البلاستيك لا يزال مادة محببة في النرويج

بفضل نظام استرجاع العبوات الذي أدى إلى إعادة تدوير 97 %

تدوير البلاستيك في مدينة فيتسوند جنوب شرقي النرويج (أ.ف.ب)
تدوير البلاستيك في مدينة فيتسوند جنوب شرقي النرويج (أ.ف.ب)
TT

البلاستيك لا يزال مادة محببة في النرويج

تدوير البلاستيك في مدينة فيتسوند جنوب شرقي النرويج (أ.ف.ب)
تدوير البلاستيك في مدينة فيتسوند جنوب شرقي النرويج (أ.ف.ب)

بفضل نظام محكم، وجدت النرويج حلاً للاستهلاك المفرط للبلاستيك يقوم على فرض رسم إضافي على قناني المشروبات يتكبّده المستخدم على أن يسترجعه عندما يعيد العبوة الفارغة إلى المتجر.
تدخل امرأة متقاعدة العبوات الفارغة الواحدة تلو الأخرى في فتحة جهاز عند مدخل متجر قرب أوسلو.
وتقول المرأة السبعينية: «يجب التخلّص من البلاستيك، ويمكن القيام بذلك بذكاء»، التي حصلت في مقابل العبوات المستردة على قسيمة بقيمة ثلاثين كرونة (3 يوروات) يمكنها استخدامها على الصندوق إمّا لدفع ثمن بعض المشتريات وإما الحصول على المال نقداً.
تعدّ النرويج «تلميذاً مجتهداً» خصوصاً أنها تقوم بإعادة تدوير نحو 97 في المائة من العبوات البلاستيكية. وهي تجاوزت بتقدم عشر سنوات الهدف المُحدّد من الاتحاد الأوروبي، والذي يقضي بإعادة تدوير البلاستيك بنسبة 90 في المائة بحلول العام 2029 قبل عشر سنوات تماما.
في المقابل، تسجّل فرنسا معدّل تدوير بنسبة 60 في المائة علما بأنها أجّلت العمل بنظام الاسترداد هذا إلى العام 2023.
ويعدّ هذا النظام السبب الرئيسي لنجاح الدولة الاسكندنافية، خصوصاً أنه يقضي بفرض سنتات إضافية على المستهلك في مقابل الحصول على الزجاجات المعبّأة، على أن يتمّ استرداد هذه الرسوم بعد إعادة العبوات الفارغة.
ويشرح كييل أولاف مالدوم، مدير جمعية «إنفينيتوم» التي أسّستها مجموعة من المنتجين والموزّعين لإدارة نظام الاسترداد الجديد أن «المستهلكين يشترون بذلك المنتج فيما يستأجرون عبوته».
وبات هذا المفهوم جزءا لا يتجزأ من العادات المعمول بها، مع إدخال مصطلح جديد في اللغة النرويجية للإشارة إلى ضرورة ردّ العبوات الفارغة وتطبيق النظام الجديد.
أمّا المكافأة فتتمثّل بإعطاء المستهلكين خيار استثمار القيمة التي يجمعونها بعد إعادة العبوات الفارغة في ألعاب الحظ تخدم هدفاً نبيلاً.
أعيدت أكثر من 1.1 مليار عبوة مصنوعة من البلاستيك والألمنيوم في العام 2018، سواء عبر الآلات الموضوعة عند مداخل السوبر ماركت أو في محطّات الوقود مباشرة أو غيرها من نقاط البيع الصغيرة.
في فيتسوند، على بعد نحو 30 كيلومتراً شمال شرقي أوسلو، تتدفّق شاحنات كبيرة بصورة مستمرّة، لتفريغ آلاف العبوات الفارعة في المركز الرئيسي لمعالجة البلاستيك التابع لجمعية «إنفينيتوم».
هنا يتمّ فرز عبوات المياه والعصير والمشروبات الغازية، وضغطها ووضعها ضمن حزم تشكّل مكعبات ضخمّة متعدّدة الألوان وغير قابلة للذوبان، قد تتحوّل إلى سلع مختلفة بعد إعادة تدويرها.
في الواقع، تحتوي كلّ زجاجة بلاستيكية جديدة في النرويج على 10 في المائة من المواد المعاد تدويرها وهو ما يعدّ أكثر مراعاة للبيئة.
وأوضحت وكالة الصحافة الفرنسية أن الدولة الاسكندنافية تسعى إلى زيادة هذه النسبة، من خلال مشروع قانون ضريبي تنازلي لتشجيع استخدام البلاستيك المعاد تدويره بدلاً من البلاستيك الجديد الذي يعدّ أرخص حالياً.
يقول هارلد هنريكسن، مدير في شركة «تومرا» العالمية المصنّعة لآلات استرداد العبوات إن «وضع العبوات الفارغة في الآلة يدخلها في حلقة حميدة، بحيث يمكن إعادة استخدامها لتصنيع عبوات جديدة مراراً وتكراراً». في نموذج اقتصاد التدوير هذا، تصبح النفايات مورداً ذات قيمة، ما يشجّع على جمعها وإعادة تدويرها. واستقطبت هذه الفكرة الكثير من الدول الأخرى.
على سبيل المثال، يقول هنريكسن: «في ليتوانيا ارتفع معدّل جمع العبوات من 34 في المائة إلى 92 في المائة خلال عامين، بعد اعتماد نظام استرداد العبوات».
ووفقاً لـ«زيرو ويست يوروب»، يعدّ نظام استرداد العبوات «الأداة الوحيدة» لاحترام خريطة الطريقة التي وضعها الاتحاد الأوروبي، لكن هذه المنظمة غير الحكومية تدعو إلى اتباع نظام «مختلط» يشمل أيضاً استرداد العبوات الزجاجية لإعادة استخدامها، وتوسيع نطاق هذا النظام ليشمل الكثير من الأغلفة البلاستيكية.
ويفيد الصندوق العالمي للطبيعة بأنه يتمّ إلقاء ما يعادل 15 طنّاً من البلاستيك في المحيطات في كلّ دقيقة. ولا ينكر المتخصّصون النرويجيون الحاجة لتخليص الكوكب من هذه الآفة إلا أنهم يعتبرون أن هذه المادة الخفيفة والعملية وغير المكلفة لا يزال أمامها مستقبل مشرق. ويسأل الدوم «هل تكمن المشكلة في البلاستيك نفسه أو بطريقة تصرّف المستهلكين؟ البلاستيك لا يزال رائعاً ولكن دعونا لا نلقيه في الطبيعة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)