حضور كبير في حفل توقيع كتاب «عبد الرحمن اليوسفي» بمعرض الدار البيضاء

إقبال على فعاليات معرض النشر والكتاب في الدار البيضاء
إقبال على فعاليات معرض النشر والكتاب في الدار البيضاء
TT

حضور كبير في حفل توقيع كتاب «عبد الرحمن اليوسفي» بمعرض الدار البيضاء

إقبال على فعاليات معرض النشر والكتاب في الدار البيضاء
إقبال على فعاليات معرض النشر والكتاب في الدار البيضاء

جاءت نهاية الأسبوع غنية بفقراتها، كيْفاً وكمّاً، ضمن فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، في دورته الـ26. وفيما شهدت عشية أول من أمس برمجة ندوات، بينها «زمن الصحراء من خلال الرواية»، و«دور الثقافة في التنمية»، و«مؤشرات التواصل بين موريتانيا والمغرب»، وموائد مستديرة تناولت «الأرشيف ورهانات العولمة» و«عبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي، أي أفق للتفكير في المغرب الكبير، اليوم»، كما تميزت بحفل توقيع كتاب «عبد الرحمن اليوسفي: دروس للتاريخ»، في حضور الزعيم الاتحادي الوزير الأول لحكومة التناوب (1998 - 2002) وحرمه ماري هيلين اليوسفي، ونخبة من المثقفين ورجال السياسة، والناشطين في المجال الحقوقي والنقابي، بينهم محمد بن سعيد آيت يدر وإدريس جطو وعبد الواحد الراضي ومولاي امحمد الخليفة ونوبير الأموي وإسماعيل العلوي وصلاح الدين مزوار ومصطفى الباكوري وأمينة بوعياش، فضلاً عن الحسن عبيابة وزير الثقافة والرياضة والشباب الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية. واقترح برنامج صباح أمس، فقرات على قدر مهم من الأهمية والراهنية، بينها ندوات تمحورت حول «الرحلة» و«الهايكو» و«ترجمة الشعر».
- اليوسفي وتجربة التناوب
تميز حفل توقيع كتاب «عبد الرحمن اليوسفي: دروس للتاريخ»، الذي قدّمه حسن نجمي، بمشاركة كل من إدريس الكراوي ومحمد نور الدين أفاية، بإلقاء الضوء على شخصية سياسية مهمة، قدمها المنظمون بـ«رجل الدولة الكبير، الذي خبر السياسة وأهلها، وراكم تجربة مرجعية في تدبير مرحلة مفصلية في تاريخ السياسة بالمغرب، ممّا يجعل من شهادته حافلة بالدروس والعبر».
وتحدث المتدخلون عن المؤلف، الذي يتناول تجربة التناوب، راصداً «فترة مثيرة من التاريخ السياسي للمغرب»، التي «صالحت الشعب مع ماضي انتهاكات حقوق الإنسان»، فيما يعرض لمسار «رجل من العيار الثقيل»، اختار «تقوية خيار الحوار والاستقرار».
وتحدث الكراوي، في تصريح صحافي، عن الكتاب «المذكرة - الشهادة»، الذي قال عنه إنّه استغرق منه ثلاث سنوات لإنجازه، مشيراً إلى أنّ ما كتبه «يتسم بجرأة»، لكن بـ«موضوعية كبيرة».
وجاء في كلمة موقعة من عبد الرحمن اليوسفي، على ظهر غلاف الكتاب، الصادر عن منشورات «المركز الثقافي للكتاب»، أنّ حكومة التناوب في المغرب قد جعلت من العمل الاجتماعي والتضامني «أحد أولوياتها البارزة»، وأنّه «رغم إرث ثقيل، وصعوبات عدة، وإكراهات متنوعة حرصنا على وضع إصلاحات اجتماعية كبرى همت فئات عريضة من مجتمعنا ومجالات ترابية عديدة». وزاد اليوسفي: «لقد كنا منذ البداية واعين تمام الوعي بأنّ هذه الإصلاحات الاجتماعية الكبرى بحكم طبيعتها سوف لن تعطي ثمارها إلا على المدى المتوسط والبعيد، ومن ثمّ سوف لن تنعكس فوراً على واقع عيش المواطنات والمواطنين. ومهما يكن الحال، فإنّ حرصنا كان قوياً على أن نجعل من الإنصاف والعدل والمساواة المبادئ الموجهة الرئيسية للسياسات والبرامج التي أعددناها في مجال العمل الاجتماعي والتضامني. غايتنا المثلى بهذا وضع حد للحيف والمعاناة، وتصحيح الأوضاع ومصالحة فئات عريضة من مواطنينا مع مؤسساتهم».
