«الغرسات العصبية» قد تصبح قادرة على قراءة أفكار الإنسان وتعديلها

تطورات كبرى في تقنيات التحفيز العميق للدماغ

«الغرسات العصبية» قد تصبح قادرة على قراءة أفكار الإنسان وتعديلها
TT

«الغرسات العصبية» قد تصبح قادرة على قراءة أفكار الإنسان وتعديلها

«الغرسات العصبية» قد تصبح قادرة على قراءة أفكار الإنسان وتعديلها

تُستخدم «الغرسات العصبية»، أي الأدوات والأقطاب الصغيرة المزروعة في الدماغ والجهاز العصبي، في التحفيز العميق للدماغ، وتحفيز العصب المبهم، وكذلك للتحكم بالأطراف الصناعية عبر الدماغ.
- غرسات عصبية
قد يبدو الأمر خيالاً علمياً، ولكن الغرسات العصبية قد تصبح بعد سنوات من اليوم قادرة على قراءة وتعديل أفكار البشر. وتستخدم الغرسات العصبية اليوم لعلاج الأمراض، وإعادة تأهيل الجسم بعد الإصابة، وتحسين الذاكرة، والتواصل مع الأطراف الصناعية، وغيرها كثير.
وقد خصّصت وزارة الدفاع الأميركية ومعاهد الصحة الوطنية مئات ملايين الدولارات لتمويل هذا القطاع، ويتصدّر هذا الموضوع عناوين أوراق بحثية تُنشر بشكل أسبوعي في أهمّ الدوريات العلمية في البلاد. وقد خصصت مجلة جمعية المهندسين الكهربائيين الأميركيين فصلاً خاصاً للحديث عنها. فما هي الغرسات العصبية؟ وكيف تعمل؟ وما إمكاناتها؟
- ما هي الغرسة العصبية؟ الغرسة العصبية هي جهاز يوضع داخل الجسم ويتفاعل مع الأعصاب. والأعصاب هي خلايا تتواصل بلغة الكهرباء، إذ تُطلق نبضات كهربائية بأشكال محددة تشبه شفرة «مورس». أمّا الغرسة، فهي جهاز من صنع البشر يوضع داخل الجسم عبر الجراحة أو الحقن، وتأتي عادة على شكل قطب كهربائي يُزرع في الجسم، ويحتكّ بالأنسجة التي تحتوي على الأعصاب، ليتفاعل مع هذه الأعصاب بطريقة ما.
وتتيح هذه الأجهزة الصغيرة تسجيل النشاط العصبي الفطري، ما يسمح للباحثين بمراقبة أنماط التواصل بين الدوائر العصبية الصحيحة. وتستطيع الغرسات العصبية أيضاً إرسال النبضات الكهربائية إلى الأعصاب للسيطرة على أنماط النشاط الفطرية، وإجبارها على التواصل بطريقة أخرى.
بمعنى آخر، تتيح الغرسات العصبية للعلماء اختراق الجهاز العصبي. ويمكننا أن نطلق على هذه العملية عدداً من الأسماء، كـ«تعديل العمليات العصبية» أو «التحفيزات الكهربائية» أو «الإلكترونيات البيولوجية»، التي تعتبر جميعها تدخّلات بواسطة غرسات عصبية قادرة على التحول إلى أدوات طبية عظيمة القوّة.
ووظائف الجهاز العصبي كثيرة جداً، فهو الذي يتحكّم بالتفكير، والنظر، والسمع، والشعور، والحركة، والتبوّل، وغيرها كثير. كما أنّه يسيطر على كثير من العمليّات غير الإرادية، كوظائف الأعضاء وأجهزة الجسم التنفسية، والمناعية، والقلبية.
يقول جين سيفيلّيكو، عالم الأعصاب في معاهد الصحة الوطنية رئيس برنامج «سبارك» فيها المتخصص بتحفيز العصب المحيطي، إن «أي شيء يقوم به الجهاز العصبي يمكن دعمه أو شفاؤه من خلال تدخل كهربائي نشط، إذا عرفنا كيف نطبقه».
- كيف تُستخدم الغرسات العصبية؟ يعتبر التحفيز الدماغي العميق واحداً من أبرز الاستخدامات الإكلينيكية (السريرية) للغرسات العصبية. وفي هذا العلاج، يتمّ وضع الأقطاب الكهربائية في عملية تدخّل جراحي في عمق الدماغ، حيث تعمل على تحفيز تركيبات محددة كهربائياً بهدف تخفيف العوارض الناتجة عن اضطرابات دماغية متعددة.
وصادقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية للمرة الأولى على استخدام التحفيز الدماغي العميق عام 1997 لعلاج مرض نوع من رعاش اليد (essential tremor). ومنذ ذلك الحين، صادقت الإدارة، وغيرها من الجهات التنظيمية العالمية، على استخدام العلاج نفسه لحالات مرض باركنسون، وخلل التوتر، والصرع، والطنين، واضطراب الوسواس القهري، وآلام الاعتلال العصبي. كما يتم حالياً البحث في إمكانية استخدام التحفيز الدماغي العميق لعلاج متلازمة توريت، والاضطرابات النفسية، كالاكتئاب. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 150 ألف شخص حول العالم خضعوا لزرع غرسات عصبية.
- تحفيز العمود الفقري
> علاج العمود الفقري وشلل الأطراف. أمضى الباحثون أيضاً وقتاً طويلاً في اختبار التلاعب بالعصب المبهم بواسطة الغرسات العصبية. ويصل العصب المبهم معظم الأعضاء الأساسية بجذع الدماغ، ويسعى الباحثون لقرصنة هذا الاتصال بهدف علاج فشل القلب، والجلطة الدماغية، والتهاب المفصلي الروماتويدي، وداء كرون، والصرع، والسكري النوع الثاني، والسمنة، والاكتئاب، والشقيقة، وغيرها من الأمراض.
