تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»

شخصية متميزة تنقّلت بكفاءة بين الصحة والسياسة

تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»
TT

تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»

تيدروس أدهانوم غيبرييسوس... «المحنّك الهادئ» في مواجهة «إعصار فيروس كورونا»

بقدرات دبلوماسية تأكدت بفعل الممارسة، وسمات شخصية تتوزع بين الهدوء والحنكة، ودوافع بعضها ذو طابع شخصي وأخلاقي، يقود اليوم الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، مدير عام منظمة الصحة العالمية، منذ عام 2017، جهود العالم بأسره في معركة التغلب على فيروس «كوفيد 19» (فيروس الكورونا المستجد) الفيروسي الذي يقض مضاجع العالم.
والواقع أنه عند ظهور أي وباء عالمي تتطلع الأنظار إلى منظمة الصحة العالمية، التي تعتبر في مثل هذه الأزمات المصدر الأول للمعلومات، التي يجب أن تتحلى بالدقة العلمية، دون أن يخلو الأمر من بعض الدبلوماسية في إدارة الأزمة دون تهويل أو تهوين. ومع اندلاع أزمة الوباء الفيروسي الجديد، انطلاقاً من الصين، برز اسم أدهانوم غيبرييسوس، المدير العام للمنظمة، الذي يدير المعركة بخبرات جمعت بين العالم والدبلوماسي، كما يشكل الواجهة الإعلامية والتوجيهية المسؤولة في مكاشفة جادة ورصينة، لا تهوّن ولا تهوّل.

الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، أكاديمي وخبير صحة عامة إثيوبي الجنسية إريتري المولد، بنى سمعته في مجال الصحة العامة كعالم في «الملاريا»، قبل أن يصبح وزيراً للصحة في إثيوبيا عام 2005، ثم يتولّى منصب وزير الخارجية عام 2012. وبعدها انتخب مديراً عاماً لمنظمة الصحة العالمية يوم 1 يوليو (تموز) عام 2017، ليغدو أول أفريقي يشغل هذا المنصب في تاريخ المنظمة البالغ عمرها 69 سنة.
تيدروس الذي تولى مهام منصبه بعد فترة وجيزة من انتهاء تفشّي فيروس «إيبولا» في غرب أفريقيا، وكان قد جادل كثيرون من النقاد يومذاك بأنه كان من الممكن التقليل من خطره لو كانت جهود منظمة الصحة العالمية أكثر فاعلية لاحتواء العدوى في بداياتها. وحالياً، بعد سنتين، لا تبدو مهمة تيدروس أسهل بكثير، إذ عاد «الإيبولا» مرة أخرى للظهور في الكونغو. وهو يواجه الآن مهمة أخرى تبدو أصعب من سابقتها، وهي «كوفيد 19» أي فيروس «كورونا» المستجد.
مع هذا، تعاملت منظمة الصحة العالمية مع الوباء الجديد، تحت رئاسة تيدروس، بشكل مختلف عن تعاملها مع «إيبولا» عند تفشيه في غرب أفريقيا عام 2005. وحسب رسائل إلكترونية مسرّبة، نشرتها محطة «فرانس 24» يوم 7 فبراير (شباط) الحالي، انتظرت المنظمة شهرين لإعلان حالة الطوارئ في غرب أفريقيا مع وباء «إيبولا»، مراعاة لتلك الدول التي قد تنظر لمثل هذا الإجراء على أنه يشكل تهديداً لاقتصادها، لكنها في الحالة الصينية أعلنت حالة الطوارئ سريعاً. إذ أعلنتها في 31 يناير (كانون الثاني) من العام الحالي بعد نحو شهر من ظهوره، رغم التعهدات الصينية باتخاذها ما يلزم للسيطرة عليه.

