«أبطال مجهولون» يحفظون بريق كنوز المتاحف المصرية

عبر مهمة يومية دقيقة تستخدم أدوات ومواد تنظيف خاصة

المتحف المصري بالتحرير (وزارة السياحة والآثار المصرية)
المتحف المصري بالتحرير (وزارة السياحة والآثار المصرية)
TT

«أبطال مجهولون» يحفظون بريق كنوز المتاحف المصرية

المتحف المصري بالتحرير (وزارة السياحة والآثار المصرية)
المتحف المصري بالتحرير (وزارة السياحة والآثار المصرية)

قاعات تاريخية واسعة، جدرانها عتيقة، وأسقفها مزخرفة، تحتضن كنوزاً لا تقدر بثمن، يشاهدها زوار من جميع أنحاء العالم، ثم يحتفظون بصور لها في أرشيف زيارتهم لاستعادة تلك اللحظات كلما مر الوقت. بريق هذه المقتنيات اللامعة يقف وراءه أبطال مجهولون، يعملون في صمت قبيل دقائق من مواعيد دخول الزائرين الرسمية للمتاحف المصرية، ويتشاركون مسؤولية تنظيف وترميم المقتنيات والتحف والقاعات، لترتدي ثوباً جديداً كل يوم قبيل دخول الزوار المصريين والعرب والأجانب.
في الثامنة صباحاً تقف عاملة نظافة خمسينية، تدعى «أم حسين»، تدرك قيمة الكنوز الأثرية التي تتجول بينها، وتحمل أدوات نظافة خاصة، وتبدأ رحلتها اليومية لتنظيف القاعات والمقتنيات وإزالة أتربة اليوم السابق، حيث يقضي عملها بتنظيف أرضيات القاعات والسجاد وتلميع الزجاج والنوافذ والمقاعد الخشبية، وإزالة الأتربة والغبار عن بعض المقتنيات والتحف كاللوحات الفنية والبراويز.
وتقول لـ«الشرق الأوسط» إن «مهمة التنظيف اليومي ليست سهلة، فتنظيف قاعات المتاحف يختلف عن تنظيف المنازل والأماكن الأخرى، فكل شيء يجب أن يتم بدقة، ويجب التعامل مع المقتنيات بدقة وحذر، وباستخدام أدوات نظافة خاصة، فلكل مهمة نظافة أدوات ومواد كيميائية مختلفة للتنظيف».
وتختلف الأدوات والمواد الكيميائية التي تستخدم في تنظيف المتاحف ومُقتنياتها عن تلك التي تُستخدم في عمليات النظافة العادية، ولكل قطعة مواصفات خاصة، ويستخدم القطن في إزالة الغبار في الأماكن الدقيقة وتنظيف القطع الأثرية والنوافذ، وعند استخدام أقمشة في التنظيف يجب أن تكون جافة تجنباً لاحتوائها على مواد تتفاعل كيميائياً مع المقتنيات، كما يستخدم عمال النظافة «مكنسة» يدوية ذات شعيرات ناعمة تتناسب مع الطبيعة الدقيقة لعمليات التنظيف، وفي حال استخدام «المكنسة» الكهربائية لتنظيف الغبار من السجاد يتم ذلك بحذر شديد وباستخدام سرعات منخفضة.
ويتولى معمل قسم الترميم إعداد مواد نظافة خاصة معالجة كيميائياً لتتناسب مع الأماكن التي يتم تنظيفها حفاظاً على حالة المعروضات وتجنباً لتأثير مواد النظافة العادية التي يمكنها أن تؤدي إلى تفاعلات كيميائية تؤثر سلباً على المُقتنيات.
وتعد المتاحف التي تنتشر في معظم محافظات الجمهورية، من أبرز وأشهر المعالم السياحية والأثرية التي تجتذب الزوار، ويتمتع كل متحف بخصوصية محددة، عبر عرضه مجموعة محددة من المقتنيات تميزه عن بقية المتاحف الأخرى، ومن أشهر المتاحف المصرية التي تستقبل عشرات الآلاف من السائحين سنوياً بالقاهرة، المتحف المصري بميدان التحرير، ومتحف الفن الإسلامي، بميدان باب الخلق، ومتحف النسيج بشارع المعز بالقاهرة الفاطمية، ومتحف قصر المنيل، والمتحف القبطي بمصر القديمة.
وتبدأ عمليات تنظيف المتحف المصري بالتحرير، في تمام الساعة السابعة صباحاً، قبل موعد استقبال الزوار بنحو ساعتين، وفق صباح عبد الرازق، مديرة المتحف، التي تقول لـ«الشرق الأوسط» إن «عملية الصيانة والنظافة اليومية تتم وفق جدول محدد حيث يقوم الأمناء بالمرور على القاعات المختلفة بصحبة اختصاصي الترميم لتحديد القطع التي تحتاج إلى صيانة وتنظيف، بينما يتولى عمال النظافة مهامهم اليومية المعتادة في تنظيف الأتربة عن الأرضيات والحوائط والنوافذ».