وفي عام 2018، تمكن مريض أصيب بالشلل نتيجة إصابة في عموده الفقري من السير مجدداً بمساعدة تحفيز العمود الفقري.
إن أكثر التجارب المؤثرة التي اعتمدت على الغرسات العصبية كانت في تحفيز العمود الفقري الذي منح أملاً جديداً لكثير من الأشخاص المصابين بالشلل في الجزء السفلي من جسمهم عبر السماح لهم بالحركة والوقوف، وحتّى السير لمسافات قصيرة للمرّة الأولى منذ الإصابة المستدامة التي تعرضوا لها في عمودهم الفقري.
ولكن أياً من أبحاث تعديل العمليات العصبية لم يجذب اهتمام الناس كالأطراف الصناعية التي يتحكّم بها الدماغ. وتتيح هذه الأنظمة لمبتوري الأطراف التحكم بيد أو ذراع أو ساق آلية بواسطة أفكارهم. ويتطلب هذا الإنجاز زراعة غرسات عصبية في الدماغ أو في الجزء الأعلى من منطقة البتر. وتعمل بعض هذه الأطراف الآلية أيضاً على توفير ردود فعل حسية من خلال تحفيز الأعصاب الموجودة فوق منطقة البتر، ومنح المستخدم فرصة للشعور بما يلمسه.
ثم تأتي الاختبارات التي تشبه الخيال العلمي. فقد نجح الباحثون في تعزيز قدرات الذاكرة لدى بعض الأشخاص للسماح لهم بأداء بعض الوظائف من خلال تحفيز التركيبات الدماغية بطرق محددة. وبفضل غرسات الدماغ، تمكّن أشخاص مشلولون من تشغيل أجهزة كومبيوتر وطباعة جمل بمجرّد استخدام أفكارهم. وطوّر العلماء أيضاً خوارزمية تتيح تحديد مزاج الشخص بناء على نشاط دماغه. كما نجحت بعض الشركات في تطوير وتسويق غرسات عصبية مهمتها تصحيح الاتصال العصبي بين العين والدماغ. وبدوره، كشف إيلون ماسك أنّ شركته (نيورالينك) تخطط لمزامنة الدماغ البشري مع الذكاء الصناعي.
- مستقبل الأبحاث
> ماذا عن مستقبل الغرسات العصبية؟ تقيد الإجراءات الجراحية التدخّلية عادة عمل وفعالية الغرسات على أنواعها، إذ من الصعب تبرير عملية جراحية في الدماغ أو العمود الفقري دون حاجة طبية ملحة. لذا، يعمل المهندسون باستمرار على اختراع أجهزة أفضل تصل إلى أعماق الجسم بأقل تأثير على الأنسجة.
ويعتبر ديفيد ماك مولن، رئيس برنامج التعديل العصبي والتحفيز العصبي في معاهد الصحة الوطنية الأميركية، أن «المهندسين يواصلون العمل على توسيع حدود استخدام هذه الغرسات إفساحاً في المجال أمام تطبيق الإمكانات المتاحة تقنياً. ويعتمد هذا الأمر بالدرجة الأولى على تخفيف العبء الجراحي، وتعزيز ديمومة للغرسة، والمحاولة المستمرة لصناعة أقطاب كهربائية صغيرة تغطي مناطق أوسع في الدماغ».
وابتكر المهندسون غرسات عصبية بحجم ذرة التراب، وأقطاباً كهربائية تتعلق بالأعصاب كالنبات المعترش، وأقطاباً مصنوعة من مواد مرنة كالخيوط النانوكهربائية، وأقطاباً تشبه الدعامات تعرف بـ«الأقطاب الدعامية»، قادرة على الوصول إلى الدماغ عبر الأوعية الدموية، ومهمتها تسجيل النشاط الكهربائي، بالإضافة إلى شبكة إلكترونية قابلة للحقن مصنوعة من أسلاك سيليكونية نانوية، وأقطاباً يمكن حقنها في الجسم على شكل سائل تتحول داخله إلى مادة صلبة قابلة للتمدد كالحلوى.
وتقي الأقطاب الدعامية الناس خيار الجراحة الدماغية، بفضل إمكانية إيصالها إلى الدماغ عبر الأوعية الدموية. ويمكن تطبيق تقنية تعديل العمليات العصبية بطريقة غير تدخّلية باستخدام أقطاب كهربائية أو أسلاك مغناطيسية توضع على أو قرب الجلد. وأثبتت هذه الاستراتيجية فعاليتها في بعض الحالات، رغم أنّها لا ترقى إلى دقّة وفعّالية الغرسات.
ولكنّ الأجهزة المبتكرة هي الوسيلة الوحيدة التي ستذهب بنا إلى مراحل علاجية أبعد. ويتحدّث سيفيليكو عن «مفهوم خاطئ، مفاده أنّ العوائق التي تحول دون تطبيق تعديل العمليات العصبية تقنية بحتة، وأن السبب الوحيد الذي يحول دون امتلاك أجهزة للتحكم بالأفكار هو عدم تطوير أقطاب كهربائية تتمتع بالمرونة الكافية».
ويرى سيفيليكو أن الباحثين يحتاجون إلى مفهوم واضح لفيزياء الدوائر العصبية. كما أنهم يحتاجون إلى خرائط توضح كيفية تواصل الأعصاب، والتأثيرات الدقيقة لهذه الدوائر على الجسم والدماغ. ومن دون هذه الخرائط، لن تستطيع أكثر الغرسات تطوراً وحداثة تحقيق هدفها، وستستمر في إطلاق نبضاتها الكهربائية في المجهول.


