الحب في مواجهة الوباء

«النسوة اللاتي» لوجدي الكومي

الحب في مواجهة الوباء
TT

الحب في مواجهة الوباء

الحب في مواجهة الوباء

يضع الكاتب الروائي المصري وجدي الكومي بطل روايته «النسوة اللاتي»، الصادرة أخيراً عن دار «سرد»، أمام مهمة مُحددة أوفده إليها رؤساؤه في الأمم المتحدة، حيث يعمل. يقول: «جئت إلى هذا البلد المُطل على المحيط للتنقيب عن قصة حب». ورغم ما يبدو في هذه المهمة من ملامح سينتمالية، فإنها تكشف عن عالم عبثي غاية في التعقيد.
يأخذ الكومي قارئه إلى بلد مُتخيل بعيد، يُطلق عليه «بلد المحيط»، وما إن يبدأ السرد حتى يُدرك القارئ أن هذا البلد البعيد ليس غريباً عنه، وأنه أمام فضاء رمزي يتداول تحت سقفه أبطال الرواية شهاداتهم حول الوباء الذي ضرب بلدهم، وقصة الحب المُنتظرة التي ربما تُنقذهم. ومع مرور الوقت، تتسرب نداءات وشهادات نسوة البلد، تارة هامسة وتارة صارخة، مانحة بطل التقرير خيوطاً جديدة لتتبع قضيته.
ينتمي «جون»، بطل الرواية وصوتها الأول، إلى إدارة الاستشعارات المُبكرة المختصة بدراسة الظواهر العجيبة التي تتسبب في تفشي أوبئة أو أمراض مستعصية أو طواعين بشعة في بلد من البلاد، وما يلزم من إجراءات للحدّ منها وحصارها في بلد المنشأ. ومن هنا، يُمهد لسبب إرساله إلى بلد المحيط الذي تفوح منه روائح الوباء الذي ضرب أهله في مقتل، وجفّف منابع الحب به، وبات مجرد خبر عن قصة حب تتفتح في تلك الأرض القاحلة أمراً يستحق إرسالية تحرٍ من الأمم المتحدة، وممثلها جون.
يجد جون نفسه في حاجة لانهائية للتدوين لإنجاز تقريره. وبين مُشاهدات خاصة ولقاءات تجمعه بأهالي البلد، يتسع هامش تأمل قضيتهم وهو يُدوّن عن الكراهية التي اتسعت في هذه البلد: «مرّت فترة طويلة منذ أن وضعت آخر امرأة في المدينة طفلاً، بينما نشطت بطن الأرض في ابتلاع الناس، مقابل عزوف بطون النساء عن الحبل، تبتلع في رحمها المغدورين، والمقتولين بالمفخّخات، أو ضحايا المواجهات غير المتكافئة، تتضخم المقابر، وتزحف بما تحمله في أحشائها من مقتولين أبرياء أو مجرمين على مناطق الأحياء». يُحاول التفتيش عبر مسارات الرواية الرمزية باستماتة عن قصة الحب تلك التي يمكنها انتشال البلد من الوباء كيلا يتمدد للضفة الأخرى.
وتقع الرواية في 265 صفحة، ويتوزع رُواتها بين عدة أبطال وبطلات يلتقون في مواجهات كاشفة، ويحكون الحكاية ذاتها من وجهة نظرهم المختلفة. وفي ثناياها، تتكشف قسوة مدينتهم المعزولة، وفطرتهم التي دُهست فضربهم الشقاء، وأصبحوا يتبادلون الخيانة والكراهية وهم في طريق تفتيشهم عن شخص يُقال إنه الناجي الوحيد من الوباء، وإنه يحمل بالنسبة لهم آخر أسباب الحياة.
تتشبث الرواية بالكتابة سلاحاً للمواجهة في أوج الأزمة، إذ تنقطع الكهرباء عن المدينة، بينما يتشبث جون بأدوات التدوين لاستكمال تقريره العسر؛ يتعطل اللابتوب، فيملأ الأوراق البيضاء كلها، وحتى الكراتين البُنية المُهملة يكتب عليها، يُواصل عزمه على الكتابة: «انقطعت أخبار العالم الخارجي، كأننا سقطنا في جب، أو كأن العالم ركلنا خارجه، وصار استمراري في تدوين الوقائع ملهاتي الوحيدة للنجاة، حتى بعد نفاد مداد الأقلام، واختراعي وسائل بدائية للكتابة». يجفف جون الفحم ويكتب بغباره، وحتى أقلام الكُحل كتب بها. ومع كل محطة في تقريره، كانت ثمة نسوة في كل ركن في البلاد تنتفض من أجل الخلاص، بعضهن تركن رسائل مُلحّة مكتوبة بأحمر الشفاه من ثلاث كلمات: «كيف جفّفتم الحُب؟».
يصنع المؤلف عالماً بملامح زمنية ومكانية تليق بغرائبية نصه، فيستعين تارة بالتقويم القبطي مؤرخاً لحرب البلاد، وجغرافياً تستمد قاموسها من مفردات صوفية، وأخرى دلالية، فأحياء بلد المحيط المُتخيل تعبر بالسرد بين ميدان الخضراء، وباب الشمس، ومنطقة الترعة الصوفية، وجبل الوليّ، وبلد الشيخ، وكفر الخواجة، وغيرها من دهاليز البلد التي يُسمع فيها أصوات الطلقات، ورائحة البارود، وحركة نسوة تطالب بالثأر، واجتماعات تصل بأهالي المدينة لأحد الأضرحة، ربما لبناء تنظيم يُفتش عن سبب الوباء الغامض الذي جعل حياتهم على منحدر الجحيم.
تلتقط طرف الحكاية «شاهيناز»، التي تصفها الرواية بأنها امرأة مُعمرة غريبة، نصف جميلة نصف شمطاء، عجوز تعدّت المائة من العمر ولا تزال فاتنة كفتاة في العشرين، تبيع الأكفان في الصباح وتبعث لعنتها في المساء، وتعتبر تاريخها الشخصي تأريخاً لنكبة البلد، وكانت هي أول من التقاها مبعوث الأمم المتحدة جون في رحلته الاستكشافية، وصولاً إلى «سين عين»، البطل الخارق الذي نجا من وباء المدينة، أو كما يصفه النص في موضع آخر بالضحية المغلوب على أمره «الرجل الناجي من الوباء المتفشي، كأنه كان في الفضاء حينما ضرب الفيروس نصف سكان المدينة، اقتربت منه، وعشت معه في عُلوه المنتصر، بباب الشمس، بعد إنقاذه في منزله بباب الشوق».
يكشف كل بطل من أبطال الرواية عن جانب من هزيمته الشخصية التي لا يمكن تفادي اشتباكها مع هزيمة البلد كلها، هزيمة تقودهم لدهاليز الجنون، أو كما جاء على لسان الناجي الوحيد في بلد المحيط: «إنها الحرب التي متنا فيها أكثر من مرة، ولم نحيَ أبداً».


