«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز (7): آلام ألمودوفار تحصد 7 «غويات»

احتمالات الفوز بأوسكار أفضل فيلم تميل صوب «1917»

فوز أنطونيو بانديراس بجائزة غوبا عن «ألم ومجد»
فوز أنطونيو بانديراس بجائزة غوبا عن «ألم ومجد»
TT

«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز (7): آلام ألمودوفار تحصد 7 «غويات»

فوز أنطونيو بانديراس بجائزة غوبا عن «ألم ومجد»
فوز أنطونيو بانديراس بجائزة غوبا عن «ألم ومجد»

إنه حقاً موسم الجوائز. وها هي تهطل على الفائزين بها في كل مكان ومع كل مناسبة سينمائية. مثل مطر يبدأ رذاذاً ثم يشتد انهماراً بدأ الموسم بجوائز «غولدن غلوبس» وجوائز مؤسسات نقدية أميركية وعالمية، ثم ازداد تنوّعاً وتعدداً وما زال حتى هذا الأسبوع، قبل نحو عشرين يوماً من حفل الأوسكار المقبل.
وهذه بعض العناوين البارزة في هذا المجال:
> مدير التصوير روجر ديكنز هو من فاز قبل يومين (ليل الجمعة الماضي) بجائزة أفضل مدير تصوير لعام 2019 وذلك عن عمله في فيلم «1917». وهذه هي خامس مرّة يفوز بها ديكنز بهذه الجائزة الفنية التي توزعها «جمعية مديري التصوير الأميركية» كل سنة فقد نالها عن «ذا شوشانك ردمشن» و«الرجل الذي لم يكن هناك» و«سكايفول» ثم «بلايد رَنر 2049» قبل سنتين.
> مساء أول من أمس (السبت) تم توزيع جوائز «غويا» الرابعة والثلاثين، وهي الجوائز الموازية إسبانياً لجوائز «الأوسكار» الأميركية فحقق فيلم «ألم ومجد» (المرشح لأوسكار أفضل فيلم عالمي) سبعة انتصارات: هو أفضل فيلم إسباني، ومخرجه بدرو ألمودوفار هو أفضل مخرج. أنطونيو بانديراس (الذي لعب البطولة في هذه الدراما الشخصية) فاز بجائزة أفضل ممثل كما فاز الفيلم ذاته بجوائز أفضل موسيقى وأفضل توليف (مونتاج) وأفضل ممثلة مساندة (جوليتا سيرانو).
> في الليلة ذاتها، وفي حفلة آخر من حفلات لوس أنجليس العامرة، أعلنت جوائز «جمعية المخرجين الأميركية» فمنحت «1917» أصواتها ليفوز بذلك بالجائزة الثمينة التي قد تفتح له الطريق أمام إحدى جوائز الأوسكار أو عدد منها.
هذه المناسبة شهدت منافسة شديدة بين الأفلام المرشحة. لجانب «1917» كان هناك «الآيرلندي» لمارتن سكورسيزي و«طفيلي» لبونغ دجون هو و«ذات مرّة في هوليوود» لكونتِن تارنتينو، و«جوجو رابِت» لتايكا وايتيتي وكلها خسرت رهاناتها. لم يفت المخرج البريطاني سام مندس أن يذكر في كلمة قبوله الجائزة، منافسيه فقال:
«أشكر كونتن تارنتينو على تحقيق فيلم مليء بالحب لتلك الفترة ولتلك الشخصيات وللأفلام» وأشكر بونغ دجون هو لصنعه أفضل فيلم شاهدته في حياتي حول ماذا يعني أن تكون فقيراً. أشكر تايكا وايتيتي لفيلمه الذي برهن أن التاريخ يمكن سرده بحكمة ومرح. طبعاً أشكر ماتن سكورسيزي الذي وضع كل شيء على الطاولة في ذلك المكان المقفر حيث تنتظر لشخصياته الخلاص. إنه ماستر».
هذه بعض الجوائز التي احتشدت خلال الأيام الثلاثة الماضية لجانب أخرى لا تٌنسى ولو أنها تمر تحت رادار معظم الصحافة غير المتخصصة مثل جائزة «جمعية سينما أوديو» التي منحت «فورد ضد فيراري» جائزتها لهذا العام ومثل جائزة «آني» لسينما الأنيميشن التي منحت فيلم «كلاوس» سبع جوائز بينها جائزة أفضل فيلم، ومثل مهرجان سانتا باربرا الذي فاز فيه «ابن صائد الطيور» لرتشارد هوبرت بجائزة الجمهور.
- صعود وهبوط
هذه الجوائز والأفلام الفائزة بها تشبه فقاعات الماء المغلية بانتظار إسدال الستار على الموسم خلال حفلة الأوسكار التي ستتم في التاسع من الشهر المقبل. والمعاني المستجدة من كل ذلك تتعدد على نحو كبير يشمل كل تلك الأقسام والمسابقات التي يجمعها الأوسكار تحت مظلته.
الحال أن كل هذه الجوائز المسبقة للأوسكار تزيد من دراية المقترعين لهذه الجائزة الكبرى وتؤثر عليهم على أكثر من نحو.
يؤكد ذلك تقدم وتراجع الأفلام في سباقها كما حال سباق السيارات مثلاً. فحتى أسابيع قليلة خلت بدا أن «طفيلي» يقود الأفلام التسعة المرشّحة لأوسكار أفضل فيلم. بعده مباشرة ارتفعت نغمة احتمال فوز «حكاية زواج» وقبلهما كان الرهان كبيراً على «الآيرلندي» من دون أن ينقطع الحديث عن ذلك الفرس الأسود «جوجو رابِت». الآن يبدو «1917» هو الفيلم الأكثر ترجيحاً.
في سباق المخرجين وبعد ارتفاع، ثم هبوط، أسهم كونتن تارنتينو ومارتن سكورسيزي عاد الحديث حول تود فيليبس صاحب «جوكر» ولم ينقطع عن بونغ دجون هو «طفيلي» والآن، أي منذ فوز «1917» بجوائز التصوير والإخراج يرتفع اسم سام مندِز.
كذلك يرتفع أكثر فأكثر اسم واكين فينكس عن «جوكر» واسم أنطونيو بانديراس عن «ألم ومجد» ويتراجع الحديث عن أدام درايفر («حكاية زواج») وليوناردو ديكابريو («ذات مرة في هوليوود»).
الحديث عن الممثلات يضع الاحتمالات تحت ضوء مختلف. من البداية حامت الشبهات فوق رينيه زلويغر عن «جودي» وتبعثرت حول الباقيات: تشارليز ثيرون («بومشل») وسكارلت جوهانسن («حكاية زواج») وسينثيا إريفو («هارييت») وساوريس رونان («نساء صغيرات»).
والواقع أن هناك الكثير مما يمكن إلقاء الضوء عليه معززاً بالاحتمالات وببعض الدلائل. على سبيل المثال نجد أن «طفيلي» الذي يتحدث عن عائلة فقيرة تتاح لها فرصة العمل لدى عائلة ثرية إذا ما كذّبت وادعت أنه لا قرابة بين أفرادها، يشبه بضعة أفلام من الأمس لم تحتو على ممثلين مرشحين للأوسكار. آخر هذه الأفلام كان «سلامدوغ مليونير» سنة 2009 الذي قاد بطولته ممثل هندي لم يكن معروفاً لأحد حينها هو دف باتل. لم يتم ترشيحه بين عداد الممثلين لكن «سلامدوغ مليونير» ذاته فاز بأوسكار أفضل فيلم. ليس أنه من الشروط أن يدخل أي فيلم أكثر من جائزة رئيسية لكن غالبية الأفلام التي تندرج في سباق الأوسكار تفضي إلى دخول من فيها إلى سباقات أخرى كالإخراج والتمثيل والتصوير والكتابة.
«طفيلي» هذه السنة لا يقف وحده في خانة الأفلام التي لا ممثلين لديه يدلفون في سباق التمثيل. هذا حال «جوجو رابِت» و«1917» و«فورد ضد فيراري» أيضاً. الحال مقلوب بالنسبة لمعظم الممثلين والممثلات: أنطونيو بانديراس لاعب أساسي اليوم في ترشيح الممثلين لأوسكار 2020 عن «ألم ومجد» المرشح كأفضل فيلم عالمي (أو أجنبي كما كان أسمه السابق). واكين فينكس عن «جوكر» المدرج في عداد الأفلام المتسابقة كذلك حال ليوناردو ديكابريو وجوناثان برايس وأدام درايفز.
في خانة الممثلات فإن كل المشتركات (ثيرون، زلويغر، جوهانسن، رونان، إريفو) لديهن أفلام في السباق الأساسي (أفضل فيلم) باستثناء سينثيا إريفو عن «هارييت».
- احتمالات سام مندِس
«1917» في الواقع يبرز بين الأعمال المرشحة لأفضل فيلم أكثر مما فعل لحين قوزه قبل أسبوع بجوائز «نقابة المنتجين». تعزيز حظوظ هذا الفيلم الحربي في الأوسكار ليست مبنية فقط على استحقاقه وجودته بل أيضاً على حقيقة أن عدد المنتمين إلى نقابة المنتجين لا يقل كثيراً عن عدد المنتمين إلى أكاديمية العلوم والفنون السينمائية موزعة الأوسكار (نحو 8 آلاف في النقابة مقابل 9 آلاف في الأكاديمية).
بالتالي الفيلم الفائز في جوائز النقابة غالباً ما ينتهي فائزاً بجائزة الأوسكار. وهذا كان الحال في السنوات العشر الأخيرة باستثناء مرتين.
المرّة الأولى كانت عندما منحت «نقابة المنتجين الأميركية» جائزتها لفيلم The Big Short سنة 1917 بينما اختار الأوسكار فيلم «سبوتلايت» لمنحه جائزته. المرّة الثانية قبل ثلاث سنوات: «لا لا لاند» فاز بجائزة النقابة لكنه خسر أمام «مونلايت» على منصة الأوسكار.
على أن احتمال فوز «1917» بأوسكار أفضل فيلم وأوسكار أفضل مخرج أقوى من المثالين المذكورين في هذا الإطار. السبب هو أن الأفلام الأخرى التي لا نجوم مرشحين فيها لجوائز التمثيل (تحديداً «طفيلي» و«فورد ضد فيراري») لديها مشاكل أخرى مهمّة قد تحول دون نيل أوسكار أفضل فيلم.
حالة «طفيلي» تشبه حالة «روما» في العام الماضي عندما نال ألفونسو كوارون أوسكار أفضل مخرج، لكنه لم ينل أوسكار أفضل فيلم. هذا يمكن له أن يتكرر، بل ومن المرجح أن يتكرر هذا العام بناء على حقيقة أخرى وهي أن كل فيلم غير أميركي تم انتدابه لدخول قائمة الترشيحات الأميركية لم يفز بأوسكار أفضل فيلم بل تم تحبيذ فيلم أميركي عليه.
بالنسبة لهذا الفيلم ولفيلم جيمس مانغولد «فورد ضد فيراري» فإن هناك 11 فيلماً فقط في تاريخ الأوسكار فازت بأوسكار أفضل فيلم من دون أن يكون لديها ترشيحات أساسية أخرى ومنها «قلب شجاع» (1995) و«سيد الخواتم: عودة الملك» لبيتر جاكسون (2003) كما «سلامدوغ مليونير» كما ذكرنا.
أهمية وجود ممثلين مرشّحين عن الأفلام المتنافسة للأوسكار لا يمكن التقليل منها. هناك 8469 عضواً مقترعاً في أكاديمية العلوم والفنون السينمائية بينهم 1324 ممثلاً وممثلة. لكن، وكما في الحالات المذكورة أعلاه، هناك اختراقات قد تسحب بساط الممتنعين من الممثلين عن منح أصواتهم لفيلم خال من الممثلين والممثلات المرشحين من بينها حقيقة النجاح الكبير الذي ما زال فيلم سام مندِس يحققه تجارياً. لقد لحق بقطار الترشيحات في آخر لحظة، لكنه حضر في الوقت المناسب ليؤدي ظهوره بين الروّاد وبالحجم الكبير الذي طالما تم تقديره من قِبل المقترعين.
هذا كله من الدوافع التي تجعل هذا الناقد يتوقع لفيلم «1917» خطف الأوسكار عنوة عن باقي منافسيه... بالإضافة إلى حقيقة أنه فيلم بالغ الجودة وجديد في كيفية معالجته لحكاية قوامها شخصان لديهما رسالة ينقلانها من جبهة إلى أخرى قبل فوات الأوان.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)