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية
TT

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«تخيل أنك بحاجة إلى إجراء عملية جراحية في غضون بضع دقائق لأنك قد لا تنجو... لا يوجد جراحون في الجوار ولكن يوجد روبوت جراحي مستقل متاح يمكنه إجراء هذا الإجراء باحتمالية عالية جداً للنجاح، هل ستغتنم الفرصة؟» هذا ما أجابني به طالب ما بعد الدكتوراه بجامعة جونز هوبكنز عبر البريد الإلكتروني، لدى سؤالي عن التطوير الجديد.

تعليم الروبوت بمقاطع فيديو للجراحة

لأول مرة في التاريخ، تمكن كيم وزملاؤه من تعليم الذكاء الاصطناعي استخدام آلة جراحة آلية لأداء مهام جراحية دقيقة، من خلال جعلها تشاهد آلاف الساعات من الإجراءات الفعلية التي تحدث في ردهات جراحية حقيقية. ويقول فريق البحث إنه تطور رائد يتجاوز حدوداً طبية محددة ويفتح الطريق لعصر جديد في الرعاية الصحية.

وفقاً لورقتهم البحثية المنشورة حديثاً، يقول الباحثون إن الذكاء الاصطناعي تمكن من تحقيق مستوى أداء مماثل لجراحي البشر دون برمجة مسبقة.