مقالات ذات صلة

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب
TT

حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

عتاب حريب
عتاب حريب

في عام 2011 كنت على موعد للحصول على فيزا لإقامة معرض في نورث كارولينا بدعوة من جامعة دافيدسون وحصلت على الفيزا في آخر يوم قبل إغلاق السفارة بدمشق.

سافرت عام 2012 ورجعت إلى دمشق، وكانت المظاهرات والاحتجاجات تعم المدن السورية والقرى وأنا أعيش في دمشق أحاول أن أساعد بجهد شخصي أبناء الريف المتضرر والمحاصر، فهناك الكثير من المهنيين والمعارف الذين تضرروا وبحاجة لكثير من الطعام والمستلزمات. كنت أحملها بسيارتي وأحمل معها روحي وأمضي وفي رأسي سيناريوهات العالم كلها. أحضر أجوبة على كل احتمالات الحواجز والشبيحة وعناصر الأمن، عما كنت أكتب بحس ساخر على فيس بوك وأناهض الفساد والقتل. أنا امرأة متمردة بطبعي على الظلم وأمشي عكس التيار، أعشق الحرية والسفر لأعود إلى بلدي بشوق أكثر. هناك تحديات كثيرة كانت أمامنا في بلد كل زاوية فيها حاجز أمني وشبيحة. كانت رعاية ملائكية تنقذني دوماً من رش للرصاص على سيارتي في حاجز حرستا ووضع عبوة ناسفة قرب سيارتي أمام بيتي بعد أن نزلت منها، وتصويب البندقية عليَّ في تأبين باسل شحادة. هربت بأعجوبة. هذه ليست بطولات أرويها ولكن كان حماساً وواجباً علي. ويوماً كنت على حدود لبنان للسفر إلى المغرب لإقامة معرض. أخذوني من الحدود وبدأت التحقيقات معي عن كتاباتي على صفحتي بفيسبوك. وانتهى التحقيق بالتوقيع على ورقة بعدم كتابة أي شيء. وفي اليوم التالي أُلغي منع السفر. وعندما عدت استدعوني مرة أخرى. قلت للمحقق ضاحكة لم أكتب شي مثل ماوعدتكم، فقال لي: رسمتِ. لقد شاهد لوحة فيها قطعة ممزقة من كلمة الثورة التي على الجريدة، فأجبته باستغباء: هذه الجريدة الوطنية ليش ممنوع نحطها، فقال لي: أعرف ما تريدين أن تقولي مع هذه الشخبرة. يصف لوحاتي بـ«الشخابير».

