بحسب ترتيبها المنطقي: الكون، والحياة، والوعي. وقد تقنّعت هذه الموضوعات الثلاثة تحت تسميات وتوصيفات كثيرة منذ عصر بداية الفلسفة الإغريقية حتى انتهت في يومنا هذا لتتجوهر في هذه الثلاثية الإشكالية.
وشهدت العقود الثلاثة الأخيرة طفرة نوعية في المؤلفات التي تتناول هذه الثلاثية المعرفية من قبل فيزيائيين صاروا يعدّون في طليعة الفلاسفة الفاعلين في المشهد الفكري العالمي، ويمكن تعداد بعض الأسماء المهمّة المؤثرة في هذا الشأن: كارلو روفيلي، وشين كارول، وماكس تيغمارك، ونِك بوستروم، وماركوس دو سوتوي، وبول ديفيز، وميتشيو كاكو،... إلخ. ولا يمكننا هنا إغفال أحد الأسماء المهمّة في هذا الميدان: بريان غرين.
وقفز اسم بريان غرين (Brian Greene)، أستاذ الفيزياء والرياضيات في جامعة كولومبيا الأميركية العريقة، إلى طليعة أفضل الكُتّاب العلميين عقب نشر كتابه الذائع الصيت «الكون الأنيق» (The Elegant Universe) الذي حقّق نجاحاً كبيراً، وتصدّر قائمة أفضل الكتب مبيعاً لأسابيع عدّة، ثمّ تتالت النجاحات التي نالتها كتبه الأخرى: «نسيج الكون» (The Fabric of the Cosmos)، و«الواقع الخفي» (The Hidden Reality)، وأخيراً كتابه الذي سيصدر بعد أيام، وعنوانه «حتى نهاية الزمان: المادة والعقل وبحثُنا عن المعنى في عالم متطوّر» (Until the End of Time: Mind، Matter، and Our Search for Meaning in an Evolving Universe).
ويعمل بريان غرين، البالغ من العمر 56 سنة، بالإضافة لأستاذية الفيزياء والرياضيات، مديراً لمركز جامعة كولومبيا للفيزياء النظرية، ويعدُّ أحد الفيزيائيين الطليعيين المناصرين لـ«نظرية الأوتار» (String Theory) التي يعتقد كثير من الفيزيائيين بأنها ستمثّل المقاربة الصائبة لتحقيق التوحيد المرتجى للقوى الفيزيائية المعروفة.
ويتمايزُ هذا الكتاب جوهرياً عن كتب بريان غرين الأخرى، فهو أكثر مساءلة للموضوعات الفلسفية في سياق تناول المفاهيم الفيزيائية، وقد توسّع المؤلّف في ذائقته الفلسفية، فتناول موضوعات على شاكلة: تطوّر اللغة وعلاقته بالوعي البشري، والدين في عالم متغيّر، والسياسة والعلم والتقنية وصناعة القرارات ذات المفاعيل العالمية، وتعليم العلم في القرن الحادي والعشرين، وهو ما يمنح هذا الكتاب مواصفاتٍ أراها مسوّغة للإقرار بأفضليته وتفوّقه النوعي على الكتب الأخرى -ذات الطبيعة الفيزيائية التقنية المحضة- التي كتبها غرين، وفي الوقت ذاته هو السبب الذي جعل هذا الكتاب أكثر بدانة من الكتب الأخرى (448 صفحة، بسطور متقاربة وكلمات صغيرة مرصوصة رصاً). لكنّ الفائدة والمتعة المرجوّتين من هذا الكتاب تعادلان كلّ عناء القراءة والتنقيب والبحث الفيزيائي المشوب بمطيّبات فلسفية مستساغة.