- أداء غير مسبوق
لقد أدار تيدروس الأزمة بدبلوماسية بدت واضحة في تصريحاته التي استبقت تساؤلات مريبة قد تثار حول تحول موقف المنظمة من النأي بنفسها عن الأزمة، تاركة الأمر للصين إلى إعلان حالة الطوارئ. إذ وصف فيروس «كورونا» المستجد في المؤتمر الصحافي، الذي أعلن خلاله حالة الطوارئ، بأنه «فيروس ينتشر بشكل غير مسبوق»، بالتالي وجه بـ«رد غير مسبوق». وتابع «إن السبب الرئيس لإعلان الطوارئ ليس ما يحدث في الصين، وإنما ما يحدث في دول أخرى، ومبعث القلق هو انتقال الفيروس إلى دول ذات أنظمة صحية ضعيفة».
ومن ثم أرسل بعدها رسالة طمأنة إلى الصين، قائلاً خلال خطابه أمام الجلسة الـ146 لاجتماع المجلس التنفيذي للمنظمة في يوم 3 من فبراير الحالي، إنه «لا مبرّر» للإجراءات غير الضرورية في حركة السفر والتجارة الدولية خلال أزمة تفشي الوباء.
لقد اكتسب تيدروس هذه الحنكة الدبلوماسية في إداراته للأزمات من خبرات جمعها إبان عمله في إثيوبيا، وخلال السنوات الثلاث التي أمضاها حتى الآن في رئاسة المنظمة، حيث واجه الكثير من الانتقادات. وهو أثناء حملته ليصبح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية عام 2017، اتهمه معارضوه بالتغطية على ثلاث حالات لاندلاع «الكوليرا» في إثيوبيا، إبان توليه مسؤولية وزارة الصحة. كذلك وصفت أطراف من المعارضة الإثيوبية ترشيحه للمنصب بأنها محاولة من الحكومة الإثيوبية لتبييض وجهها عالمياً، بسبب التجاوزات التي حدثت في ملف حقوق الإنسان.
تيدروس احتل أيضاً عناوين الصحف عندما اختار زعيم زيمبابوي روبرت موغابي، سفيراً للنوايا الحسنة لمنظمة الصحة العالمية عام 2017، وهو قرار تراجع عنه في نهاية المطاف، قائلاً في بيان أصدره في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، «خلال الأيام الأخيرة فكّرت في قرار تعيين الرئيس روبرت موغابي سفيراً للنوايا الحسنة لدى منظمة الصحة العالمية (للأمراض غير المُعدية) في أفريقيا، وقررت إلغاءه حرصاً على مصلحة الوكالة الأممية بعد الجدل الذي أثاره هذا القرار».
وفي هذا السياق، اعترف تيدروس في مقابلة مع مجلة «تايم» في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، أنه لا يلتفت كثيراً إلى الانتقادات، بل يظل هادئًا بشكل دائم في مواجهتها، كما أنه يصب طاقته في العمل، بينما يكتشف لاحقاً أنه ربما كان ينبغي عليه أن يأخذ بعضها على محمل الجد.

- دوافع شخصية
ومن المفردات التي دائماً ما تتردد على لسان تيدروس، حتى في الأزمة الأخيرة، هو الخوف من انتقال الوباء إلى الدول ذات الأنظمة الصحية الضعيفة، وهو ما ينسجم مع اهتماماته قبل أن يصبح مديراً عاماً للمنظمة، التي قد يرجعها البعض إلى انتمائه لأحد البلدان الأفريقية النامية. هذا الأمر لا ينكره الرجل، إضافة إلى وجود دافع شخصي وراء ذلك. إذ شغل تيدروس قبل انتخابه مديراً عاماً للمنظمة منصب وزير خارجية إثيوبيا في الفترة الواقعة بين عامي 2012 و2016، ونجح في إطار أدائه لهذا الدور في قيادة الجهود الرامية إلى التفاوض على خطة عمل أديس أبابا، التي التزم فيها 193 بلداً بتوفير التمويل اللازم لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي تهدف إلى تحسين الحياة بطريقة مستدامة للأجيال المقبلة.
المدير العام يقول في حواره مع مجلة «تايم» الأميركية، إنه كان مدفوعاً في هذه الاهتمامات بوفاة شقيقه الأصغر، الذي كان يبلغ 3 أو 4 سنوات فقط، بسبب ما يشتبه الآن أنه حصبة. ويضيف: «أنا لا أقبل ذلك حتى الآن... كنت قادراً على الشعور بالفرق بين الدول الفقيرة والغنية، عندما أمضيت في سن الثالثة والعشرين أربعة أشهر أدرس في الدنمارك بعد تخرّجي من جامعة أسمرة الإريترية حاصلاً على درجة علمية في علم الأحياء. هناك شاهدت رعاية صحية شاملة أثناء الدراسة، وتكثف الشعور عندما تعرفت على النظام الصحي الوطني في بريطانيا أثناء إقامتي هناك للحصول على درجة الماجستير في علم المناعة للأمراض المعدية في لندن في أوائل التسعينات من القرن الماضي». ويتابع تيدروس الكلام عن تجربته: «لقد كافحت من أجل تقليص الفوارق بين عالم يمكن أن يموت فيه الأولاد مثل أخي، بينما يزدهر الأطفال الآخرون في بلدان تتمتع بفرص أفضل للحصول على الرعاية».
وحقاً، في كلمته أمام منظمة الصحة العالمية بعد تقلّده المنصب، عكس الرجل هذا التوجّه، فقال إن رؤيته كمدير جديد للمنظمة الصحة تتمثل في وجود «عالم يمكن لجميع سكانه أن يعيشوا حياة صحية ومثمرة بغض النظر عن هويتهم أو أماكن وجودهم». قبل أن يعد أعضاء وفود الدول الأعضاء في الجمعية العامة للمنظمة بأن يستيقظ كل يوم «عاقداً العزم على إحداث فرق».

