حقائب وزارية نسائية وأزياء مبطنة بأفكار تصرخ بأن المستقبل للمرأة

أجمل التشكيلات في أسبوع باريس للـ«هوت كوتور» ربيع وصيف 2020. كانت تلك التي تلتفت إلى تقاليد وحرفية الماضي. وأكثرها شاعرية تلك التي تحن إلى الخمسينات والستينات من القرن الماضي. أما أكثرها عُمقاً وترفاً فكانت تلك المغزولة بالتفاؤل والأحلام، والمبطنة بأفكار تقدمية وحركات متمردة تعكس أحداثاً سياسية واجتماعية نعيشها في الوقت الحالي، تتجلى في تصدر المرأة الساحة السياسية والفنية. وليس أدل على هذا من حصول عدد كبيرة من النساء على حقائب وزارية ليس في فنلندا أو ألمانيا فحسب كما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، بل في حكومات عربية مثل لبنان والسودان. أمر يُعطي الأمل بمستقبل أفضل حسب العديد من متابعي الموضة. فحكومات تتنفس المشاعر الإنسانية وتحركها العواطف قد تكون مضاداً حيوياً لما يعاني منه العالم حالياً من قساوة وفوضى. ماريا غراتزيا كيوري، مصممة دار «ديور» التي أكدت طوال فترتها في الدار أنها ناشطة نسوية من الطراز الأول ترجمت هذه المشاعر بقولها إن «المشكلة الحقيقية التي نعاني منها كنساء أننا نعتقد أنه ليس لنا الحق في أن نحلم... مع أن العكس صحيح. فنحن نستطيع أن نحقق الحلم والمستحيل». ولكي تزيد من قوة هذه الرسالة كان شعار تشكيلتها، والخلفية التي تهادت أمامها العارضات «ماذا لو حكمت النساء العالم؟». الجواب، على الأقل من وجهة نظر عشاق الموضة وصناعها أنه سيكون أفضل وأجمل بكثير مما هو عليه الآن.
ثلاثة أيام فقط كانت مدة الأسبوع، لكنها كانت تكفي لتقول بأن الموضة قارئة جيدة لعصرها وتحولاته، هذا إذا لم تكن مؤثرة فيه. فخلال هذه الأيام الثلاثة، أكد المصممون أن الزمن تغير تماماً عما كان عليه في الفترة التي يحنون إليها بقوة، ألا وهي الخمسينات. ما لم يتغير أن أزياء الـ«هوت كوتور» لا تزال معقلاً حصيناً للتقنيات المتطورة ومختبراً للأفكار المُبتكرة. الدليل على هذا أن هذا الموسم، جاءت فيه الأحلام لتعكس متطلبات عصر جديد تحكمه التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي وما نتج عنه من احتضان للآخر بكل تنوعه واختلافه. المصمم جيامباتيستا فالي مثلاً قدم تشكيلته في متحف للمرة الثانية، على شكل معرض استرجاعي يحتفل بالزمن الجميل. ما قدمه في المقابل من تصاميم كان يصرخ بالحداثة. قراره تقديم عرضه في قاعة فنية عوض عرض أزياء بالمعنى التقليدي كان يعود إلى رغبته في أن يُبرز جمال الأقمشة وكيف يمكن أن تتحول إلى أداة فنية عندما يتم لفها بطرق مبتكرة. وأضاف أن مهمة «الهوت كوتور» تتلخص في تسليط الضوء على الأفكار الجديدة والأحجام الكبيرة لكن بتوازن يخدم المرأة. وبالفعل لا ينكر المتابع لمعظم العروض أنه كان هناك كبح واضح لأي شطحات أو جموح في الخيال، إذ كانت معظم الاقتراحات راقية بأساسات كلاسيكية تراعي متطلبات امرأة أصبحت مؤثرة ليس في سوق العمل فحسب، بل أيضاً سياسياً واقتصادياً. صحيح أن بعض التطريزات كانت سخية، لكنها كانت أيضاً محسوبة، كما كانت العديد من التصاميم هندسية، لكن بعيدة عن الأشكال «المعمارية» المبالغ فيها. كان هدف أغلبية المصممين منصباً على خلق توازن بين الأشكال الهندسية وجسد المرأة.