ثم قال لي: نريدك أن ترسمي لنا صورة المعلم، فقلت له: أنا أرسم مناظر وزهوراً لا أرسم حيوانات ولا بشراً واسأل عني مرة باسل الأسد فقد طلب مني ومن مجموعة من الفنانين رسم أحصنته فرفضت لأني لا أعرف، فأجابني: لا أنت فنانة قديرة رح ترسميها فقلت له سأحاول سأطلب من أحد يجيد رسم البورتريه، فقال لي: لا أنت يجب أن ترسميها وتوقعي عليها اسمك.

بقيت أشهراً أماطل ويسألني دائماً على الهاتف: ما خلصتِ، ألاقي الأعذار كل مرة بالكهرباء والتدفئة وعدم جفاف الألوان بالبرد. كنت أنام وأصحو في رعب وسخرية أيضاً. أحياناً أفكر أن أرسم حماراً وفوقه أرسم صورته بألوان تزال بالماء وأرسلها بعد أن أخرج من البلد مع رسالة «امسح الصورة تجد المعلم». المهم كان هذا مسلياً لي في أوقات القلق والتوتر إلى أن قدمت استقالتي من عملي وطلبت من الأمن موافقة أمنية للسفر لمرة واحدة قبل انتهاء الفيزا، وحصلت عليها.

قبل يومين من تحرير حلب كنت في حالة شوق مكبوت لسوريا، وأتمنى بشدةٍ العودة. وكنت أحاول أن أقنع نفسي بأن وضعي في أميركا جيد وصرت مواطنة أميركية وعندي جواز سفر مثل جناحين أطير به بين البلدان بكل سلاسة. وأقنعت نفسي من أول يوم أتيت إلى شيكاغو أنني سأبدأ حياة جديدة وتناسيت بيتي بالشام ومرسمي ولوحاتي وذكرياتي وأصدقائي الذين لم يبق منهم إلا القليل في دمشق. أخوتي قاطعتهم لاختلافي معهم في المبدأ فقد كانوا يقفون مع النظام.

وزاد فقداني لابني الذي قُتل عام 2014 كرهاً لتلك البلاد التي لفظتنا ولم تقدم لنا إلا العنف والنبذ والقتل والتهميش. أنا قدمت الكثير لسوريا، وكنت أقوم بأعمال تطوعية مع الأطفال والشباب لتأجيج روح الفن والحب والحياة والحرية. كنت أعيش مع أجيال متتابعة في عملي معلمة فنون في مدارس سوريا ومعاهدها وجامعاتها.

تحرير حلب كان فرحاً مشوباً بالخوف... أتابع ليل نهار كل وسائل التواصل. لم أعد أنام. عاد الأدرنالين للصعود مثل بدايات الثورة عام 2011 والترقب والحماس، وكنت أقول لنفسي إن لم يصلوا إلى دمشق لن أفرح. كنت ذلك اليوم أبكي، ولم أخرج إلى الشارع لأن دموعي كانت لا تتوقف.

فجأة الحلم عاد، واليأس اختفى، وصار عنا مستقبل مختلف. صار عندي وطن أعود إليه مع أبنائي وأحفادي. صار عندي أمل أعود لأعرف أين قتل ابني وأين رفاته، أعود لأقبل بناته حفيداتي اللاتي لم أرهن منذ سافرت.

* فنانة تشكيلية