أزياء العمل... تخاصم البدلات الرسمية وربطات العنق لصالح تصاميم «سبور»

كان للتطور التكنولوجي دور بارز في تغيير طبيعة وبيئة العمل. أصبح بالإمكان إدارة شركات عن بُعد أو عقد اجتماع مع أفراد تفصل بينهم محيطات. لم يقتصر الأمر على تطور التكنولوجيا وامتد إلى الفكرة النمطية لأزياء العمل، وذلك أن الموضة أيضاً في سباق مستمر لتلبي التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. أزياء الرجل أصبحت تحتاج إلى تغييرات تتماشى مع ظروفه الحياتية والعملية، وبالتالي تحتاج إلى توفير راحة الموظف بدلاً من تقييده بزي نمطي.
أسابيع الموضة الرجالية لخريف وشتاء 2020 غردت في الاتجاه نفسه، إذ مزجت بين الوظيفية والعملية.
ورغم عدم وجود استطلاع قاطع فإن ثمة توافقا على أن أكثر الرجال لا يميلون لربطة العنق، حتى وإن كانت تمنحهم الوجاهة الاجتماعية. كذلك فإن دراسة نشرتها المجلة الطبية «علم الأعصاب» في يونيو (حزيران) 2018 تشير إلى أن ربطة العنق «تخفض تدفق الدم إلى المخ»، وهو ما يجعلها خيارا مُرا تماما مثل الكعب العالِي بالنسبة للمرأة، لا سيما إذا كانت شرطاً للحصول على وظيفة الأحلام. يقول منسق الأزياء المصري سعيد رمزي لـ«الشرق الأوسط»، إن «نمط الحياة في العشر سنوات الماضية تغير كثيرا، بحيث لم تعد البدلة الرسمية وربطة العنق الخيار الوحيد، فالرجل العصري يبحث عن الحرية في حياته بما في ذلك أزياؤه. فهو يريدها أن توازن بين الأناقة والعملية».
ويضيف رمزي «في الأربعينات والخمسينات كانت البدلة الرسمية وربطة العنق خيار لا غنى عنه، سواء في العمل أو الحياة الشخصية، وهو ما كان مناسبا لأسلوب الحياة وقتذاك، أما الآن فالشوارع مزدحمة، وسواء كان الرجل يقود سيارته أو يستقل وسيلة مواصلات عامة، ما لا يشجعه على ارتداء بدلة بكامل تفاصيلها وإكسسواراتها».
وهذا ما انتبهت له دور الأزياء الكبيرة التي عدلت استراتيجية التعامل مع زبون يتوق إلى أزياء الشارع المتقنة والفاخرة. ما قامت به أنها خففت من الخياطة الراقية لصالح مزيد من أزياء الشارع السبور، دار الأزياء الفرنسية لويس فيتون، عينت قبل عامين تقريباً، المصمم الأميركي فيرجيل أبلوه كمدير فني لأزياء الرجال، وهو الذي صنع اسمه مع علامة «أوف وايت» التي تحتضن الأزياء السبور. تراجع الإقبال على البدلة الرسمية لا خلاف عليه إذن. ووفق ما نقلت «الغارديان»، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عن دراسة لشركة «كانتار» للأبحاث التسويقية، فقد «انخفضت مبيعات البدلة الرسمية بنسبة 7 في المائة، أما مبيعات ربطة العنق فتراجعت بنسبة 6 في المائة، فيما انخفضت مبيعات السترات الرسمية بـ10 في المائة».
يعلق مصمم البدلات الرجالية، أحمد حمدي، أن هذا التراجع أصبح «حقيقة لا يمكن إنكارها، فقد تراجعت لصالح الزي السبور. حتى الوظائف التي ما زالت تضع قيوداً على معايير زي العمل أصبحت أكثر تقبلاً للسترة الرسمية مع ملحقات أكثر عصرية. أما البدلة الكاملة بشكلها الرسمي، فاقتصرت في السنوات الماضية على المناسبات مثل الأفراح أو السجاد الأحمر فيما يخص النجوم».
الجانب الأزمة الاقتصادي ليس وحده من يحدد الاتجاه السبور الجديد، فهناك عامل آخر يتمثل في استقطاب جيل رافض للقيود، بدليل القرار الذي أصدره البنك الأميركي غولدمان ساكس، في مارس (آذار) العام الماضي، بتخفيف صرامة الزي الرسمي ليصبح أكثر مرونة. أشار البنك في بيان داخلي نشرته صحيفة «بي بي سي» إلى أن «الطبيعة المتغيرة لأماكن العمل بشكل عام تتجه لصالح بيئة أكثر مرونة ما يحتم الحد من صرامة قواعد زي الموظفين لتصبح مريحة أكثر». وقبل ذلك، في عام 2017 خفف البنك نفسه من قواعد الزي الخاص بقسم التكنولوجيا، مبررا ذلك برغبته في «جذب المواهب الشابة»، ما يجعلنا أمام حقيقة أن الجيل الواعد لن يقبل وظيفة تلزمه بربطة عنق وتحرمه من حريته وراحته.