فما يعرفه كل مصمم، وربما يعاني منه، أن تقديم الجديد بالمعنى الثوري أصبح عملة نادرة. ليس لشح الأفكار بل لأن كل الأفكار تقريباً استنزفت وجُربت من قبل، الأمر الذي بات يستدعي منهم رش عروضهم ببهارات درامية، إما في الإخراج والديكورات أو في خلق الأحجام والتلاعب بالألوان. كلير وايت كيلر، مصممة دار «جيفنشي» مثلاً، حازت على تغطيات واسعة بفضل فستان الزفاف الذي عرضته الشابة كايا غيربر. تداولته كل وسائل التواصل الاجتماعي المتعطشة للجديد والغريب. فقد وفر صورة مبتكرة ومثيرة في الوقت ذاته، زادت من الاهتمام بالدار كما سلطت الضوء على باقي التشكيلة. وهي تشكيلة مزجت فيها المصممة حبها للورود والأزهار بتقنيات تفصيل «إنجليزية» أضفت على التصاميم صلابة وشاعرية في الوقت ذاته. في المقابل، ارتأت المصممة فرجيني فيار، مصممة دار «شانيل» أن تلعب مرة أخرى على المضمون وعلى رموز الدار ولسان حالها يقول: «إذا لم يكن الشيء مكسوراً فلم تغييره؟». كانت تشكيلة عادية لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن العادي عندما يحمل توقيع «شانيل» لا يفتقد إلى السحر بتاتاً، خصوصاً إذا كان هذا السحر يراعي متطلبات الزبونة أكثر من رغبته في خلق الدراما. هنا أيضاً كان الماضي حاضراً، من خلال تاييرات من التويد مفصلة وفساتين منسدلة على الجسم بشاعرية لا تُحاول كشف مفاتنه من أجل خلق إثارة مؤقتة.
ما يمكن أن يفتقده حضور عروض «شانيل» في الموسمين الأخيرين، ليسا الأناقة أو الرقي، فهذان موجودان بوفرة، لكنه الإخراج فيما يتعلق بالديكورات الباذخة التي كانت تحول «لوغران باليه» إلى وجهات بعيدة، أو شوارع باريسية تحتضن مظاهرات نسوية أو مركزاً ينتصب وسطه صاروخ مستعد للإقلاع في أي لحظة وغيرها. كانت ديكورات فخمة تشد الأنفاس بمجرد دخول «لوغران باليه»، لكن تركيز الدار بعد تسلم فيرجيني فيار مقاليدها، ينصب على الأزياء أولاً وعلى متطلبات زبونة من كل الأعمار والثقافات ثانياً. هذا لا يعني أنها أهملت جانب الإخراج أو تخلت عنه تماماً، بل فقط خففت من غلوائه. اقتصرت هذه المرة على حديقة غناء بكل أنواع الورود والنباتات، شكلت خلفية مريحة للعين ولأزياء تكمن قوتها في بساطتها. فقد عادت فيها فرجيني إلى طفولة غابرييل شانيل، وتحديداً بعد وفاة والدتها في عام 1895، حين أُرسلت هي وأخواتها للعيش في دير «أوبازين»، الواقع جنوب غربي فرنسا. كانت هذه الفترة جد مؤثرة على مخيلة غابرييل ببساطتها التي تصل أحياناً إلى حد التقشف في التفاصيل. والنتيجة التي أبهرت بها المصممة الحضور أن اقتراحاتها لم تكن تحتاج إلى الكثير من التفاصيل لكي تُذكرنا بسحر امرأة «شانيل». فهذه المرأة لم تتغير كثيراً سوى من ناحية أنها تبدو أصغر سناً وأكثر براءة.
ماريا غراتزيا كيوري، مصممة «ديور» في المقابل، لا تزال صامدة ورافعة لراية الأنوثة. والمقصود هنا ليس الأنوثة كما أرساها المؤسس كريستيان ديور في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي فحسب بل أنوثة معاصرة تنسج فصولها من زاوية نسوية معاصرة. فاللافت أن ماريا غراتزيا، ومنذ التحاقها بالدار الفرنسية، وهي تلعب دور المتمردة على المفاهيم التي تعمل على تجريد المرأة من بعض حقوقها المكتسبة والتي ناضلت من أجلها جدتها في العشرينات ثم والدتها في الستينات من القرن الماضي. وبالنتيجة نجحت المصممة في تحقيق المعادلة بين الأنثوي والنسوي، وإن كان المفهوم الأول هو الطاغي على هذه التشكيلة المستوحاة من أميرات يونانيات ومن أساطير الإغريق من خلال تصاميم «التوغا» والضفائر المجدولة حول الصدر أو الأكتاف أو الخصر المشدود، الذي يعتبر لصيقاً بالدار منذ تأسيسها. أما الجانب النسوي، فتجسد في مقولة: «ماذا لو حكمت النساء العالم» وفي الديكور الذي جاء على شكل «رحم امرأة» صممته الفنانة والناشطة النسوية جودي شيكاغو، على أساس أن المرأة معطاء وولادة بطبيعتها. أما كيف انعكس كل هذا على التشكيلة فكان من خلال صورة امرأة تتمتع بالجاه والمكانة الاجتماعية العالية كما يبدو من فساتينها المترفة والمزينة بتفاصيل بخفة الريش، وكأن المصممة تخاف من تقييدها بأي شكل من الأشكال. ساعد على توفير هذه الخفة، الأنامل الناعمة التي تعمل في ورشات «ديور». فهذه الأنامل لها قدرة عجيبة على تجسيد رؤية المصممة وإرث الدار بشكل لا يعلى عليه، خصوصاً أنه كان عليهم، رجالاً ونساءً، تحقيق التوازن بين قصة الماضي الرومانسية كما كتبها السيد كريستيان ديور، وبين جذور مصممتهم الإيطالية المتأثرة بأجواء البحر الأبيض المتوسط من دون أن تنسى عشقها لعصر النهضة وشتى الفنون بشكل عام. كل هذا تجسد من خلال اللعب على التفصيل وتحديد الخصر والأكتاف الناعمة، والأقمشة المترفة التي ساعدت على انسدال فساتين السهرة بسهولة، بحيث تبدو في بعض الإطلالات كما لو أنها مشدودة بحبال رفيعة في صور تحاكي لوحات الفنان بوتشيللي.
