حضور موسيقي وبصري مُتجدد لأم كلثوم في ذكرى رحيلها الـ45

عبر حفلات غنائية ومعارض تشكيلية مميزة

غناؤها على مسرح الأولمبيا أشهر المسارح على الإطلاق كان ضمن أحد حفلتين أحيتهما «الست» خارج العالم العربي (غيتي)
غناؤها على مسرح الأولمبيا أشهر المسارح على الإطلاق كان ضمن أحد حفلتين أحيتهما «الست» خارج العالم العربي (غيتي)
TT

حضور موسيقي وبصري مُتجدد لأم كلثوم في ذكرى رحيلها الـ45

غناؤها على مسرح الأولمبيا أشهر المسارح على الإطلاق كان ضمن أحد حفلتين أحيتهما «الست» خارج العالم العربي (غيتي)
غناؤها على مسرح الأولمبيا أشهر المسارح على الإطلاق كان ضمن أحد حفلتين أحيتهما «الست» خارج العالم العربي (غيتي)

«دارت الأيام»... وحلّت ذكرى جديدة لرحيل كوكب الشرق أم كلثوم، لتُجدد في ذكراها الـ45 حضورها الراسخ وجدارتها بصفتها أيقونة عابرة للأجيال.
واحتفلت مصر بذكرى أم كلثوم، التي تُوفيت في الثالث من فبراير (شباط) عام 1975، عبر فعاليات عدة، أبرزها احتفالية أقامتها دار الأوبرا المصرية تحت قيادة المايسترو سليم سحاب، مساء الجمعة الماضية.
ويُجاوز الاحتفاء بفاطمة البلتاجي، الشهيرة بأم كلثوم، أكثر من مجرد يوم ذكراها، فما زال التعاطي مع تراثها الغنائي في أوجه، وهو ما يبدو من خلال إعادة غناء أعمالها، وتسمية المقاهي باسمها، وحتى تخصيص حفل شهري لها «كلثوميات» بالاستعانة بمسرح العرائس في «ساقية الصاوي» بمصر، الذي يعيد للأذهان نوستالجيا حفلها الشهري الذي اعتادت القيام به يوم الخميس الأول من كل شهر، وحتى تقديمها على المسرح بتنقية «الهولوغرام» كما حدث في حفل بدبي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي الذي لاقى نجاحاً لافتاً، وجميعها محاولات للاقتراب واستدعاء أم كلثوم عبر توظيف التقنيات التراثية والحديثة كافة.
وما زالت قاعات الفن التشكيلي تُرسخ لأيقونة أم كلثوم بصرياً عبر التفاعل معها كسيمفونية ثرية، بدءاً من وقفتها على المسرح، وحتى المنديل الذي كان يُصاحبها في وصلات غنائها الطويلة، وحتى فرقتها المصاحبة، وشموخ وقفتها أمام الجمهور، وقد برز ذلك في الكثير من أعمال الفنانين التشكيليين في معارض حديثة تعاملوا معها كأيقونة بصرية غنية، أحدثها معرض الفنان المصري المقيم في كندا وجيه يسى، الذي تأملها كحالة مسرحية غنائية، والفنان الإيطالي كارمينيه كارتولانو الذي قدم في مشروعه أم كلثوم كواحدة من أيقونات الفن في جدارية مُتخيلة في معرضه المقام حالياً بالقاهرة، وكذلك معرض الفنان التشكيلي شريف الجلاد الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «أم كلثوم لها وجوه كثيرة جداً، فهي فنانة عظيمة ورمز كبير للوطنية، وفي آخر لوحة لي لها أبرزت حالة من الحوار الداخلي والخفي بينها وبين الملحن محمد القصبجي، من خلال انسجام القصبجي الواضح وهو يعزف على العود وراء أم كلثوم».
ويقول الناقد الفني المصري محمود قاسم لـ«الشرق الأوسط»، إن الحديث عن بقاء أم كلثوم هو حديث عن كيان فني مُتفرد، فهي نموذج للمرأة العصامية التي ولدت في أسرة ريفية، والتقت الشيخ أبو العلا الذي كان أول من اقترب بها من عالم الشعر، حتى أصبحت تقرض الشعر، ومع دخولها عالم الغناء، اقتربت كذلك من محبي الشعر، منهم محمد القصبجي، ورياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، واستمرت في تثقيف نفسها، وحتى عندما عملت في السينما أدّت أدواراً تاريخية مثل «وداد» و«عايدة» وهو الفيلم الموسيقي المستوحى من أوبرا عايدة من إنتاج عام 1942 التي ألّف لها القصبجي الفصل الأول من موسيقاه، والسنباطي الفصل الثاني منه.
