أذن مضادة لتنثير الشعر

لم تعد قصيدة النثر العربية معنية بالبحث عن شرعيتها وتقصي أصولها في الموروث الأدبي

ناقد سعودي
ناقد سعودي
TT

أذن مضادة لتنثير الشعر

ناقد سعودي
ناقد سعودي

ناضلت قصيدة النثر العربية لتحرير الشعر من فكرة كونه الكلام الموزون المقفى، وهي معركة محسومة أصلاً عند بعض المناقدة العرب منذ زمن بعيد، حيث أكد الجرجاني أن الشعر لا تنبني قوته على وزنه أو قافيته، بل يحدث التأثير الشعري لدى المتلقي لأن الشاعر «قدم وأخر، وعرف ونكر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرر». وهو منحى تنظيري يتوفر عند جان كوهن في نظريته «الانزياح». إلا أن بعض رموز قصيدة النثر أرادوا تضخيم ذلك الوثن للبناء على أطلاله منصة انطلاق لمفارقة السلفية الشعرية العربية، وكأنهم يستأنفون كتابة الشعر من صفر تنظيري، بمعنى التبشير بنص حداثي الملامح، فردي النزعة بالضرورة، حيث اشترط يوسف الخال في كتابه «الحداثة في الشعر» أن يعبر الشعر عن «رؤيا الشاعر الشخصية الفريدة».
عندما التقط بودلير خيط الضوء النحيل لقصيدة النثر صرخ «إنها خطرة كالحرية» انطلاقاً من معرفته العميقة بما تعد به كأداة تعبير واسعة ومغوية لكل من أراد التعبير عن وجوده. وهذا هو بالتحديد مأزق وامتياز قصيدة النثر العربية، لأن تهشيم عمود الشعر، وتجريف الوزن، بقدر ما فتح الباب على اتساعه للتجريب المتطرف، والتفكير المتمادي عبر اللغة، والسير بالتعبير الشعري عكس اشتهاءات رياح التلقي، بقدر ما أثار السؤال الوعر عن ماهية الشعر الجديد الذي يعاند الوزن والقافية ورنين أجراس القصيدة العمودية، ولكنه لا يصرح بمعالم التفكير الشعري الأحدث. وهو ملمح مربك استدركه أدونيس فيما سماه «أوهام الحداثة»، التي ترتكز فقط على معاداة الأوزان، في الوقت الذي كان فيه محيي الدين اللاذقاني ينادي بالحداثة اللازمنية، وعدم إهمال حداثة النص ذاته، مندداً في كتابه «آباء الحداثة العربية» بمن سماهم أصنام الحداثة الذين فرضوا «رؤية قاصرة للحداثة تعزلها عن سياق الحياة، وتحولاتها السياسية والاجتماعية وتحصرها في تشطير البيت الشعري وتجريد الشكل واللون».
ومنذ نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، تغير المشهد الشعري العربي على إيقاع تنامي «قصيدة الملاعين» بتعبير أنسي الحاج، وكأن الإنسان العربي بات يعيش بالفعل نثرية الحياة التي تحتم عليه بالضرورة تغيير مفاهيمه القديمة للشعر والامتثال لما تطرحه قصيدة النثر كمعادل لتلك الحالة الشعورية المفهومية الممتدة بعمق واتساع وشمولية في قلب المشهد الحياتي، أي الكتابة داخل رحم زمني هو بمثابة الوجود التاريخي المعاش الذي يحدد حداثة النصوص المتناسلة بكثافة وصلابة آنذاك، بحيث لم تعد كتابة قصيدة النثر تعني مجرد فرط البيت الشعري في سطور متقشفة ومتتالية، لضبط هذيانات الذوات الحائرة الساخطة، بل أُريد لها أن تكون هي الشكل الجوهري للتفكير، كما تفترض قصيدة النثر التي تحولت بدورها إلى ملكية عامة ومشاعة لكل من يريد التماس مع الوجود بذات تستشعر قدرتها على الأداء النثري الشعري.
لم يكن من السهل ظهور ذلك اللون الإبداعي، ومروره على الذائقة العربية بسهولة، ومن دون مساجلات واحتجاجات أدبية وآيديولوجية، فدرس الأنواع الأدبية والأجناسية من أصوليات المنهج المدرسي العربي والذائقة العربية كذلك، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالشعر بصفته خزان القيم الجمالية والمعرفية للإنسان العربي. ولذلك بدا التفكير في تغيير مواضعات التعبير الشعري بمثابة القرار التاريخي لتغيير طرائق التفكير في الوجود أكثر من كونه مجرد نزوة شكلية. وتلك هي النقطة التي انتهى إليها السجال، كما تشي بذلك قصيدة النثر في جوهرها، حيث يمكن بموجب ذلك التصور تفسير ضراوة العناد الذي أبدته الذائقة العربية، وما زالت تبديه، كحالة عصيان شكلي يختزن في مضمراته رفضاً لمضامين وروح التماس الجديد مع الوجود، إلى جانب مراودات عنيفة لطمس قصيدة النثر، ليس كبديل وحسب، بل حتى كخيار.