- جوانب شخصية من حياته
على عكس كثير من الناس الذين يحبون الاستيقاظ من النوم، ولديهم دوافع إيجابية، يقول تيدروس في حواره مع المجلة الأميركية، «ما يوقظني في الصباح هو المشكلة التي يجب معالجتها... لذلك أنا أواصل». وليس هذا فحسب، بل إنه يسعى إلى رؤية المشاكل على أرض الواقع، ولذا اعترف خلال الحوار نفسه بأنه يحب السفر إلى المناطق الريفية، قائلاً «أحب أن أرى أناساً حقيقيين... أحب أن أرى المشكلة، التي لا يمكن رؤيتها هنا في مدينة جنيف، حيث مقر المنظمة». وعن حياته الأسرية، قال «عندما أحصل على لحظة خالية نادرة، فإنني أمضي بعض الوقت مع زوجتي وأولادي الخمسة في جنيف، أو أقرأ كتب القيادة والإدارة».
أما عن هواياته، فهو يمارس رياضة المشي صباحاً، مرتدياً قميصاً أزرق اللون وسروالاً رياضياً ومنتعلاً أحذية رياضية. وهو على الرغم من توليه مهمات صعبة في ملفي الصحة والشؤون الخارجية، فهو يحتفظ بروح مرحة، تدفعه كثيراً إلى التحليق بعيداً عن هموم الصحة والسياسة لتلقيه في أحضان الدعابة.

- جوائز ومهام صعبة
أما موقع منظمة الصحة العالمية، فيشير إلى أن تيدروس نشر طوال حياته المهنية العديد من المقالات في المجلات العلمية البارزة، وحصل على جوائز وشهادات اعتراف بأعماله من جميع أنحاء العالم. كذلك فإنه حصل على العديد من الجوائز، منها وسام صربي عام 2016، ومُنِح في عام 2011 جائزة جيمي وروزالين كارتر للشؤون الإنسانية تقديراً لإسهاماته في مجال الصحة العمومية.
فضلاً عن ذلك، سمي واحداً من 50 شخصًا سيغيرون العالم في عام 2012 من قبل مجلة «وايرد» الأميركية، التي كتبت أنه استخدم تقنيات مبتكرة لإنقاذ حياة ملايين الإثيوبيين، وبدلاً من بناء مستشفيات باهظة الثمن، دشن برامج لتدريب 35000 عامل صحي، كما أصبح بإمكان النساء في عهده الوصول إلى برامج تنظيم الأسرة، وأصبح بمقدورهن الآن التخطيط لتوقيت أطفالهن والمباعدة بين الولادات. وتلقى الأطفال في عهده لقاحات منقذة للحياة وعلاج الأمراض القاتلة مثل الالتهاب الرئوي و«الملاريا» والإسهال. وخلال خمس سنوات، خفّض عمله من معدل وفيات الأطفال الإثيوبيين دون سن الخامسة بنسبة 28 في المائة.
كذلك صنّفته مجلة «نيو أفريكان» البريطانية، واحداً من أكثر 100 أفريقي نفوذاً لعام 2015 في فئة السياسة والخدمة العامة، ووصفته المجلة بأنه «القائد»، واعتبرت أنه وضع الناس في صميم سياساته، سواء وزيراً للصحة أو وزيراً للخارجية، كما ساهم كلاعب أساسي في التدخلات الإقليمية والوساطة الاستراتيجية لإثيوبيا في السودان والصومال.
وللعلم، كانت مصر على موعد معه على طاولة مباحثات «سد النهضة» أثناء توليه مسؤولية الخارجية الإثيوبية، وربما كانت مواقفه المرنة إلى حد ما، هي التي دفعت مصر إلى إعلان تأييدها المبكّر له عند ترشحه للمنصب.
ويبقى القول إن المدير العام من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يتابعه عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» حوالي مليون و16 ألف متابع، بينما يتابعه عبر «تويتر» حوالي نصف مليون متابع.