وتضيف: «أحيانا نضطر لبدء عملية التنظيف مبكراً قبل السابعة صباحاً في حال وجود بعض المناسبات أو تطلب بعض القاعات نظافة أكثر، كما يتم تنفيذ جدول ترميم دوري لكل مقتنيات المتحف، فمثلاً بعض التماثيل تحتاج إلى تنظيف كامل كل فترة محددة».
وتتوسع مصر حالياً في إنشاء عدد من المتاحف الجديدة والتي يعد أبرزها المتحف المصري الكبير بميدان الرماية بالجيزة (غرب القاهرة).
رحاب جمعة مديرة إدارة الترميم بمتحف قصر المنيل تقول لـ«الشرق الأوسط» إن «عملية التنظيف اليومي للمتاحف ومُقتنياتها تخضع لإشراف قسم الترميم ورقابة صارمة من إدارة المتحف، وهي عملية دقيقة يتقاسم مسؤوليتها عمال النظافة وعمال الترميم، ونستخدم أدوات نظافة خاصة يتم إعدادها بمعمل قسم الترميم، حيث تكون هذه المواد معالجة كيميائياً لتجنب تفاعلها مع المقتنيات، كما يتم أيضاً إعداد مواد التلميع والورنيش الخاصة بكل فئة من التحف، ويُمنع استخدام مواد النظافة التي تحتوي على المبيضات والكلور حتى في تنظيف الأرضيات، ولذلك نعد منظفاً خاصاً للأرضيات معالجاً كيميائياً».
ويتولى عمال الترميم المهام الأكثر دقة، وتكون مهمتهم اليومية تنظيف بعض القطع الدقيقة والتي قد تحتاج إلى تلميع أو صيانة عاجلة، مثل اللوحات الزيتية التي قد تحتاج إطاراتها إلى عملية تلميع باستخدام ورنيش خاص، وبعض القطع الخشبية التي تحتاج إلى استعادة رونق لونها الأصلي، إضافة إلى مهام الصيانة اليومية، إذ قد يكتشف العامل خدشاً في قطعة خشبية أو عطباً في دهانات جدار ما، حيث يقوم على الفور بمعالجة المشكلة وتجديد الدهان بمواصفات فنية دقيقة تعيده إلى حالته الأصلية وبدرجة الألوان نفسها.
محمد صابر، (54 عاماً) فني ترميم بمتحف قصر المنيل، لديه خبرات فنية متنوعة تراكمت على مدار 26 عاماً في مهنته، فهو أحد هؤلاء الذين يمكنهم صيانة وترميم كل أنواع التحف والمقتنيات الأثرية وإعادتها إلى حالتها الأصلية، لذلك يقضي عمله بمتابعة عمليات النظافة والصيانة اليومية لمُقتنيات المتحف.
يقول صابر لـ«الشرق الأوسط»: «عملي اليومي تنظيف القطع الدقيقة وإصلاح أي عطب بها، فأحياناً أجد لوحة زيتية تحتاج إلى تلميع فوري أو يحتاج إطارها إلى إصلاح، بشكل عام أتولى ترميم وإصلاح أي شيء يحتاج إلى صيانة عاجلة سواء المقتنيات المتحفية أو أبواب القاعات والنوافذ والجدران، فقد أجد جداراً يعاني من مشكلة تتعلق بتساقط دهاناته أو ألوانه فأقوم بإعادة طلائه وإعادته إلى حالته الأصلية بالمواصفات العلمية الأثرية نفسها، وربما أجد قطعة رخام في الأرضية بها بعض الخدوش فأعالجها، فيجب أن يعود كل شيء بالمتحف إلى حالته الأصلية يومياً».



التشكيلية اللبنانية زينة الخليل... الألم خطَّاطُ المسار

الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
TT

التشكيلية اللبنانية زينة الخليل... الألم خطَّاطُ المسار

الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)

كانت على الدوام فنانة، تتمدَّد كمَن يُراقب الكون، وتحلُم. ألحَّ شعورٌ بالانسلاخ عن العالم والبحث المرير عن شيء مفقود تُطارده ويهرُب. فضَّلت التشكيلية اللبنانية زينة الخليل العزلة. طَرْحُ الأسئلة الصعبة نَبَت منذ الصغر: «مَن أنا وما معنى الحياة؟». تعجَّبت لانشغال رفاق الصفّ باللعب دون سيطرة الهَمّ. «لِمَ يلهون ولا ألهو؟»، تساءلت. تأمّلت من دون أن تدري ماهية التأمُّل، وفكَّرت في الوجود من دون علمها بأنها الفلسفة.