وتُعدُّ ثنائية (المعنى - الغاية) موضوعة لطالما ظلّت تمثّل إشكالية على كلّ الجبهات المعرفية (فكرية، وفلسفية، وعلمية، وجودية). فمنذ بداية النهضة العلمية والتأسيس المعلن للعلم الفيزيائي، سادت قناعة (ميتافيزيقية الطابع) بأنّ المعنى كامنٌ في الغاية، ومشروط بوجودها، وقد صارت مشروطية ارتهان المعنى بالغاية عنواناً عريضاً لعصر التنوير الأوروبي، مثلما صارت ميداناً لمباحث فلسفية كثيرة أرادت جعل موضوعة (الغائية) مقترنة بكمال وجمال الوجود الإنساني، حتى على صعيد العلم الطبيعي، ويمكن في هذا الميدان أن نشهد كيف تحولت الفلسفة الديكارتية إلى نمط اختزالي ميكانيكي يجعل الموجودات (بدءاً من الكائن البشري حتى الكون) محكومة بقوانين ميكانيكية محددة تنقاد للفيزياء النيوتنية التي عُدّت في نهاية المطاف المثال الأكمل والأسمى في كيفية اقتران المعنى بالغاية.
إذن، كل الأشياء موجودة من أجل غاية محددة خليقة بخلع معنى متّسم بالمهابة والجلال، ويشي بالقدرة الخلاقة للصانع الأمهر (الإله كلي القدرة)، وقد أبدى العلماء من جانبهم انبهاراً -لم يلبث أن تعاظم مع الأيام- بالصياغات الرياضياتية المحكمة التي جاءت بها الميكانيكا النيوتنية التي صارت مسك ختام العلم الطبيعي، وأيقونته العصية على البلى أو الاندثار. وظلّ الأمر على هذا المنوال حتى بدايات القرن العشرين، وانبثاق الميكانيكا الكمومية التي قلبت الأسس الفلسفية للعلم الفيزيائي.
قد لا يُبدي بعض المنافحين عن وجود معنى للحياة، مقترن شرطياً بغائية فيها، ولعاً بالتفاصيل الفلسفية والرياضياتية والفيزيائية؛ لذا نراهم يحاججون بتلك الحجة اللاهوتية الأزلية: كيف يمكن تصوّر العيش في عالم غير ذي غاية ولا معنى؟ وهل ثمة إمكانية لوجود أخلاقيات في مثل هذا العالم؟ هم يسعون في طلب مرجعية أخلاقياتية في مكانٍ ما من العالم (أو الكون)، لكنّ التفكّر الوجودي والفلسفي سيقودنا في النهاية للاقتناع المُسبب بأن المرجعية إنما تكمن في دواخلنا نحن -لا غيرنا- من يصنعها ويشكّلها تبعاً لرؤيتنا الفلسفية وتوجهاتنا العلمية ومحرّكاتنا الأخلاقية.
ويناقش المؤلف في الكتاب -وباستفاضة مدهشة- الكيفية التي انبثقت بها الحياة البشرية عقب سلسلة متتابعة من الوقائع الكمومية الضخمة التي تعود إلى بدايات الانفجار العظيم. وعندما ندرك هذه الحقيقة التي ترى أنّ العقل والحياة إنما هما محض ظاهرتين عابرتين بالمقياس الكوني، فسندرك حينها الأهمية العظمى لمسعيين أساسيين في هذه الحياة: الأول أن نحاول بأعظم ما نستطيع من جهد ترك ميراث نبيل لنا بعد غيابنا، والثاني هو الإيمان بأن كلّ فردٍ فينا إنما أعطِي فرصة عظيمة ومدهشة لاختبار الحياة، ولا ينبغي تحت أي سبب أو ذريعة نسيان هذه الفرصة العظيمة التي سرعان ما ستنطفئ في لجّة الزمان الكوني.