ما نجحت فيه ماريا غراتزيا أنها أبرزت قوة المرأة من دون أن تلجأ إلى تصاميم مستوحاة من خزانة الرجل. بالنسبة لها فإن قوة المرأة تكمن بداخلها. رسالة كانت واضحة مع كل خطوة كانت تخطوها العارضات حول المنصة الملتفة، والمكان الذي تعمدت جودي شيكاغو تصميمه على شكل رحم امرأة. كان التعاون مع الفنانة مهما بالنسبة للمصممة، وهو ما اعترفت به بتصريحها أنها ذهبت لزيارتها شخصياً في بيتها في نيو مكسيكو لتطلب التعاون معها. وكانت في غاية السعادة بقبول الفنانة عرضها. طبعا لن تُترجم هذه القضية النسوية والديمقراطية في الأسعار التي لن تكون متاحة لكل النساء. فنحن في موسم الأزياء الراقية التي تتوجه إلى شريحة نخبوية تتمتع بإمكانيات عالية.
بدوره أكد المخضرم جيورجيو أرماني أنه ابن جيله. على الأقل من ناحية نظرته إلى الدور الذي يجب أن يلعبه كمصمم لإبراز جمال المرأة وبث الثقة في نفسها وخطوتها. التشكيلة التي قدمها كانت هدية ثمينة إلى امرأة كلاسيكية تريد أن تضخ إطلالتها بالألوان وبعض البريق. كانت له هو أيضاً رسالة لا تقل قوة عن تلك التي كتبتها ابنة بلده، ماريا غراتزيا كيوري. رسالته كانت تحمل معنى مهم وهو أن من فات قديمه تاه. القديم هنا كانت تقنيات حياكة وتطريز ودباغة قديمة على رأسها «إيكات» لصبغ الأقمشة، والتي تشتهر بها ماليزيا منذ قرون قبل أن تنتشر في باقي العالم، إلى جانب استعماله حرير ميكادو الياباني والكثير من الورود التي تحاكي الطبيعة بألوانها وأشكالها. فهذه كانت مهمة لإضفاء طابع شاعري على تشكيلة مفصلة بأسلوبه المعروف. أما ما نجح فيه جيورجيو أرماني فيكمن في وفائه لأسلوبه وإلى نظرته الكلاسيكية رغم كل التحديات، لكنه لم ينس أن يجعلها تتكلم بلغة أنيقة يعرف أنها ستلمس وتراً حساساً لدى صغيرات السن.
لكن إذا كان ضجيج الألوان هو المطلوب فإن المرأة ستجد بُغيتها بلا محالة في تشكيلة «ميزون مارجيلا»، التي أبدع فيها مصممها جون غاليانو إلى حد القول إنه تفوق على نفسه. استعمل ألوانا بدرجات قوية في تصاميم مستوحاة من «الحقبة الجميلة» «لابيل إيبوك». ولأن غاليانو ليس بورغوازياً ولا يميل إلى أي شيء يمت إلى البورغوازية بصلة، كان لا بد من أن يُفككها بعض الشيء، بأن أضاف إليها «رشة واقعية» لا بد أنها ستفتح حواراً فكرياً بينها وبين زبوناته. ما لا يخفى على أحد أن غاليانو تعلم الدرس جيداً، بعد سنوات طويلة من الجموح الفكري وشطحات الخيال، التي كانت تُلهم وتشد الأنفاس لكنها لا تبيع. لحسن الحظ أنه في السنوات الأخير تعلم متى يتوقف عن الإسهاب في التفاصيل، ومتى يضع نقطة النهاية على كل قطعة، لهذا كان جموحه هنا مدروساً بفنية أكد فيها أنه انصهر مع ثقافة الدار التي التحق بعد «ديور» وأصبح جزءاً منها.
ربما يكون عرض «فالنتينو» هو الوحيد الذي لم ينجح في خلق ذلك الإحساس الغامر بالإعجاب والحب الذي تعودناه منه في المواسم الماضية. صحيح أن عرضه كان في المستوى ويصعب انتقاده، إلا أنه افتقد إلى عنصر المفاجأة ومن ثم فقد شاعريته السابقة.