سيرفانتس مرّ بالجزائر... ترك اسمه حيث سجن وخرج بـ«دونكيشوت»

الرّوائي عبد الرزاق بوكبة قال لـ«الشرق الأوسط»: كانت فكرتنا تحويل المغارة إلى مقهى ثقافي وبقيت حُلما

دهليز مغارة سيرفانتس المظلم (الشرق الأوسط)
دهليز مغارة سيرفانتس المظلم (الشرق الأوسط)
TT

سيرفانتس مرّ بالجزائر... ترك اسمه حيث سجن وخرج بـ«دونكيشوت»

دهليز مغارة سيرفانتس المظلم (الشرق الأوسط)
دهليز مغارة سيرفانتس المظلم (الشرق الأوسط)

قلة من الجزائريين يعرفون حكاية مغارة سيرفانتس الواقعة في مرتفع غابي بحي محمد بلوزداد الشعبي، التي ارتبط اسمها باسم الأديب الإسباني ميغيل سيرفانتس، صاحب رواية دونكيشوت، لأنّه أوى إليها حين هروبه من الأسر.
تقع المغارة في جوف غابة جبلية، يعبرها طريق وحيد يتلوى بمنعطفات حادة ومسالك فرعية بعضها أدراج حجرية والبعض الآخر ترابية، يسلكها سكان متفرقون في الغابة. يبدأ الطريق من مقام الشهيد أعالي الغابة نزولاً إلى المتحف الوطني للفنون الجميلة الذي افتتح عام 1897. ويتابع الطريق بمنعطف حاد إلى معهد باستور الذي أنشئ عام 1894. وهو أكبر مخبر لصنع اللقاحات والأمصال في أفريقيا. وبالمنعطف الأخير إلى حديقة التجارب الحامة، التي تغطس قدميها في مياه البحر الأبيض المتوسط، وهي ثالث أقدم حديقة في العالم، تأسست عام 1832. وبجوارها المكتبة الوطنية، تأسست عام 1835.
وسط هذه البانوراما المدهشة تظهر مغارة سيرفانتس في سفح الجبل كخال على خد الغابة، فتحة مظلمة، تكونت عبر الزمن بفعل الطبيعة، الصواعد والنوازل، مغلقة بباب عبارة عن شبكة قضبان حديدية خشنة، تعطي دلالتها من دون عناء السجن، وندرك أنّ سيرفانتس مرّ من هنا من عام 1575 إلى 1580. خمس سنوات كان أسير قرصان عثماني لخمس سنوات، ربط حريته بفدية مرتفعة.
تجولت «الشرق الأوسط» حول مغارة سيرفانتس، مجموعة شباب في العشرينيات، بعضهم في الجامعة، يرتدون ملابس رياضية، وقصات شعرهم عصرية، سألتهم «الشرق الأوسط»، عمّا يعرفون عن المغارة واسمها؟ كان ردهم «ما نعرف والو... اسبنيولي وهادا ما كان، اسألينا عن ريال مدريد أو نادي برشلونة نهدرو بالزاف (نتكلم كثيراً)، سيرفانتس نسمعو بيه، قالوا عاش هنا بالكازما، منعرفوش كم من عام». وفي محاولة البحث عمن يعرف شيئاً أدق عن مغارة سيرفانتس الأديب الإسباني الشهير، كانت الصدفة جميلة أن التقيت الشاعر والروائي عبد الرزاق بوكبة ليتحدث عن الإهمال الذي لحق بمعلم تاريخي عظيم، كان يمكن استغلاله سياحياً ويدر دخلاً للدولة بالعملة الصعبة، بوكبة صاحب فكرة المقاهي الثقافية في الجزائر، قال: «كانت لدينا فكرة أن تتحوّل مغارة سيرفانتس إلى مقهى ثقافي، تنظم فيها أنشطة ثقافية متكاملة، مثل فن الرسم والموسيقى والشعر والقصة بأنواعها، كما هو الحال في المقاهي الثقافية الولائية، ولكن للأسف بقيت الفكرة حُلماً، وما زالت مغارة سيرفانتس مهملة مهمشة في المشهد الثقافي، عذراً سيرفانتس لم نقدرك حق قدرك».
- محاولات خجولة لترميم المغارة
بقيت مغارة سيرفانتس لسنوات طويلة مهملة، أشبه «بالمزبلة»، تُرمى نفايات الحي قربها، وهي معلم أثري ذاع صيته في العالم عبر رواية سيرفانتس «دونكيشوت دو لاماشا» أو «دون كيخوتي» كما تلفظ بالإسبانية، وهو عمل روائي كان فتحاً كبيراً في تطور بنية الرواية آنذاك، فما زالت عملاً خالداً في الساحة الأدبية العالمية حتى اليوم.
أول محاولة لترميم مغارة سيرفانتس كانت عام 2006. بمبادرة السفارة الإسبانية في الجزائر والتعاون بين السلطات المحلية، وتزامن مع «مهرجان الأدب المهاجر»، بمبادرة الروائي أمين الزاوي بصفته مدبر المكتبة الوطنية آنذاك. شارك فيه زهاء 70 شاعراً وروائياً من بلدان عربية، يقيمون في أوروبا والأميركتين، وأقيمت أمسية شعرية في مغارة سيرفانتس «ليلة الشعر العربي في ضيافة سيرفانتس» دخلنا المغارة كانت باردة كجو شتائي مقارنة بالخارج الجو صيفي حار، كان تساؤل الحضور كيف تحمل سيرفانتس تلك البرودة خمس سنوات؟