إنّ فهم الكيفية التي تناغمنا بها مع الصورة الكونية الأشمل يظلّ دوماً مصدر فائدة عظمى، وإذا ما فهمنا هذا التناغم الممتد من الانفجار الكبير حتى نهاية التخوم الزمنية التي يمكن أن ينتهي معها الكون -وحياتنا كذلك- فسيقودنا هذا الأمر إلى إعادة تشكيل مفهومنا عن المعنى والغاية في الحياة: سندركُ أن ليس ثمة جوابٍ نهائي يجوبُ أعماق الكون منتظراً من كائنات بشرية مثلنا أن تكتشفه، بل إن معرفة حكاية السردية الكونية سترفع عنّا عبء البقاء مأسورين لذلك الهاجس الكوني اللحوح، وسيدفعنا في الوقت ذاته لتطوير أسبابنا الذاتية العميقة لموضوعة الغاية من وجودنا البشري، والتفكّر الحثيث في تلك الموضوعة مع كلّ طور ارتقائي في حياتنا.
ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان، هذا ما يؤكّده المؤلّف عندما يتناولُ موضوعة (الدين)، وهو يرى عسفاً راديكالياً وأصولية علمية من جانب بعض العلماء عندما يسائلون الدين على أساس كمّ المعلومات الحقيقية التي يمكن أن يقدّمها لنا في فهم الواقع الموضوعي. وليس هذا من الإنصاف أو المروءة لأعلى الصعيد القيمي أو البراغماتي، إذ تكمن فائدة الدين -بعيداً عن مواضعاته اللاهوتية- في قدرته على تحفيز نوعٍ من حسّ الانتماء الجمعي عبر رؤية حيواتنا في سياق كوني أكبر من النظرة الفردية الضئيلة، وتسكين مخاوفنا المتأصّلة تجاه حتمية الفناء والموت. ويورد المؤلف العبارة التالية في هذا الشأن: «عندما أتفكّرُ في سعيي الدائم لفهم ذاتي -باعتباري كائناً بشرياً- ولفهم الكيفية التي تتناغم بها كينونتي البشرية مع السلسلة الطويلة من الثقافة الإنسانية التي تمتدّ آلاف السنوات في عمق التاريخ البشري، فإنّ الدين جزء حيوي مفيدٌ للغاية في تلك الحكاية».
ومن المفيد هنا الإشارة إلى أنّ مثل هذه المساءلات الجوهرية للموضوعات الكبرى (الكون، والحياة، والوعي) إنما تنشأ منذ بواكير الطفولة؛ وبهذا تكون الطفولة مصدر التنوير والشغف المعرفي الذي ينبغي الانتباه إليه وتطويره. ويعترف بريان غرين: «منذ أن كنتُ طفلاً، تلبّسني ولعٌ عظيم في التفكير بهذه الأسئلة: لم أفكّر بـ(لماذا أنا هنا؟)، بل بـ(كيف جرى الأمر لأكون هنا؟)، ولم أفكّر بـ(لماذا يوجد كونٌ؟)، بل بـ(كيف حصل الأمر ليكون الكون على ما هو عليه؟). إنّ مثل هذه الأسئلة تقودك حتماً إلى قلب الفيزياء». ويكمن معنى الحياة وغائيتها في عقولنا وأرواحنا فحسب: هذا هو ما تعكسه هذه الأسئلة الجوهرية لطفلٍ يافع عبر التفكّر في سؤال (كيف؟)، بدلاً من سؤال (لماذا؟).
كتابُ غرين هذا هو أقربُ ليكون جولة رائعة يحكي لنا فيها المؤلّف كيف انبثقت الحياة والعقل من الفوضى الأولى، وكيف نخلعُ معنى على تجربتنا البشرية بوسائط عدّة: السرديات الكبرى (قصّة الخلق)، والأسطورة، والدين، والإبداع الخلّاق، والعلم، والأنساق الثقافية، والسعي الحثيث وراء الكشف عن الحقيقة، والتوق الغلغامشي إلى المطلق الخالد الأبدي.
بقي أن أقول: لا بد لهذا الكتاب (وأمثاله من أدبيات الثقافة الثالثة) أن يعطى أسبقية في الترجمة، بقصد إشاعة هذه الثقافة في أوساطنا العربية، وتحبيبها إلى القرّاء الشغوفين، وتشجيعهم على قراءتها وجعلها عنصراً إثرائياً لا غنى عنه في ثقافتهم العامة.
- كاتبة روائية مترجمة عراقية مقيمة في الأردن