من هذا المنطلق ينبغي التعامل مع شكل الانبعاث النصّي المباغت للقصيدة العمودية في المشهد العربي مؤخراً من تحت رماد السجالات، إذ لا يمكن إرجاع ذلك الظهور الكثيف لشعراء القصيدة العمودية، وبروز ذلك الفصيل اللافت من رموزها إلى الرعاية المؤسساتية والمهرجانات وعطايا الجوائز وروافع «السوشيال ميديا» فقط، إذ تتوفر جملة من الأسباب الموضوعية العميقة التي تعيد إنتاج المتنبي والمعري والجواهري، وتحد من استقبال قصيدة النثر بمقتضى تمنّع الذائقة العربية عن استقبال الحداثة وما بعدها، خصوصاً أن رموز الحداثة لحظة انفجار قصيدة النثر كانوا يبشرون بحداثة في الحياة العربية تجرها قاطرة الشعر. وهي لافتة حداثية نادت بها سوزان برنارد في كتابها «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا»، عندما أكدت على ضرورة اتخاذ قصيدة النثر شكلاً حديثاً للكتابة الشعرية. فقصيدة النثر بتصورها «ستصبح نوعاً أدبياً جذرياً وشكلاً يستجيب لحاجات الغنائية الحديثة، لأنه يجب أن نسلم بأن قصيدة النثر منجز أدبي، وأن كل العالم يوافق حالياً على وجودها كنوع أدبي». وهي المنطقة الملتبسة الوعرة التي يستوي فيها الشعر بالفعل، أي ما يصطلح عليه باستواء الأضداد الشعرية والنثرية في مصطلح الحداثة.
حتى أدونيس، أحد رُسل الحداثة الشعرية العربية كان يكرر بأن اللغة العربية لغة شعرية، وذلك من منظوره ووعيه الخاص الذي يرى من خلاله قدرة اللغة العربية على الذود عن شعريتها داخل التعقيدات الكونية لقصيدة النثر. وهو تصور عانده طابور طويل من أصوليي القصيدة العمودية ومنتجي الجماليات المضادة لقصيدة النثر، لدرجة أن نازك الملائكة اعتبرت من يتجرؤون على تجاوز تقاليد الكتابة الشعرية العربية «خونة الأمة». كما أقام ناصر الدين الأسد حائطاً ذوقياً منيعاً قبالة قصيدة النثر سماه «الأذن العربية» مشترطاً أن تخاطب قصيدة النثر خصوصية وجدان الإنسان العربي للتسليم بحداثتها. الأمر الذي يعني أن الإحساس بالتماسك والاتزان داخل الزمان والمكان والأفكار هو الحاضنة للإنسان العربي، ولا وجود لذلك التشظي النثري للحياة إلا عند فئة عاجزة عن التواصل مع واقعها وموروثها النصي انطلاقاً من عدم قدرتها على التماس مع راهنها الحياتي.وهكذا أُثقلت الذاكرة العربية بسجالات كثيفة ووعرة حول شرعية قصيدة النثر بكل أبعادها الفنية والتاريخية والاجتماعية والآيديولوجية، إلى أن وصلت إلى الجيل المعاصر الذي لم ير من آثار المعركة إلا ثمرتها المشرعنة وأرشيف معركتها المنطفئة، فأسرف في إنتاج نصوص نثرية فائضة بطاقة «الأنا» بمعزل عن طيات تلك المنازلة المختزنة في زمان ومكان ووعي ومزاج الإنسان العربي، ليجاور بها منتجات شعرية يراها تقليدية منتهية الصلاحية، متجاوزاً بذلك ما عُرف بأزمة جمهور الشعر، بحيث بات جمهور قصيدة النثر هم كُتّابها في المقام الأول، وذلك بعد تخفيض النبرات الرسولية التي تهب لكاتب قصيدة النثر صفة الرائي والعرّاف، والاكتفاء بتنصيص التجارب والخبرات الداخلية للشاعر. وبذلك صارت قصيدة النثر خارج سياق الجدل التاريخي الآيديولوجي، وداخل عملية إنتاجية مصنعية ضخمة لا حد لها.
لم تعد قصيدة النثر العربية، اليوم، معنية بالبحث عن شرعيتها وتقصي أصولها في الموروث الأدبي العربي. ولا تبدو مهجوسة بمقارعة القصيدة العمودية ومنافستها على المنابر التي تحتلها، أو حتى تغيير موجات بثها لتناسب الأبعاد التكوينية للأذن العربية. فهي قصيدة فردانية تُكتب على قاعدة استدماج الذات مع موضوعية النثر الذي يعادل نثرية الحياة. وهذا هو جوهر نظرية الشعر كما يراها والاس ستيفنز، أي بما هي نظرية للحياة. على الأقل بالنسبة لفصيل من الشعراء الذين لا يجدون ذواتهم إلا في الغنائيات الحديثة لقصيدة النثر.
ذلك هو المبدأ الأهم الذي قامت عليه قصيدة النثر، أي بوصفها قرينة للديمقراطية، كما بشر بها والت وايتمان، إذ لا يمكن التغافل عن الرابط ما بين هذا الشكل الكتابي وحقيقة الإحساس بمعنى وجدوى الديمقراطية بمعانيها الإنسانية وتمظهراتها الحقوقية. وهو ما يعنى أن قصيدة النثر العربية بكل هذا التكثُّر النصي، المتأتي من سهولة التجرؤ على إتيانها، إنما هي صوت إنسان يحاول إقناع نفسه وقرائه بأن النص الشعري النثري هو الأقدر والأنسب لمماثلة نثرية الحياة، وأنه بات يكتب نصّاً لا يحتكم إلى أذن مجبولة على استقبال النصوص ذات الرنين اللفظي فقط، وإن كان عاجزاً عن إقناع الجمهور بأن ما ينتجه جهاز مفاهيمه فيه من الغنائيات ما يشبه إيقاع اللحظة.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.