يُذكر أن بنوكا أخرى مثل جي بي مورغان، اتخذت خطوات مماثلة في وقت لاحق، بيد أن البنوك تسعى إلى محاكاة قوانين الزي التي تعتمدها شركات التكنولوجيا مثل غوغل وفيسبوك.
هناك رأي يدّعي أن الشركات الناشئة ورواد الأعمال هم أحد صُنّاع هذا التغيير. ظهور كيانات رائدة وضع كبريات الشركات في مأزق، فهناك منافس عصري ظهر في الأفق، لا يغير لعبة الاقتصاد فحسب، بينما يضع مفهوما جديدا، أكثر واقعية للموظف الناجح. مثال ذلك مؤسس «فيسبوك»، مارك زوكربيرغ، 36 عاماً، هو واحد من أهم رواد الأعمال في العالم، نجح في بناء أضخم منصة للتواصل الاجتماعي، ورغم ذلك لم يتخل عن القمصان القطنية والجينز. حين مَثُل زوكربيرغ ليُدلي بشهادته أمام الكونغرس، كانت المرة الأولى التي نراه معتمداً بدلة رسمية كاملة وربطة عنق مُحكمة، وهو ما يعطي انطباعاً أن الجيل الشاب ربما لا يختار هذا الزي المُقيّد إلا إذا كان مجبراً على ذلك.
استوعبت بيئة العمل العصرية نظام الموظف برخصة حرة، وكما يبدو من الاسم هو موظف حر يمكن أن يمارس مهامه بكفاءة من أريكة منزله أو داخل مقهى، حتى أن هناك بعض المقاهي توفر منطقة خاصة للراغبين في العمل «ووركينج سبايس»، نجاح هذا المفهوم وضع الشركات أمام مهارات شابة تفرض شروطها.
يدعم منسق الأزياء سعيد رمزي هذ الرأي، ويقول: «نحن أمام جيل بفكر مختلف، صناعة الموضة عليها أن تلبي احتياجاته، وتقدم له السهل الممتنع في زي مريح ومُهندم». ويدلل على ذلك التطور الذي شهدته موضة الأزياء الرجالية في الأعوام القريبة الماضية، رغم أن العادة جرت على أن أزياء الرجال تتغير ببطء مقارنة بأزياء النساء إلا أن ما شهده ممشى عروض الأزياء الرجالية في المواسم الأخيرة يقول غير ذلك.
يتفق مصمم البدلات الرجالية أحمد حمدي مع هذا الرأي، لا سيما أنه مصمم شاب يكتب اسمه في عالم تصميم البدلات الرجالية، قائلا: «هناك تحول في عالم موضة الرجال يسير باتجاه استيعاب أزياء الشارع، وهو ما أحاول استيعابه كمصمم. المعادلة أصبحت تقديم الفاخر والمريح، لذلك أميل في تصاميمي إلى الخامات المطاطة والتصاميم المفصلة الغنية بالملحقات ليصبح أمام الرجل خيارات تبدأ باعتماد البدلة الكاملة إن لزم الأمر، أو الاكتفاء بالسترة تارة، والصدرية تارة أخرى، وهكذا».
وسواء كان الاختيار هي البدلة أو السترة أو الملابس السبور، تبقى القاعدة الأساسية هي الراحة، لا سيما أن يوم الرجل لا ينتهي مع انقضاء ساعات دوام العمل. فمنهم من يتجهون بعد ذلك إلى صالة رياضية أو لقاء الأصدقاء، لهذا كان من الضروري أن تلبي الأزياء كل النشاطات والتحديات اليومية. وقال رمزي: «بعض أصدقائي تفرض عليهم ظروف العمل اعتماد البدلة الرسمية، ثم ينهون الدوام بخلع السترة وربطة العنق واستبدالها بواسطة كنزة على الكتف مع قميص مريح، هذا هو الرجل العصري».
وينصح بضرورة استيعاب دور الأزياء لطبيعة حياة الرجل العصري من جانب، وأن يعرف كل رجل أن يقتني ما يناسبه ويحقق راحته من جانب آخر، لأنه اندثر مفهوم الزبون المتلقي الذي يقبل كل ما تقدمه الموضة ليحل محله رجل واعٍ لاحتياجاته.