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً
TT

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

تلتقط هدى بركات، في روايتها الجديدة «هند أو أجمل امرأة في العالم» الصادرة عن «دار الآداب» لحظة موت الأم. تلك الهنيهة المفصلية القاصمة، التي تنقل المرء من حالة عيشه اللحظوية، إلى مراجعة الذات واستقراء الذاكرة وإعادة ترتيب الماضي، على ضوء الفقد العضوي الباتر. هكذا تترك الروائية لبطلتها المصابة بمرض «الأكروميغاليا»، أو تضخم الأطراف، حرية أن تمضي جيئة وذهاباً على خط الزمن، في محاولة للتصالح مع الذات والذوات الأخرى التي أحاطتها.

حين تموت الأم

ماتت الأم إذن، وها هي هنادي تعود للوطن، وتجد نفسها في تلك الأماكن القديمة التي عرفتها برفقة والدتها، لكنها هذه المرة وحيدة، ومعها زادها الثقيل من الصور والحكايات التي انقضت، وتجربتها القاسية في الغربة، وحاضرها الصعب، وقد تعرضت البلاد لعواصف من الأحداث الأليمة، لعل آخرها انفجار مرفأ بيروت، الذي تبدو آثاره جلية في الرواية، وفي حياة الأهالي.

بالرواية شخصيات عدة: الأم التي رحلت وتركت خلفها علاقتها المتوترة مع هنادي، وهند الشقيقة التي رحلت باكراً، والجيران (أم منصور)، والعمات وعامل الإنترنت أحمد، والحبيب رشيد، وآخرون، يظهرون سريعاً ويغيبون. غير أن القصة تبدو للقارئ وكأنها «مونولوغ» طويل بسبب أن الراوية - هنادي التي على لسانها يدور السرد، وتتفرد وحدها بأن تحكي لنا قصتها، من وجهة نظرها وكما تراها، من زاوية خاصة بسبب المرض النادر الذي تعاني منه وجعل حياتها متفردة أيضاً. فهو ينتج عن اضطراب هرموني لا يجعل الشكل مشوهاً والرأس متضخماً، والجسد متعملقاً، والشعر كالإبر، فحسب، بل يتطور بمرور الوقت ويتسبب بإعاقات، وعلل تودي بصاحبها، أو في أحسن الأحوال تتسبب بتدهور صحته.

حال هنادي نعيشه معها وهو يتردى مع تقدم العمر، ويسهم أيضاً في تأجيج الذاكرة، وتفتيق الجراح. المشكلة تبدأ باكراً، حين تلحظ الأم المفتونة بالجمال أن هنادي التي أرادتها بدلاً عن ابنتها الفقيدة هند بجمالها الأخاذ، لن تكون كما تمنتها، بل ستجلب لها شفقة الآخرين ونظراتهم المواربة، عندما تبدأ تفقد حسنها، وتظهر عليها آثار المرض. «بدأت عظام رأسي تكبر على غير اتساق. ذقني يبرز بقوة» تقول هنادي: «وفكاي صارا كفكي رجل تجاوز المراهقة، مباعداً بين أسناني. عظام الحاجبين انتفخت كما عند القردة، وتكورت جبهتي وتحززت كطابة مبعوجة، وفقد صوتي نعومة صوت البنات».

لم تستسغ الأم الأمر ولم تتقبله، لذلك تحجب هنادي عن أعين الناس، تضعها في العلّية، تخبئها هناك، تناولها الأكل، وما يلزم، وربما غابت عن البيت لوقت، ونسيتها. بينما تقضي هي وقتها بقراءة تلك المجلات والكتب التي تركها والدها قبل أن يغيب. وحين يسأل عنها أحد من المعارف، تقول الأم عنها، إنها سافرت عند عمتها.

تحاول هنادي أن تجد المبررات لجفاء والدتها: «حرام أمي حبيبتي. مسكينة. كان ذلك فوق طاقتها. كانت تتعذب أكثر مني من بلوتي». لقد أصيبت الأم بصدمة من مرض ابنتها؛ وباتت تختفي وتنام في غرفتها بالساعات، تخرج من البيت ولا تعود، تستفيق في الليل وتبحلق بعينين مشدوهتين، كمن يستيقظ من كابوس.

البحث عن الذات

لا إحساس من هنادي بالضيم، إذن، بقدر ما هي الرغبة في الانفصال عن الأم، لكن عمتها التي لجأت إليها ترسلها بهدف العلاج، عند عمة أخرى في باريس، لن تعثر عليها أبداً. في المقابل، تقع هنادي في مطبات وتتعرف على شخصيات لكل منها سمتها، هناك غلوريا الراقصة النيجيرية التي تحنو عليها، وفرنسوا الذي يتبين لها بعد ذلك أنه رشيد، الجزائري الأصل، المبتور الذراع، صاحب الماضي الغامض، تربطها به صلة حب لم تكتمل، وسرعان ما يرجع إلى حياة التشرد والمخدرات. هذا ما سيقودها إلى رجعة باتجاه الوطن.

قليلاً ما انشغلت الروايات العربية بالعلاقة بين الأهل وأولادهم الذين يعانون من عاهات، وصلات تشوبها الكثير من التعقيدات، قد تتراوح بين الحب الجارف النابع من الشفقة، والنفور المتأتي من رفض القبول بواقع قاسٍ له تبعات ممتدة في الزمن. لكن هنادي، لا تحقد ولا تكره، بقدر ما تبحث عن نوافذ حب لتريح نفسها. «وأنا في بحثي الدائم بل المحموم عن أصول الحب وأغراضه، وخاصة حب الأم، أي حب أمي لي، كنت أحفر في كامل كياني كل معلومة أقرأها أينما وجدت». استشعرت هذا الحب مثلاً، حين أصيبت بالجدري، رأت لهفة أمها عليها. فحب الأم حقيقة لا شك فيها، إلا في بعض حالات الخلل الهرموني الشاذة. هذا كله لترتاح وتقول إن الأمر قدري، ولا مسؤولية لأحد: «أنا ملكة الهواجس... ملكة الحظ السيئ».