ويضيف قاسم «اقتربت أم كلثوم بالجمهور العربي لغناء قصائد صعبة في أعمال خالدة مثل (الأطلال)، و(أراك عصي الدمع) لأبي فراس الحمداني، علاوة على ما تركته من رصيد في الأغاني الوطنية بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكذلك دورها الشهير في دعم الجهود الحربية من خلال تخصيص ريع حفلاتها لدعمه بعد هزيمة 1967».
وكانت أم كلثوم قد رفعت بعد هزيمة مصر في 1967 شعار «الفن من أجل المجهود الحربي»، وقالت في تصريح شهير لها في ذاك الوقت «لن يغفل لي جفن وشعب مصر يشعر بالهزيمة»، وكان من أشهر أغنياتها في تلك الفترة «إنّا فدائيون» و«حق بلادك».
وفي مواكبة لذكرى أم كلثوم طرحت بعض دور النشر خَصماً خاصاً على بعض الكتب التي تتناول سيرة أم كلثوم بمعرض القاهرة للكتاب الذي يسدل الستار على فعالياته اليوم، أبرزها كتاب الدكتور فكري صالح «أم كلثوم وأنا...5 شارع أبو الفدا»، ويضم فيه صالح، أستاذ الهندسة الطبية بكندا، سلسلة من الحوارات التي أجراها مع سيدة الغناء العربي عندما كان طالباً في كلية الهندسة، وأسس وقتها بالكلية «جمعية أم كلثوم»، وكان يذهب لمحاورتها في منزلها الكائن في 5 شارع أبو الفدا بالزمالك، ثم ينشر الحوارات في حلقات متتالية بمجلة الحائط بالكلية، في الفترة من عام 1963 وحتى 1969.
وكان من بين أسئلة الكتاب لأم كلثوم سؤالها عما إذا كانت تشعر بالوحدة أحياناً، فقالت: «كثيراً ما أشعر بالوِحدة... أشعر بها عندما يكون شخص عزيز عليّ بعيداً عني لأي سبب، وأشعر بالوِحدة والحنين لأبي وأمي وإخوتي وأصدقائي الذين توفاهم الله، وساعات أشعر بالوِحدة وأنا أُغني أمام الجمهور، وأكثر أغنية كنت أشعر بالوِحدة وأنا أُغنيها هي (سهران لوحدي)».
يذكر، أن فاطمة (ام كلثوم) وُلدت لأسرة ريفية بسيطة بقرية طماي الزهايرة في مركز السنبلاوين، محافظة الدقهلية، وكان والدها الشيخ إبراهيم، إمام ومؤذن مسجد القرية، ووالدتها فاطمة المليجي تعمل ربّة منزل. واصطحبها والدها معه في حفلات الإنشاد التي كان يحييها في قريته والقرى المجاورة، وذهبت إلى كتاب القرية وحفظت القرآن الكريم كاملاً.
وبعد أن تعرف والدها على الشيخين زكريا أحمد، وأبو العلا محمد اللذين أتيا إلى السنبلاوين لإحياء ليالي رمضان، واكتشفا موهبتها ألحّا عليه بالانتقال إلى القاهرة ومعه أم كلثوم في عام 1922، وهو ما تحقق بالفعل ليكتب لها فصلاً جديداً من التألق في سماء أكبر عاصمة عربية، وكانت الخطوة الأولى في مشوارها الفني، عندما أحيت ليلة الإسراء والمعراج بقصر عز الدين يكن باشا، وأعطتها سيدة القصر خاتماً ذهبياً وتلقت أم كلثوم 3 جنيهات أجراً لها.
وبعد حياة فنية حافلة بالإنجازات والرحلات والحفلات، وكذلك الإشاعات، لم تتمكن أم كلثوم ذات مرة في بداية سبعينات القرن الماضي من غناء أغنية «أوقاتي بتحلو معاك وحياتي بتكمل برضاك»، أثناء بروفات الأغنية، بسبب التهابات حادة بالكلى، ثم سافرت إلى لندن لتلقي العلاج، وانقطعت عن تقديم الحفلات، وكانت أغنية «ليلة حب»، آخر ما غنته وذلك في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1972، وبعد تدهور حالتها توفيت يوم الاثنين 3 فبراير 1975 عند الرابعة مساءً بسبب قصور القلب عن عمر يناهز 76 عاماً في القاهرة، وتم تشييع جنازتها في مسجد عمر مكرم بميدان التحرير (وسط القاهرة)،
وتعد جنازتها من أكبر الجنازات في العالم؛ إذ يُقدر عدد المشيعين بنحو مليوني شخص، وتسبب موتها في حالة حزن في البلاد، عبّرت عنه وسائل الإعلام المصرية والعربية، لكن رغم مرور كل تلك السنوات على رحيلها؛ فإن «كوكب الشرق» لم تغب أبداً عن الظهور، فهي لا تزال حاضرة بقوة في مقاهي وشوارع ومطاعم وإذاعات القاهرة، ولم يستطع أي فنان أو فنانة إزاحتها من المكانة المرموقة التي وصلت إليها بموهبتها الفذة وصوتها القوي الفريد.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)