«يوم الإبداع اللبناني» لاستعادة السلمية والابتعاد عن العنف

يشارك فيه نحو 100 فنان تشكيلي ومطربون يدعمون الثورة

رسوم الغرافيتي تغطي جدران بيروت وتوثق ثورة «لبنان ينتفض»
رسوم الغرافيتي تغطي جدران بيروت وتوثق ثورة «لبنان ينتفض»
TT

«يوم الإبداع اللبناني» لاستعادة السلمية والابتعاد عن العنف

رسوم الغرافيتي تغطي جدران بيروت وتوثق ثورة «لبنان ينتفض»
رسوم الغرافيتي تغطي جدران بيروت وتوثق ثورة «لبنان ينتفض»

انطلاقاً من رفضهم لطابع العنف الذي يرادف الحراك المدني في الأيام الأخيرة، قرر الشبان المشاركون في «لبنان ينتفض» تنظيم «يوم الإبداع اللبناني» في 2 فبراير (شباط) المقبل.
وسيحاولون في هذا الحدث الذي يبدأ صباحاً وينتهي عند منتصف الليل استعادة وجه الثورة السلمية التي اشتهروا به منذ بداياتها. فما سرقه منهم بعض المندسين، من خلال أعمال عنف لا يحبذونها، ورغم أنّها تنمّ عن غضب الشارع تجاه السلطة، سيتدارسون الأمر من خلال يوم فني طويل يبرز مواهب إبداعية في الرسم والنحت والغرافيتي والغناء. «هذه المواهب التي رأينا أعمالها تزين ساحات الثورة بدءاً من بيروت مرورا بطرابلس وصيدا وصور، هي من ساهمت في طبع الثورة بوجهها السلمي المعروفة به عبر العالم». يقول جورج يونس الذي يقف وراء تنفيذ هذا الحدث في وسط بيروت. ويضيف في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «هي مبادرة فنية بامتياز راودتني منذ فترة بعد أن لاحظت هذا الكم الهائل من الفنانين المشاركين فيها والذين استطاعت الثورة أن تمنحهم الفرصة لإبراز جمالية رؤيتهم وتطلعاتهم المستقبلية المتعلقة بلبنان».
فالثورة في لبنان لفتت الرأي العام العالمي بطابعها السلمي. ونالت الصور الفوتوغرافية ورسوم الغرافيتي والمنحوتات والأغاني التي واكبتها حيّزاً لا يستهان به من وسائل الإعلام الغربية التي سلّطت الضوء عليها وخصصت لها مساحات في برامجها التلفزيونية.
«لقد كان هؤلاء الفنانون يحدثون الفرق على الأرض في كل مرة يقفون ليرسموا على حائط أو يغنوا عبر الميكروفون. وأنا شخصيا كنت أراقب هذه المشهدية بإعجاب كبير، إذ كان الناس يتجمهرون حولهم يمدونهم بالمساعدة ويمسكون لهم أدوات الرسم أو النحت كي يشاركوهم مواهبهم ويخففوا عنهم في آن». يوضح جورج يونس في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط». ويضيف: «كل ذلك ولّد لدي فكرة إقامة (يوم الإبداع اللبناني). فهو سيكون بمثابة لفتة تكريمية لتلك المواهب من ناحية، واستعادة للوجه السلمي الحقيقي للتحركات من ناحية ثانية».
صور فوتوغرافية التقطها أصحابها بواسطة طائرات الـ«درون» في مدن لبنانية مختلفة إضافة إلى رسوم غرافيتي غطت جدران وأزقة وسط بيروت، ومنحوتات برع فنانوها بترجمة أفكار الثورة بأسلوب سلمي ستجتمع في هذا الحدث. ويتضمن برنامج الحفل عروضاً مباشرة لفنانين قرروا إنجاز رسوم جديدة لهم مباشرة أمام الحضور بواسطة الريشة أو بتقنية الرمل والفحم. وفي «قرية الثورة» التي سيتم بناؤها خصيصاً للمناسبة من خيم وصالات تندرج في خانة البيوت الجاهزة سيتسنى لزوارها إلقاء نظرة على أشهر أعمال نحو 100 من فناني الثورة في مجال الرسم وغيره.
«إن عامل الطقس والتقلبات التي يشهدها المناخ في هذا الفصل دفعتنا للجوء إلى هذه الصالات المفبركة التي قدّمها لنا مجاناً أحد المتبرعين». يؤكد يونس في معرض حديثه.
وسيفتتح الحفل بعرضين مباشرين لرسامين معروفين ويلحقهما عروض غناء لفرقتي «كورال الفيحاء» من طرابلس و«الخيال» التابعة لمدرسة موسيقى إلياس الرحباني في منطقة الشمال. ومن الفنانين الذين سيشاركون ويشرفون على الحفل الغنائي الذي يستضيفه الحدث، المايسترو اللبناني العالمي جمال أبو الحسن وأستاذ الموسيقى وديع أبي رعد.
«سنوجد في ساحة رياض الصلح حيث يقام الحدث ونتوزع على مربعات فنية لتشكل (بازلاً) فنياً. وابتداء من الثامنة صباحا سنستكمل التحضيرات التي يلحقها مباشرة عمل الفنانين. وفي الثانية بعد الظهر نبدأ في استقبال الزوار لتنطلق عند الخامسة بعد الظهر النشاطات الفنية التي تؤلف برنامج الحفل». يوضح رجل الأعمال اللبناني جورج يونس الذي ينظم الحدث بفعل تعاطيه المباشر مع الثوار على الأرض. فمن خلال اتصالات قام بها مع عدد من مدارس فنية وأكاديميات استطاع تأمين عدد كبير من المواهب الفنية المشاركة في «يوم الإبداع اللبناني».
وعن المطربين المشاركين في «يوم الإبداع اللبناني» يرد: «هناك أسماء كبيرة تشارك معنا في هذا اليوم ولا أستطيع ذكرها قبل موعد الحفل إلى حين التأكد من حضورها مباشرة على الأرض كي لا تتعرض لأي ضغوطات تثنيها عن المشاركة».
ويشير جورج يونس إلى أنّ هناك اتصالات يجريها مع محافظة بيروت وقوى الأمن الداخلي لتأمين الإجراءات الأمنية المطلوبة، التي تواكب عادة هذا النوع من الحفلات في الهواء الطلق وضمن مساحات واسعة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)