وتوقفت عملية الترميم حتى عام 2016، احتفاء بالذكرى 400 لوفاة سيرفانتس (1547 ـ 1616)، شرعت بلدية محمد بلوزداد في تنظيف المغارة بإزالة نفايات الحي المتراكمة بجوارها، وسيجتها بقضبان حديدية على الجدار الخارجي لتبقى مرئية للمارة، ووضعت باباً من الحديد الشبكي، يقفل بسلسلة حديدية خشنة، وعينت حارساً يشرف على المغارة ويستقبل الزوار. وبهذا لم تعد المغارة مأوى للمشردين ومتعاطي المخدرات والكحول. لكن عندما زارت «الشرق الأوسط» مغارة سيرفانتس كان الباب الخارجي مفتوحاً، «ولم أجد الحارس، الذي قابلته قبل عامين. فلا أحد في المكان».
أول ما يصادف الزائر لمغارة سيرفانتس لافتة على الباب الخارجي «مغارة سيرفانتس»، من ثمّ بضع درجات إلى ساحة صغيرة أمام المغارة، أقيم فيها نصب تذكاري وجدارية سيراميك كتب عليها بالعربية والفرنسية فقرة من حكاية الأسر الفصل 41. أقيمتا بمناسبة الذكرى 400 لوفاة سيرفانتس بمبادرة من السفارة الإسبانية في الجزائر وبالتعاون مع السلطات المحلية. المغارة هي عبارة عن دهليز مظلم في الجبل، يبلغ طولها نحو سبعة أمتار، وعرضها نحو مترين، فيها تجاويف تشكلت بفعل الطبيعة، وحول المغارة أشجار معمرة، فالعابر بالشارع أمامها لا ينتبه لها لولا اللوحة المرفوعة على عمود حديدي يشبه أعمدة الكهرباء. وهذه ليست المغارة الوحيدة في الجزائر، بل تنتشر المغارات والكهوف على طول السلاسل الجبلية في الشمال الجزائري، بعضها تحف فنية بفعل الصواعد والنوازل، إلا أنّ مغارة حي محمد بلوزداد ذاع صيتها لأنّها ارتبطت بالأديب الإسباني العالمي ميغيل سرفانتس. وقد قضى فيها سنوات الأسر العصيبة في محاولاته الهروب من الأسر.
- حكاية أسر سيرفانتس
كان سيرفانتس وأخوه رودريغو على متن سفينة متجهين من نابولي الإيطالية إلى إسبانيا ليزور الأهل ويقضي رفقتهم إجازة منحتها له الحكومة الإسبانية، فجأة وجد نفسه في قبضة القرصان العثماني أرناؤوط مامي ومعه مجموعة قراصنة، وعندما فتشه وجد معه خطابات التوصيات من دون جوان النمساوي ودوق سيسا غونثالو فرنانديث دي كوردوبا، جعلهم يعتقدون أنّه شخص مهم جداً، فطمع القرصان مامي بفدية لإطلاق سراحه، وطلب 500 وحدة ذهبية. تلك المحنة الصادمة شحنته بما يكفي من الإلهام ليبدع بعد سنوات من فك أسره بكتابة روايته «دونكيشوت دو لامانشا». بقي سيرفانتس سجيناً في الجزائر خلال الفترة 1575 - 1580. وقضى فترة منها في المغارة، منتظراً دفع الفدية 500 وحدة ذهبية، كانت ثروة آنذاك.
- محاولات هرب سيرفانتس من السجن
لم يستكن سيرفانتس للسجن، فقد حاول الهروب أربع مرات - حسب سيرته - وباءت كلها بالفشل بسبب وشاية من أحد السجناء المتفقين معه على الهروب، وفي كل مرة كان يتحمل المسؤولية وحده، وينفي اشتراك أحد معه لحمايتهم. وكانت والدة سيرفانتس تعمل جاهدة لجمع الفدية لإنقاذ ابنيها من الأسر.
في عام 1577 أعدت الأم صفقة التبادل لتحرير ابنيها الأسيرين بمبلغ أقل من الفدية، اعتبره القرصان مامي غير كافٍ، فأطلق سراح أخاه رودريغو وبقي سيرفانتس.
في عام 1580 زار الجزائر الآباء الثالوثيون، كانوا يتبعون نظام تحرير الأسرى، فعرضوا فدية لإطلاق سرح سيرفانتس، ساهمت الأم بجمع جزء منها، وفك أسره ليعود إلى عائلته في بلدته دانية الإسبانية.
- حسرة المثقفين الجزائريين على المغارة
يتحسر المثقفون الجزائريون كلما مرّوا من أمام مغارة سيرفانتس، المعلم التاريخي، الذي عرف العالم الجزائر من رائعة سيرفانتس وهو يروي سنوات أسره فيها. دعوا السلطات إلى ضرورة الاهتمام بالمغارة الأثرية وقيمتها الأدبية والمعنوية، فقد خلدت ذكريات مرور أديب عالمي من هذا المكان.
ومع تعاقب الوزراء على وزارة الثقافة، لم تهتم بترميم مغارة سيرفانتس وتهيئتها لتكون مركزاً ثقافياً تاريخياً، حسب الكاتب جمال غلاب، الذي صدر له عام 2006 كتب «سيرفانتس في الحامة»، واعتبر أنّ الأديب العالمي سيرفانتس ما زال حياً على الصعيد الأدبي، وقد خلّد الجزائر في رائعته «دون كيشوت» التي عرفت أكثر من 800 طبعة وترجمت إلى أغلب لغات العالم.
يتعشم المثقفون الجزائريون بالاهتمام الذي يليق بقامة سيرفانتس من وزارة الثقافة الجديدة، بأن تصبح مزاراً للمثقفين والسياح، فإنّها تزيد من جمالية المشهد البانورامي للمنطقة فضلاً عن الفائدة للسكان من النشاط السياحي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)