ورأى اليوسفي، في معرض كلمته، أنّ الكتاب، بتضمينه حصيلة الإصلاحات الاجتماعية الكبرى التي أنجزتها حكومة التناوب خلال الفترة ما بين مارس (آذار) 1998 وأكتوبر (تشرين الأول) 2002، وباعتماده على معطيات مستقاة من مصدر الأحداث، بما هو ظاهر وخفي فيها، وبما لها وما عليها، فإن المؤلف الكراوي «سيشكل بحق قيمة مضافة عامة من داخل التجربة، كما من شأنه أن يلقي أضواء كاشفة على جوانب جوهرية من عمل حكومة التناوب، ومن التجربة التي قادها حزبنا (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) في مرحلة دقيقة من تاريخ بلادنا».
من جهته، وصف الكراوي، في مقدمة كتابه، عبد الرحمن اليوسفي بـ«الرجل الاستثنائي الذي لعب دوراً حاسماً في تاريخ بلده بفعل وطنيته الصادقة والتزامه السياسي الخالص واستقامته الأخلاقية القوية وتفانيه اللامتناهي لخدمة الصالح العام».
ورأى الكراوي، الذي يرأس اليوم «مجلس المنافسة»، أن اليوسفي «قاد تجربة سياسية فريدة، الأولى من نوعها في تاريخ المغرب المعاصر، ساهمت بكثير في إنقاذ البلاد من (سكتة قلبية حقيقية)، كما كانت في قلب الانتقال المؤسسي السلس والحضاري والهادئ بين ملكين، الملك الحسن الثاني، والملك محمد السادس. كما أسس لإصلاحات حقوقية واجتماعية، وساهم في تحقيق عدة مكتسبات على الصعيد الدولي لا تزال آثارها بادية تطل على واقع مغرب اليوم».
وشدد الكراوي على أنه «لا يمكن للمحلل المحايد والملاحظ الموضوعي، سياسياً كان أم عالماً أم خبيراً، إلا أن يقر، ولو ببعض المكونات لهذه المكتسبات الجوهرية، كإصلاح مدونة التغطية الصحية، ومصالحة المغاربة مع تاريخهم، وحقوق المرأة، والمرافعة الدولية من أجل الوحدة الترابية للمغرب».
وأوضح الكراوي أنه «كان لا بد، أخلاقياً واعتبارياً، واهتداء بفضيلة الاعتراف، التأريخ لعطاء هذا الرجل الاستثنائي، من خلال عرض الجوانب البارزة من سيرته ومسيرته، والتعريف بمضمون ومرامي الإصلاحات المهمة التي أسست لها حكومة التناوب التي قادها في الفترة الممتدة ما بين مارس 1998 وأكتوبر 2002».
- بين ضفتين
بين أول من أمس وصباح أمس، اقترح برنامج المعرض ندوات وموائد مستديرة همت مجالات متنوعة، كما واصل فقرته الخاصة بالطفل.
وبينما ركزت ندوة «دور الثقافة في التنمية: حصيلة تجارب محلية»، على الثقافة باعتبارها رافعة أساسية لأي مشروع تنموي، بها يقاس تطور الدول وتقدمها الإنساني والحضاري، تناولت ندوة «بلاد شنقيط، مؤشرات التواصل الثقافي بين موريتانيا والمغرب»، دور الجغرافيات الثقافية في تحقيق تواصل دائم ومستمر بين البلدان والمدن، مما أسهم في انتشار وذيوع ثقافة مهاجرة وممتدة، فاتحة كوة لاستقراء مؤشرات هذا التواصل الثقافي الثنائي، عبر تاريخ مدينة مثلت مركزاً حضارياً ربط بين المغرب وموريتانيا.
وضمن فقرة «بين ضفتين»، كان السؤال: «ماذا تعني لهم ترجمة الشعر؟»، الذي تناسلت عنه أسئلة «هل الترجمة مجرد نقل من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف؟»، و«هل تتم بالنقل الحرفي أم بالنقل الدلالي أم بغيرهما؟»، و«هل ترجمة النقد مثل ترجمة الإبداع؟»، و«لماذا يترجم الشعر؟»، و«كيف يحافَظ على سلامة نقله؟»، و«هل ثمة صعوبات تعترض مترجم الشعر، وما هي طبيعتها؟».
أما ندوة الرحلة، التي نظمها المركز العربي للأدب الجغرافي - ارتياد الآفاق، بشراكة مع وزارة الثقافة والشباب والرياضة، فانطلقت من أن الرحلة ليست مجرد وصف لأماكن وسرد لوقائع، وإنما كتابة لها أفق استراتيجي يقوم على تقريب المسافة بين الماضي والحاضر، من أجل العبرة واستشراف المستقبل برؤى جديدة لا تفرط في أدبية النص المحكيّ.
وتحت سقف الإبداع الشعري، كان الموعد ضمن ندوة «شعر الهايكو»، مع شهادات وقراءات، سعت إلى الاقتراب أكثر من هذا اللون الشعري عبر الاستماع إلى شهادات حية في الموضوع والاستمتاع، أيضاً، بقراءات نصية مما أنتجه مبدعو ومبدعات هذا اللون الشعري، القادم من اليابان عن طريق الترجمة، الذي يقوم على الاختزال والتكثيف في العبارة.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)