جراحة بتوظيف الروبوت

تدريب على العروض بدلاً من البرمجة

وبدلاً من محاولة برمجة الروبوت بشق الأنفس للعمل -وهو ما تقول ورقة البحث إنه فشل دائماً في الماضي- قاموا بتدريب هذا الذكاء الاصطناعي من خلال شيء يسمى التعلم بالتقليد، وهو فرع من الذكاء الاصطناعي حيث تراقب الآلة وتكرر الأفعال البشرية. سمح هذا للذكاء الاصطناعي بتعلم التسلسلات المعقدة للأفعال المطلوبة لإكمال المهام الجراحية عن طريق تقسيمها إلى مكونات حركية. وتترجم هذه المكونات إلى أفعال أبسط -مثل زوايا المفاصل ومواضعها ومساراتها- والتي يسهل فهمها وتكرارها وتكييفها أثناء الجراحة.

توظيف روبوت «دافنشي» للتدريب

استخدم كيم وزملاؤه نظام دافنشي الجراحي كأيدٍ وعيون لهذا الذكاء الاصطناعي. ولكن قبل استخدام المنصة الروبوتية الراسخة (التي يستخدمها الجراحون حالياً لإجراء عمليات دقيقة محلياً وعن بُعد) لإثبات نجاح الذكاء الاصطناعي الجديد، قاموا أيضاً بتشغيل محاكاة افتراضية. وقد سمح هذا بتكرار أسرع وتحقق من السلامة قبل تطبيق الإجراءات التي تم تعلمها على الأجهزة الفعلية.

«كل ما نحتاجه هو إدخال الصورة، ثم يجد نظام الذكاء الاصطناعي هذا الإجراء الصحيح»، كما يقول كيم. كانت روبوتات دافنشي أيضاً مصدر مقاطع الفيديو التي حللها الذكاء الاصطناعي، باستخدام أكثر من 10000 تسجيل تم التقاطها بواسطة كاميرات المعصم أثناء العمليات الجراحية التي يقودها الإنسان.

تعلّم 3 مهام جراحية

وكان الهدف تعلم ثلاث مهام جراحية: التعامل مع إبرة جراحية وتحديد موضعها، ورفع الأنسجة والتلاعب بها بعناية، والخياطة -كلها مهام معقدة تتطلب تحكماً دقيقاً وحساساً للغاية.

مكنت مجموعة البيانات واسعة النطاق هذه الذكاء الاصطناعي من تعلم الاختلافات الدقيقة بين الإجراءات الجراحية المتشابهة، مثل شدة التوتر المناسب اللازم للتعامل مع الأنسجة دون التسبب في ضرر.

تعد مقاطع الفيديو التدريبية هذه جزءاً صغيراً جداً من مستودع واسع النطاق للبيانات الجراحية. مع ما يقرب من 7000 روبوت دافنشي قيد الاستخدام في جميع أنحاء العالم، هناك مكتبة ضخمة من العروض الجراحية للمراقبة والتعلم منها، والتي يستخدمها فريق البحث الآن لتوسيع ذخيرة الذكاء الاصطناعي الجراحية لدراسة جديدة لم تُنشر بعد.

«في عملنا المتابع، والذي سنصدره قريباً، ندرس ما إذا كانت هذه النماذج يمكن أن تعمل في الإجراءات الجراحية طويلة المدى التي تنطوي على هياكل تشريحية غير مرئية»، يكتب كيم، في إشارة إلى الإجراءات الجراحية المعقدة التي تتطلب التكيف مع حالة المريض في أي وقت معين، مثل إجراء عملية جراحية على جرح داخلي خطير.

التحقق من صحة النموذج المطور

أثناء التطوير، عمل الفريق عن كثب مع الجراحين الممارسين لتقييم أداء النموذج وتقديم ملاحظات حاسمة (خاصة فيما يتعلق بالتعامل الدقيق مع الأنسجة)، والتي قام الروبوت بدمجها في عملية التعلم الخاصة به.