ولمَّا رسمت؛ فوجئت: «آه، إنني أرسم! لا أدري كيف ولكنني أرسم! أستطيع نقل الأشياء إلى الورق. ذلك يُشعرني ببهجة». الرسم ضمَّد جراح العقل. وجَّه طاقتها نحو شيء آخر غير البحث المُنهك عن شرح. ومن هنا بدأت.

من التأمُّل والتفكير في الوجود رسمت للمرة الأولى (زينة الخليل)

تُخبر الفنانة زينة الخليل المقيمة في لندن «الشرق الأوسط» أنّ نشأتها في أفريقيا أتاحت الوقت الكافي للتفكير. شدَّتها الطبيعة، وراحت تشعر برابط بين الجسد الإنساني والأرض. وبالصلة بين جبّارين: الروح والتراب. تقول: «عبر النجوم والأشجار، حدث اتصالي مع الوجود. بالتأمّل والرسم، كتبتُ الفصل الأول من حياتي».

يأتي الألم بوعي مختلف لم يُعهَد من قبل ويتيح النموّ الداخلي (زينة الخليل)

عام 1994 عادت إلى لبنان. كانت مدافع الحرب الأهلية قد هدأت، مُتسبِّبةً بعطوب وبرك دم: «كنتُ في الـ18 حين شعرتُ بأنّ شيئاً يجرُّني للعودة ويقذفني نحو بلدي المُثقل. أتيتُ وحيدةً، وعائلتي في نيجيريا. اليوم أتفهّم عمق العلاقة بالأرض والطاقة. تلك التي لاحت في الطفولة ولم أستقرّ على تعريف لها. جسَّدها شعور تجاه صخرة أو شجرة أو ورقة تتساقط. الصوت الذي ناداني للعودة، سمعتُه جيداً. لم أقوَ على صدِّه. ورغم هواجس العيش على أرض هشَّمتها الحرب، اخترتُ المجيء».

طَرْحُ الأسئلة الصعبة نَبَت منذ الصغر وألهمها الرسم (زينة الخليل)

الفنّ عند زينة الخليل ليس للنفس فقط، وإنما للآخرين. وفي وقت واجهت التجارب القاسية في بلد شهد عقدين من احتدام المعارك، شعرت، بكونها امرأة، بالاعتداء المستمرّ عليها. مسلّحون يتجوّلون ومظاهر تفلُّت. ذلك يفسِّر ميل أعمالها المُبكرة إلى «النسوية المُفرطة»: «أردتُ إيجاد مكاني بوصفي امرأة والنضال للشعور بالأمان. لم أجسِّد الحركة النسوية المألوفة التي شهدتها أوروبا وأميركا آنذاك. مواجهة الميليشيا والإحساس بالخطر الفردي جعلا نسويتي تتجاوز حيّزها. راحت أعمالي تنتقد الحرب والأسلحة. وضعتُ فنّي بمواجهة هذه الإشكالية: هل حقاً يحتاج الإنسان إلى سلاح لإثبات نفسه؟».

الرسم ضمَّد جراح العقل (زينة الخليل)

ولمحت مُحرِّك العنف ومؤجِّجه: «البشر والدول يتقاتلون حول الموارد والثروات. العناوين الأخرى، منها الأديان، ذريعة. أدخلتُ مادة البلاستيك في أعمالي لإدراكي قوة العلاقة بين المُستهلك والمعركة. البلاستيك مصنوع من النفط، والنفط يُشعل الحروب. تجرَّد الإنسان من الحسِّ وأصبح العالم مُجمَّعاً تجارياً ضخماً. بتبنّي (الكيتش) في الرسم، سجّلتُ موقفي ضدّ تغليب القوة والحلول السريعة على وَضع استراتيجيات السلام. طغى اللون الزهريّ على رسومي مُجسِّداً البلاستيك والعلكة واللامعنى. شكَّل فنّي محاكاة للعبة الباربي بصورتها النمطية وما مثّلته من سطحية وانعدام العمق».