- بطاقة هوية: تيدروس أدهانوم غيبرييسوس
> ولد في مدينة أسمرة يوم 3 مارس (آذار) 1965.
> ينتمي إلى شعب التيغراي، وكان عضواً في جبهة تحرير شعب التيغراي والجبهة الثورية الديمقراطية للشعب الإثيوبي.
> درس علم الأحياء (البيولوجيا) في جامعة أسمرة وحاز فيها البكالوريوس في العلوم. ثم حصل على الماجستير في الأمراض المعدية والسارية من معهد الصحة وطب المناطق المدارية بجامعة لندن في بريطانيا، ثم حصل على الدكتوراه في الصحة العامة من جامعة نوتينغهام في بريطانيا.
> تولى منصب وزير الصحة بين 2005 و2012، بعد توليه مسؤوليات إدارية صحية.
> تولى منصب وزير الخارجية بين 2012 و2016.
> تولى منصب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية منذ 2017.


مقالات ذات صلة

«الصحة العالمية»: فيروس «إتش إم بي في» في الصين شائع ولا يشكل تهديداً

آسيا طفل يضع كمامة وينتظر دوره مع أسرته داخل مستشفى في شرق الصين (أ.ف.ب)

«الصحة العالمية»: فيروس «إتش إم بي في» في الصين شائع ولا يشكل تهديداً

قدمت منظمة الصحة العالمية، اليوم، تطمينات بشأن فيروس «إتش إم بي في»، وهو عدوى تنفسية تنتشر في الصين، مؤكدةً أن الفيروس ليس جديداً أو خطيراً بشكل خاص.

«الشرق الأوسط» (جنيف - بكين)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك صورة ملتقطة بالمجهر الإلكتروني قدمتها مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها تُظهر مجموعة من فيروسات «نوروفيروس» (أ.ب)

وسط انتشاره بأميركا... ماذا نعرف عن «نوروفيروس»؟ وكيف نحمي أنفسنا؟

تشهد أميركا تزايداً في حالات الإصابة بفيروس «نوروفيروس»، المعروف أيضاً باسم إنفلونزا المعدة أو جرثومة المعدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك تعلمت البشرية من جائحة «كورونا» أن لا شيء يفوق أهميةً الصحتَين الجسدية والنفسية (رويترز)

بعد ظهوره بـ5 سنوات.. معلومات لا تعرفها عن «كوفيد 19»

قبل خمس سنوات، أصيبت مجموعة من الناس في مدينة ووهان الصينية، بفيروس لم يعرفه العالم من قبل.

آسيا رجل أمن بلباس واقٍ أمام مستشفى يستقبل الإصابات بـ«كورونا» في مدينة ووهان الصينية (أرشيفية - رويترز)

الصين: شاركنا القدر الأكبر من بيانات كوفيد-19 مع مختلف الدول

قالت الصين إنها شاركت القدر الأكبر من البيانات ونتائج الأبحاث الخاصة بكوفيد-19 مع مختلف الدول وأضافت أن العمل على تتبع أصول فيروس كورونا يجب أن يتم في دول أخرى

«الشرق الأوسط» (بكين)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.