أخيراً، للتحقق من صحة النموذج، استخدموا مجموعة بيانات منفصلة غير مدرجة في التدريب الأولي لإنشاء محاكاة افتراضية، ما يضمن قدرة الذكاء الاصطناعي على التكيف مع السيناريوهات الجراحية الجديدة وغير المرئية قبل الشروع في اختبارها في الإجراءات المادية. أكد هذا التحقق المتبادل قدرة الروبوت على التعميم بدلاً من مجرد حفظ الإجراءات، وهو أمر بالغ الأهمية بالطبع نظراً للعدد المجهول المحتمل الذي قد ينشأ في غرفة العمليات.

جراح آلي «ذو خبرة»

كل شيء سار بشكل جميل إذ تعلم نموذج الروبوت هذه المهام إلى مستوى الجراحين ذوي الخبرة. يقول أكسل كريغر، الأستاذ المساعد في الهندسة الميكانيكية في جامعة جونز هوبكنز والمؤلف الرئيسي للدراسة، في بيان عبر البريد الإلكتروني: «إنه لأمر سحري حقاً أن يكون لدينا هذا النموذج حيث كل ما نقوم به هو تلقيمه مدخلات الكاميرا، ويمكنه التنبؤ بالحركات الروبوتية اللازمة للجراحة». «نعتقد أن هذا يمثل خطوة مهمة إلى الأمام نحو أفق جديد في مجال الروبوتات الطبية».

تطوير رائد

إن أحد مفاتيح هذا النجاح هو استخدام الحركات النسبية بدلاً من التعليمات المطلقة. ففي نظام دافنشي قد لا تنتهي الأذرع الآلية إلى حيث هي مقصودة تماماً بسبب التناقضات الطفيفة في حركة المفصل التي تتراكم على مدار عدة حركات ويمكن أن تؤدي في النهاية إلى أخطاء كبيرة -خاصة في بيئة حساسة مثل الجراحة. كان على الفريق إيجاد حل، لذا بدلاً من الاعتماد على هذه القياسات، قام بتدريب النموذج على التحرك بناءً على ما يلاحظه في الوقت الفعلي أثناء إجراء العملية.

لكن الابتكار الرئيسي هنا هو أن التعلم بالتقليد يزيل الحاجة إلى البرمجة اليدوية للحركات الفردية. قبل هذا الاختراق، كانت برمجة الروبوت للخياطة تتطلب ترميزاً يدوياً لكل حركة بالتفصيل. يقول كيم إن هذه الطريقة كانت أيضاً عرضة للخطأ وتشكل قيداً رئيسياً في تقدم الجراحة الروبوتية. إذ إنها حدت مما يمكن للروبوت فعله بسبب جهود التطوير، والافتقار إلى المرونة التي جعلت من الصعب للغاية على الروبوتات القيام بمهام جديدة.

ومع ذلك، يسمح التعلم بالتقليد للروبوت بالتكيف بسرعة مع أي شيء يمكن مشاهدته، والتعلم على غرار طالب الجراحة. «(نحن) نحتاج فقط إلى جمع بيانات التعلم التقليدي لإجراءات مختلفة، ويمكننا تدريب الروبوت على تعلمها في غضون يومين»، كما يقول كريغر. «هذا يسمح لنا بالتعجيل نحو هدف الاستقلالية مع تقليل الأخطاء الطبية وتحقيق جراحة أكثر دقة».

تقييم مدى النجاح

لقياس مدى نجاح الذكاء الاصطناعي، حدد الباحثون مقاييس الأداء الرئيسية، مثل الدقة في وضع الإبرة والاتساق في التلاعب بالأنسجة باستخدام مجموعة من البيئات الجراحية الوهمية المادية، والتي تضمنت محاكيات الأنسجة الاصطناعية والدمى الجراحية. وكانت النتائج مذهلة. يقول كريغر: «النموذج جيد جداً في تعلم الأشياء التي لم نعلمه إياها. على سبيل المثال، إذا أسقط الإبرة، فسوف يلتقطها تلقائياً ويستمر».

لا تعد هذه القدرة على التكيف مهمة فقط لمواصلة تعلم مهارات جديدة ولكنها أيضاً ضرورية للتعامل مع الأحداث غير المتوقعة في الجراحات الحية، مثل تمزق الشريان أو تغير العلامات الحيوية للمريض فجأة. بالإضافة إلى ذلك، أظهر النموذج كفاءة زمنية محسنة، ما أدى إلى تقليل وقت الانتهاء للمهام الجراحية القياسية مثل الخياطة بنحو 30 في المائة، وهو أمر واعد بشكل خاص للعمليات الحرجة من حيث الوقت.