تسلُّل السخرية إلى الموضوع الجدّي محاولةٌ لجَعْل النقاش أقل غرابة (زينة الخليل)

تسلُّل السخرية إلى الموضوع الجدّي محاولةٌ لجَعْل النقاش أقل غرابة. لسنوات واصلت الفنانة تبنّي هذا الأسلوب وبه عرفت. وباندلاع حرب 2006 في لبنان، تحوَّلت إلى تدوين الأحداث، وإنما الرغبة بمواصلة الرسم تأجَّجت: «دوري ناشطةً ومدوّنةً لم يُشبع نهمي. وذات يوم، عشتُ تجربة صوفية لا أملك شرحها. كأنني عدتُ إلى زينة في أفريقيا والرابط بين الوجود والإنسان. البعض يسمّيه النداء الروحي. فجأة، لم يعُد عالم المادة مهماً، وشعرتُ بحبل في داخلي يُقطَع. غمرني الشعور بألم الأرض، فلم أجد منزلاً لي. مسقطا أمي وأبي، كلاهما تألّم بتداعيات الحروب. سمعتُ نداء الأرض: (تعالي لنُشفى معاً!). كأنني كنتُ أتعرّف إلى وجعي من أوجاعها. كان نداء عميقاً. أمضيتُ الوقت في تلمُّس التراب. شعوري بأنني لستُ في منزل؛ لا أنتمي، ولا أعرف مَن أنا، جرَّ فنّي إلى مكان آخر. رسمتُ ولم أدرك ماذا أرسم. أجريتُ مراسم لشفاء الأرض، فأشعلتُ النار من أجلها ورفعتُ الصلاة. سألتُ الطاقة أن تتبدَّل. والأشياء العالقة في الكون أن تتّخذ مجراها. مثل مَن ماتوا بلا دفن لائق، وبلا جنازة ووداعات. طاقة هؤلاء ظلَّت عالقة. لم تحدُث المصالحة بعد الحرب. بزيارتي الأماكن حيث حلَّت مجازر، وإشعالي النار، حَدَث التواصل. كأنني أقول للموتى الذين أرسم أرواحهم بأنني هنا؛ أراكم وأعترف بكم. أنتم منسيّون بجميع الطرق. الدولة لم تعترف بكم، لم تُؤبَّنوا. أنا هنا لأراكم وأكون شاهدة. بهذا بنيتُ اتصالاً فريداً مع لبنان».

طغى اللون الزهريّ مُجسِّداً البلاستيك والعلكة واللامعنى (زينة الخليل)

أرادت لفنّها التصدّي للعنف، فوظَّفت رماد النار التي أقامتها للمراسم مادةً للرسم. أنجزت مجموعات بتلك المادة السوداء ومن الحبر. وبدل الفرشاة، فضَّلت الأقمشة. بالكوفية مثلاً، لمست وحدة الشعوب، فأدخلتها في لوحاتها: «كل حفل شفاء أردتُه لنفسي وللبنان وللشرق الأوسط والكون. غمّستُها بالحبر ورسمتُ بها لنحو 10 سنوات. في الهند، درستُ الروحانيات ولمستُ اختفائي. الرسوم تتحوّل انعكاساً لروحي، كما أنّ روحي تُغذّي فنّي، فيتكاملان تماماً».

وظَّفت رماد النار التي أقامتها لمراسم الشفاء مادةً للرسم (زينة الخليل)

يأتي الألم بوعي مختلف لم يُعهَد من قبل ويتيح النموّ الداخلي. الألم أحياناً يختار المرء؛ يتعرّف إليه. ولا ينتظره. يُناديه ليخطَّ مساره. تقول: «بعد انفجار بيروت عام 2020، شاهدتُ الدخان والتصدُّع. سرتُ على شوارع يفترشها الزجاج. في تلك اللحظة، تجمَّد الزمن كأنه سينما. بحركة بطيئة، رأيتُ انهيار جانب ضخم من سقف منزل، ووجوهاً مُدمَّاة، وهلعاً. فكّرتُ أنها الحياة. كفَّ الوقت عن التحلّي بأي معنى. لمحتُ التقبّل المريع لفكرة أنّ العنف جزء من الوعي الإنساني. هنا شعرتُ بأنني فكرة تأتي وتعبُر. أو لحظة ونَفَس. جسدٌ مُعرَّض لانتهاء تاريخ الصلاحية، وجوهر واحد يُعبِّر عن نفسه بمليارات الطرق. فنّي إعلان للسلام الداخلي ولحقيقة أننا مُنتقلون. ألم الانسلاخ هو الأقسى. في موضع إحساسنا بالانفصال عن الكون، عن الهوية، وعن الفردية؛ تبدأ رحلة الشفاء».