هنادي شخصية أقرب إلى اللطف والدعة، والأم تبدو وكأنها تمتلك الشيء وضده، لها سمات متناقضة، مما يصعّب على الابنة العائدة، بناء شخصيتها من جديد، تحاول كي تحرر نفسها من عبء العلاقة المتوترة مع الأم أن تجد لها مبررات لسوء مزاجها: «ربما صارت أمي قاسية ومنعزلة ولئيمة، أنا أيضاً قد أصبح كذلك، حين يشتد علي الألم. تصبح رؤية الناس أو سماع أصواتهم عذاباً خالصاً».

مناجاة الكائنات

وفيما يشبه الهروب أو مؤانسة الذات تلجأ هنادي إلى مصاحبة الشجر والنبات، والقطة زكية، التي ترافقها في يومياتها، والكلب رامبو، وشجرة التين الموجودة في الشرفة، وشجرة الصفصاف. تقضي وقتاً مع رشيد، وآخر مع الميكانيكي نبيل ونكتشف جانباً من شخصية هنادي وهي تتعرف على عالم جديد، عبر الإنترنت بمعونة أحمد العامل الباكستاني قرب منزلها. لكن الكاتبة تبقي كل هذه الشخصيات في خدمة الكشف عن أبعاد شخصية هنادي، وتلك العلاقة الملتبسة مع أمها، وكأنما هي حكاية نسائية أكثر من أي شيء آخر. ونساء لهن تجربة خاصة، لسن كبقية النساء. فالعلاقة بين الأم وشقيقها، بقيت متشنجة، ومع والدها لم تكن سهلة. هنادي هي الأخرى، كان حظها مع الرجال يتحرك صعوداً ونزولاً، لتنتهي في عزلتها.

هي أيضاً رحلة بحث الابنة الغائبة التي تشعر بالندم على ما فات. هربت لتريح والدتها منها. «هربي كان صفقة لصالحنا نحن الاثنتان... لكنها قد تكون تغيرت وندمت وحين ندمت لم يعد بمقدورها أن تجدني، وأن تعتذر مني».

تتحرى حقيقة شخصية الأم من رائحة الشراشف والنبش في الأغراض، ورق مخبأ، «لماذا احتفظت أمي بمزقة الجريدة هذه وقد طوتها بعناية؟ هل تكون نسيتها أو أضاعتها بين غيرها من الأوراق وتاهت عنها تماماً؟».

إيقاع هادئ

النص يسير وفق إيقاع هادئ، وبطيء، يواكب حركة هنادي التي تفتقد للحيوية بسبب المرض، إلى أن نكتشف في النهاية سرّ والدها، وقصته المثيرة، التي خبأتها الأم عنها. وهو ما يربط النص قليلاً بما نشهد من أحداث حالية. حيث إن الأب ذهب إلى إسرائيل مع العملاء الذين هربوا بعد حرب التحرير عام 2000 لا لأنه عميل بل اعتقد أنها وسيلة للهروب من وجه العدالة بعد ارتكاب جريمة بطريق الخطأ ومطاردته بهدف الثأر. ظن أن العودة إلى الوطن ستكون متاحة لاحقاً، لكنه بقي هناك، وفي إسرائيل صارت له حياة أخرى، نكتشفها في نهاية الرواية.

صحيح أن تيمة الحرب ليست في مركز القصة، لكنها مبثوثة فيها، هي في الخلفية من خلال غياب الأب وانكفائه عن الصورة، ثم حين يشكل المفاجأة بنهايته غير المتوقعة، ونكتشف أسراره الصادمة. الحرب حاضرة في التفاصيل اليومية، في تعامل الناس مع بعضهم، في انقطاع الماء، في غياب الكهرباء، وأزمات العيش.

رواية تأملية، هادئة، مشغولة بالحفر الداخلي الباطني، أكثر من عنايتها بالصخب الخارج والإيقاع الحياتي للبطلة. وهي مواكبة حميمة لامرأة مريضة، تكافح وحيدة، دون تبرّم كي تصل إلى نهايتها بسلام.