ويتصور العلماء سيناريو حيث تساعد هذه الروبوتات الجراحين في المواقف عالية الضغط، وتعزيز قدراتهم وتقليل الخطأ البشري. سيؤثر جراحو الذكاء الاصطناعي المستقبليون بشكل كبير على توفر الرعاية الجراحية، مما يجعل التدخلات الطبية عالية الجودة متاحة لعدد أكبر.

اللوائح التنظيمية وأخلاقيات الطب

هناك أيضاً تحديات أخلاقية وتنظيمية يجب معالجتها قبل نشر مثل هذا الذكاء الاصطناعي في بيئات جراحية حقيقية دون إشراف بشري. فالقفزة نحو الروبوتات الجراحية المستقلة تثير مخاوف أخلاقية جديدة.

هناك قضية المساءلة: من سيكون مسؤولاً إذا حدثت مشكلة؟ الشركة التي صنعت الجراح الذكي؟ المهنيون الطبيون الذين يشرفون عليه (إذا كان هناك أي إشراف)؟ هناك أيضاً مسألة موافقة المريض، والتي ستتطلب تثقيف كل من الشخص الذي يخضع للجراحة والأشخاص المحيطين به حول ماهية هذا الذكاء الاصطناعي، وما الذي يمكنهم فعله بالضبط، وما هي المخاطر التي تشكلها الروبوتات مقارنة بالجراحين البشر.

يعترف كيم بأن المستقبل الآن في منطقة رمادية حيث يمكن للجميع مجرد التكهن بما يجب أن يحدث أو سيحدث. ستكون أيدي السلطات التنظيمية مشغولة، من معالجة المساءلة والمخاوف الأخلاقية عند السماح لجراحي الذكاء الاصطناعي بالعمل بشكل مستقل، إلى وضع معايير للحصول على موافقة مستنيرة من المرضى.

ولكن عند الاختيار بين إجراء عملية جراحية طارئة منقذة للحياة بواسطة جراح مستقل أو عدم تلقي العلاج لأن الجراح البشري غير متاح (مثلاً في مكان بعيد أو منطقة متخلفة)، يزعم كيم أن الخيار الأفضل واضح. يمكنني بسهولة أن أتخيل مستقبلاً قريباً حيث يبدأ الناس في اختيار روبوتات الذكاء الاصطناعي على نظرائهم من البشر - في ظل وجود دليل إحصائي على أن جراحي الذكاء الاصطناعي يعملون بأمان.

وبعيداً عن التحديات الأخلاقية والقانونية، هناك حاجة إلى المزيد من العمل لتمكين التنفيذ العملي. ستحتاج المستشفيات إلى الاستثمار في البنية الأساسية التي تدعم جراحة الروبوتات بالذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الأجهزة المادية والخبرة الفنية للتشغيل والصيانة. بالإضافة إلى ذلك، سيكون تدريب الفرق الطبية على إدارة العملية أمراً بالغ الأهمية. فالأطباء سيحتاجون إلى فهم الآلة ومتى يكون التدخل ضرورياً، وفي النهاية تحويل الجراحين البشريين من المهام الجراحية المباشرة إلى أدوار تركز على الإشراف والسلامة.

جراحات بسيطة أولاً

على المستوى العملي، يتصور الباحثون تقدماً تدريجياً، بدءاً بجراحات أبسط وأقل خطورة مثل إصلاح الفتق والتقدم تدريجياً إلى عمليات أكثر تعقيداً. سيساعد النهج التدريجي في التحقق من موثوقية الروبوت مع معالجة المخاوف التنظيمية والأخلاقية بمرور الوقت، فضلاً عن مساعدة السكان على الثقة في الذكاء الاصطناعي لإجراء العمليات الحرجة للحياة.

يقول كريغر: «ما زلنا في المراحل الأولى من فهم ما يمكن أن تحققه هذه الآلات حقاً. الهدف النهائي هو الحصول على أنظمة جراحية مستقلة تماماً وموثوقة وقابلة للتكيف وقادرة على إجراء العمليات الجراحية التي تتطلب حالياً اختصاصياً مدرباً تدريباً عالياً».

* مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً